في الوقت الذي بنت فيه المجتمعات العربية آمالاً نحو التغيير الديمقراطي، ظهرت متغيرات جيوسياسية ، غيرت المعادلة وأجلت مطالب الشعوب، بل أدخلتها في متاهات لم تضعها الحركات الإحتجاجية في أجنداتها أثناء رسم خارطة الإحتجاج ، من بينها إنتاج التطرف الذي أعتبر آلية سياسية لتحوير الحراك العربي عن مساره الصحيح، و”بلقنة” المجتمعات العربية على أساس ديني، قبلي وعرقي سعيا لتفتيتها .

رغم اختلاف التعريفات التي تناولت مفهوم التطرف ، حسب المواقع الإيديولوجية والسياسية، إلا أنَّ أغلبها عرفته “بالغلو والإسراف أو الشطط ، بعيدًا عن الإعتدال والوسطية في تبني أفكار ما، واعتبارها هي المالكة للحقيقة، لتصبح بالتالي “دوغما” لا تقبل الجدال والنقاش”.

فالتطرف لا يرتبط أساساً بالإيديولوجية الدينية ، بل يمكن أن يكون لصيقاً أيضاً بـأغلب المرجعيات السائدة كالماركسية والقومية والليبرالية و غيرها… 

في خضم التحولات الجيوسياسية التي عاشتها الدول العربية بعد الحراك، ظهرت أبرز تجليات إنتاج التطرف من خلال ظهور ما بات يعرف “بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “ ( داعش) ، وإطلاق دعواتها للإنضمام إلى التنظيم الإرهابي، سعيا لبناء دولة الخلافة المزعومة.                                              

فبغض النظر عن حقيقة هذا التنظيم، ( داعش ) ومن وراءه ، فقد استغل البيئة الخصبة لإنتاج التطرف، هذه البيئة المتسمة بنسبة تعليم متدنٍّ جداً في أغلب الدول العربية، تركتها الأنظمة الحاكمة منذ فترة ما بعد مرحلة  الإستقلال ، كان لها أثر سلبي على المجتمعات العربية، وبنياتها المرجعية و الفكرية .              

ومن جهة أخرى ، ولفهم أكثر جذور إنتاج التطرف عامة والديني بشكلٍ خاص يمكن العودة إلى التنشئة الاجتماعية عند الطفل بالفهم ” الدوركايمي”، والذي يعرفها هذا السوسيولوجي ( إيميل دوركايم ) الفرنسي “بالفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة، التي لم تصبح بعد ناضجة أو مؤهلة للحياة الاجتماعية، وموضوعها إثارة وتنمية عددٍ من الإستعدادات الجسدية والفكرية والأخلاقية عند الطفل، والتي يتطلبها المجتمع السياسي في مجمله”.                              

هذه التنشئة الاجتماعية  تتسم بالإعاقة  في البيئة العربية ، و ذلك عبر زرع نمط فهم يتسم بتملك الحقيقة والإطلاقية . والمقرراتُ التربوية في السلك الأولي بالخصوص خير مثالٍ على ذلك، فما معنى أن تدرَّس لطفل في سنته السادسة مفاهيم وعبارات دينية .. كيوم الحشر، وعذاب القبر.. وقتل الكفار… والمغضوب عليهم… والظالين.. و بدون تقديم تبريرات و تفسيرات وربط هذه المفاهيم بسياقاتها وهو لا يزال برعما؟ فكيف لهذا الطفل أن يكون معتدلاً مستقبلاً، ويقبل بالإختلاف، ويتسامح مع الجميع وهو قد تربى على هذه الشاكلة ؟             

وفي نفس السياق يمكن اعتبار الوضع الاجتماعي، والفوارق الطبقية بالخصوص أيضا “مكيانيزما” مساعداً على إنتاج التطرف، فأغلب الحركات الدينية المتطرفة، والتي تستعمل الوازع الديني في التعبئة والحشد تتجه إلى الأحياء الصفيحية وهوامش المدن، حيث تجد ضالتها، فأعضاء التنظيمات الإرهابية لــ 16 ماي في المغرب مثلا جلهم ينتمون إلى أحياء صفيحية ، نفس الشيء أيضا يمكن إسقاطه على بعض الملتحقين بتنظيم “داعش” في سوريا والعراق.

ليست “الميكانيزمات” الداخلية السالفة الذكر المنتجة للتطرف كافية للإحاطة بالموضوع ، بل هناك “ميكاينزما” أخر يحمل طابعاً خارجياً، ويتسم بنوع من الواقعية ، خاصة إن أرجأنا مسألة التطرف للتحليل السياسي، والتوازنات الجيو استراتيجية، يتجلى، أي: المكيانيزم، في إقدام القوى الدولية الكبرى على لعب ورقة بثِّ التطرف، وزرع ثقافته، وذلك لتسهيل “بلقنة” الدول والمجتمعات العربية، وبالتالي التحكم فيها سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً.