مضى ما يقارب السنة على حراك اجتماعي جديد الصيغة، قد نختلف في تحليل دوافعه وأهدافه، لكن الإنصاف يقتضي الاعتراف بالجانب الإبداعي في شكله والنضج المواطناتي الذي كان يحمله. حملة المقاطعة كانت بكل امتياز لحظة فاصلة في تاريخ نضال المواطن العادي لممارسة مواطنته بشكل سليم وبيّن الأثر، لحظة تبعث للفاعلين السياسي والاقتصادي كمّا من الرسائل الجِدّية التي لا يمكن أن يتعامى عاقل عن فحواها، ببساطة لأنها تعلن ميلاد مواطن مختلف عن ذلك الذي الفته غارقا في فردانيته، عازفا عن السياسة التي فقدت كل قيمة لها في حياته من كثرة الخذلان. حملة المقاطعة وبغض النّظر عن تفاصيلها كانت لوحة وعي شعبي بقيمة الذّات لا يمكن إنكار ما خلّفته من أثر في الواقع وفي النّفوس.

هذه الكلمات محاولة إعادة قراءة لمسار الحملة من مسافة بعيدة بعيون مواطن لا يحمل إلّا رأي المستهلك المتتبع للأحداث. ولنبدأ من نقطة الانطلاقة التي يقف عندها الكثيرون من أهل الأسئلة التّخوينية الباحثة عن إلغاء العفوية في كل شيء، والمنكبة على قراءة الاختيارات والخطوات بغرض إيجاد روابط تنسف كل نبل قد يختفي بين التفاصيل، فتمارس رياضيتها المعتادة بالقفز بعيدا عن أصل الإشكاليات وجوهرها. القصة ببساطة أن المواطن المستهلك لكل شيء، بما فيها الخطاب السياسي والإصلاحات بما قد تحمل من عيوب، والقرارات بما قد تخفيه من حيف، قرر أن يختبر قدرته على حشد التضامن للتعبير عن رأي بشكل سلمي. المنطلق كان أنّ الصيغة يجب ان تتجاوز الصدام، والمطالب يجب أن تكون واضحة بيّنة، والأهداف يجب أن تسطّر بفائق العناية. إختار دعاة الحملة منتجات هي من المهيمنة على السوق في تخصصاتها، ولأننا جميعا نعرف نصيحة التعامل مع حركات الحميّة حين يقابلك جمعٌ من الأعداء يفتك بما تملك من شجاعة بقوة عدده وتراص صفه، والتي تقتضي التسليم لحتميّة الهزيمة مع إختيار خصم وحيد من الجماعة تترك عليه أثر آلامك رسالة منحوتة تنذر الجميع بأن مقاومتك حية رغم تسليمك بقوة العدد، فقد إختار صناع حملة المقاطعة ثلاثة أنواع من السّلع الحاضرة بشكل يومي في حياة المغربي و ارتأت إختيار شركة واحدة لا غير لكلّ منتج، يوجّه إليها سهم المقاطعة لتكون عبرة لكل منافسيها. قد لا يخلوا الاختيار من أسس سياسية او ضغائن ذات طبائع شخصية، لكنها لا تعني إلا أهلها. الأكيد أن العفوية كانت الطابع العام السائد الذي دعمه منطق الاختيارات وبساطة الصيغة.

التّفاعل الشعبي مع الحملة فاق كلّ التّوقعات. المواطن البسيط وجد في شكلها فرصة للمشاركة في تعبير عن تضرّره المباشر من المبالغة في الأسعار وهوامش الرّبح، دون الاضطرار لاستثمار أي مجهود خارج إطار خياراته اليوميّة كمستهلك متصرّف بحرّية في ميزانيته اليوميّة. هذا التّفاعل ينسف نظريّة عزوف المواطن عن المشاركة في صناعة الحياة العامة، بل ويمنح معنى واضحا لكلّ ما نسميه عزوفا يتجلى في الامتعاض وغياب الثقة. لقد فرض المستهلك رأيه ببساطة لم تملك أي سلطة الوقوف أمامها ولا امتصاص زخمها، وفرض واقع وعيه بقيمة رأيه وحقيقة نضجه كمواطن. المشهد هذا حضي بتضامن عربي جعل شعوب عربيّة في دول كثيرة تقلّد حملة المقاطعة المغربيّة التي نالت تتبعا إعلاميّا عربيا واسعا، ونالت إعجابا لصيغتها الحضارية الرّاقية التي ترجمت نضجا مغربيا يستحق الاحترام. أوّل رسائل حملة المقاطعة كانت دون شكّ، أنّ نضج المواطن المغربي حقيقي، هو حامل لرأي وفكر قادر على المشاركة بفعالية في تذبير شأنه العام إن توفّرت الظّروف المثالية لذلك.

الردّ الإقتصادي لم يكن في مستوى الحدث، حيث تذبذبت ردود فعله بين تهكّم وتقليل وتخوين، تحوّل إلى اعتذار أو صمت في إنتظار نهاية الزوبعة. ما حصل كان مؤسفا بالنّظر لإختلاف طرق تعامل الشّركات المعنية مع الحملة، ففي الوقت الذي اتجهت شركة المنتجات الحليبية إلى الاعتذار عن تصريحات أطرها المتهوّرة، ثم فتح باب الحوار المباشر مع المستهلك للإيجاد أرضية حلّ للأزمة، بقيادة مباشرة من إدارتها الفرنسية التي تستحق مهنيتها كلّ التّقدير، ساد صمت الشركات الوطنية المعنية بالحملة في إعتماد تام على قدرة مرور الزمن في إخماد وهج المقاطعة. هذا الإختلاف في ردود الفعل يعكس تفاوتا خطيرا في فكر التّعامل مع المستهلك بين الشركات الوطنيّة والأجنبية، بين الصمت والحوار، وبين التّجاهل واقتراح الحلول. ما قامت به شركة دانون في ترجمة احترامها للمستهلك عبر التواصل ثم الحوار المتبوع بحلول عمليّة غيّرت الأسعار يستحق في نظري كلّ الشكر والتّنويه.   

التّفاعل السّياسي في معناه الحزبي كان كالعادة مخيّبا للأمل. فلا يليق التماس العذر لصمت غالبيّته بذريعة البعد عن عالم الإقتصاد الذي لا يمكن فصل تذبيره عن العمل السّياسي، كما لا يمكن المرور دون ملاحظة بعض التصريحات التي حملت من السّباب للمتعاطفين مع الحملة ما لا تقبله أخلاق الممارسة السّياسية. لكنّ الفشل في التّجاوب مع المقاطعة كشكل احتجاجي يبقى متناسقا مع بؤس الممارسة السّياسية للأسف، والذي ألفنا رؤيته في شكل التّعامل الحكومي مع مختلف الحركات المطلبية وفي عجز الأحزاب السياسية عن تأطير قاعدة واسعة من المواطنين. حملة المقاطعة أكدت أننا ربّما نعيش مرحلة من انقطاع الوصل بين غالبية المواطنين ومن يقدمون أنفسهم نخبة سياسية، بما يفتح الساحة أمام مبادرات عفوية لا تأطير حقيقي لها غير نفاذ صبر الكثيرين في وجه تجاهل بات غير مستساغ.  فما فائدة السياسة إن لم تكن مساعدة المواطن لكسب حياة تحمل ما يحتاجه من كرامة إجتماعية؟ وما معنى الحكامة إن لم تفلح في كبح جماح الأسعار وفرض الرقابة على المنافسة؟ هذه الخلاصة تحيلنا على ضرورة مستعجلة وملحة لبروز عروض سياسية جديدة قادرة على الاستماع لعمق الرسائل التي تحملها احتجاجات المواطنين، وترجمتها إلى برامج حقيقية تناسب ذكاء المغاربة وتحتضن قدراتهم الإبداعية وتعطّشهم لحياة أفضل. لا يفوتنا هنا أن ننوه بخطوة إخراج مجلس المنافسة للوجود، في إنتظار لعبه للدّور المنوط به علّه يغني المستهلك عن حراك جديد في أشكال أخرى.

حملة المقاطعة المغربية كانت ثورة للمستهلك، هدفها فرض وجوده في معادلة إختيار الأسعار وصيانة الجودة. المهنيّة تقتضي التجاوب معها عبر تفاعل مباشر مع المواطنين، أساسه تواصل اقتصادي يضعهم في صلب العمليّة الإنتاجية. والحكمة تفرض الانتباه لإبداع عفوي يخلق أشكال احتجاجية جديدة، تتجاوز مستوى العرض السياسي الذي تقدمّه معظم الأحزاب، وتفوق رغم غياب تأطيرها النقابات والجمعيات في قدرتها على الحشد والتّصعيد المطلبي.