نحو باراديكم جديد للفكر العربي الإسلامي..
يعيش العالم العربي الإسلامي منذ عقود طويلة على إيقاع انحباس فكري حاد بين ″الحداثيين″ و″المحافظين″ تدور رحاه حول الإسلام كشريعة هل يصلح مصدرا للقوانين الحديثة؟
آراء أخرى
والحال أن هذه الأزمة الفكرية هي نقاش مفتعل ومشكل مغلوط un faux-problème من طرف مثقفين ومفكرين وسياسيين مغلوطين – على حد تعبير المحلل السياسي الاستراتيجي الفرنسي Pascal Boniface في كتابه les intellectuels faussaires – في مجتمع غارق في المغالطات الفكرية والثقافية والسياسية لا علاقة له بماضي المسلمين وتاريخهم الممتد لما يزيد عن 12 قرنا من الوجود الحضاري.
وقد تولد عن هذا ″التنافر المعرفي″ في العقلية العربية الإسلامية نوع من ″الفصام الاجتماعي″ يمكن اختزال أعراضه في الصورة المجازية التالية :
– إسلام بلا مسلمين ومسلمون بلا إسلام!
ولا حاجة للتذكير بأن أكبر دليل على زيف هذه النزالات والمطاحنات الفكرية هو واقع المسلمين أنفسهم:
– لا زالت دار لقمان على حالها!
من التخلف بالطبع وعلى جميع المستويات!
لنستعرض الآن التناقضات الرئيسية التي وقع فيها التيار الحداثي وهو يشن حربه الضروس ضد الإسلام شريعة.
1 – استعمال المناهج الحديثة في العلوم الإنسانية لدراسة مفاهيم الحضارة والثقافة العربية الإسلامية هو أكبر خطأ منهجي ليس فقط لأنه لا يراعي الشروط التاريخية بل أيضا الموطن الطبيعي والأصلي الذي نشأت فيه هذه المفاهيم. Approches a-historiques et décontextualisées
لنعط مثالا معكوسا لما نقول :
– هل يمكن دراسة الفكر الغربي بمصطلحات علم الكلام وأساليبه البلاغية؟
وإذن فجميع الإسقاطات الليبرالية أو الاشتراكية أو الماركسية أو الوجودية أو البنيوية…إلخ إنما هي نوع من قرصنة للمفاهيم خارج إطارها التاريخي ونشر للفوضى في مباني الثقافة العربية الإسلامية ومعانيها.
2 – دليل آخر على الخطأ المنهجي السابق من العلوم الرياضية :
– لكل دالة رياضية مجال تعريفها الخاص بها حيث يمكن تطبيق قواعدها والتي لا تسري على مجال تعريف آخر. وبالمثل فالعقل الغربي له مجال اشتغاله الخاص به ودالته الخاصة به (تكونت عبر سيرورة تاريخية لا يتسع المقال لتفصيلها) في انفصال تام عن مجال اشتغال العقل العربي الإسلامي ودالته.
وكمثال فقط، فالعقل الغربي تحليلي تركيبي فيم العقل العربي معياري يختزل الأشياء في قيمتها.
(راجع بهذا الخصوص تكوين العقل العربي للجابري عن المركز الثقافي العربي الطبعة4 لسنة 1991 صفحة 32 )
3 – الحداثيون والمحافظون هم رعايا كيان حديث زرعه الاستعمار الغربي في جسد العالم العربي الإسلامي. يطلق على هذا الكيان في أدبيات العلوم السياسية، الدولة.
وجوهر هذا الكيان وماهيته وغايته في كلمة واحدة هو الدولة ولا شيء سوى الدولة.
بتعبير آخر، لا شيء يعلو فوق الدولة إلا الدولة، أو ″لا إله إلا الدولة″ ( الدولة المستحيلة لوائل حلاق صفحة 74 ترجمة عمرو عثمان عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة السادسة)
لكن وعوضا عن مناقشة تأله الدولة بأجهزتها البيروقراطية التي تتحكم في الرقاب، يُناقش إله الدين الذي لا علاقة له بإله الدولة.
ولا يمكن تفسير هذا الانحراف في النقاش الفكري إلا بالتالي :
– الخوف من أن يتحول إله الدولة يوما ما ويُحِل دولة الإله مكان إله الدولة!
أي ما يسمى بأسلمة الدولة بتعبير الإسلاميين. مع أن هذا التصور غير قابل للتطبيق عمليا كما سنرى ذلك بعد قليل.
باختصار وكما نظم المتنبي..فما لجرح بميت إيلام! وبوضوح أكثر، فالحداثيون إنما يرفسون كلبا ميتا (مثل إنجليزي) على اعتبار أن الإسلام لا محل له من إعراب الدولة الحديثة في نشأتها أو في آليات اشتغالها. وهذا ما سنوضحه من خلال المغالطات التي يسبح فيها المحافظون الحالمون بتأسيس ″دولة إسلامية″ على منوال الدولة القومية.
″إن مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي″ (الدولة المستحيلة ص.19 )
كما أن ″الدولة الحديثة لا يمكن أن تقام على أسس أخلاقية″ (نفس المرجع ص.180 )
والذات الأخلاقية في الحكم الإسلامي لا علاقة لها بالذات الوطنية/ القومية في الدولة الحديثة.
لأن ″إنسان الدولة الحديث هو بالتعريف نقيض الإنسان الأخلاقي″ (نفسه ص.248 )
وليست هذه الخلاصات التقريرية من وحي الخيال أو مجرد تأملات شخصية بل هي العمود الفقري لأطروحة الباحث الفلسطيني والبروفسور المتخصص في القانون وتاريخ الفكر الإسلامي في كتابه الدولة المستحيلة.
أطروحة بالغة البساطة كما يقول وائل حلاق تتلخص في الفكرة التالية :
– الدولة كائن لا أخلاقي! والإسلام كنظام حكم مقارنة بالدولة على طرفي نقيض تماما!
لأن السياسي يحتل فيها الصدارة عما سواه من التشريعي والقضائي ويعمل وفق مبدأ الغاية تبرر لا الوسيلة الواحدة بل الوسائل المتعددة ولا مكان للاعتبارات الأخلاقية في معادلتها اللهم ما كان لينسجم مع بقائها واستمرارها..أي التوظيف السياسي للدين.
الأمر الذي لم يحدث طيلة فترة الحكم الإسلامي خلافا لما هو مسلم به والذي ساهم في تكريسه الفكر الاستشراقي الغربي لقرون. والحقيقة الموضوعية التي تزخر بها بطون كتب التراث العربي الإسلامي الضخم هي عكس المنطق السائد في الدولة الحديثة :
طيلة 12 قرنا لم تتغول السلطة السياسية على السلطتين التشريعية والقضائية!
كانت هناك استثناءات تاريخية معزولة بطبيعة الحال لكنها وفي جميع الأحوال لم تكن لتغير من طبيعة معادلة الحكم شيئا، أي أن السلطة السياسية لم تحتكر السلطة التشريعية والقضائية لسبب بسيط هو أنها ليست مصدر التشريع الإسلامي الذي ظل يستمد أصوله من القرآن والسنة أساسا..وعلى يد فئة عالمة من المجتمع الإسلامي، العلماء والفقهاء المستقلين عن السلطة السياسية.
(لمزيد من الإيضاح يرجى مراجعة كتاب وائل حلاق كاملا والذي هو خلاصة كتب ومؤلفات سابقة في نفس الموضوع)
غني عن البيان أن هذا الطرح غير المألوف قد يواجه انتقادات شديدة من كلا الفريقين الحداثي والمحافظ لأنه وببساطة يبين الأسس الخاطئة التي قامت عليها البراهين الواهية للتيارين..ولعقود!
في جملة واحدة :
– الحداثيون خلقوا خصما وهميا بينما المحافظون دافعوا وبشراسة عن هذا الخصم الوهمي!
من ″الصدف العلمية″ أن مجموعة من الدراسات والأبحاث في علم الاجتماع السياسي قد خلصت بدورها إلى نفس الاستنتاجات بخصوص الدولة ومؤسساتها.
في دراسة ضخمة لعالمي الاجتماع الفرنسي M.Crozier و النمساوي E.Friedberg تحت عنوان الفاعل والنسق L’acteur et le système, Ed. Seuil, 1977 توصل العالمان إلى النتيجة التالية :
– تأثير المؤسسات أو الأنساق مخالف تماما للإرادة الفردية والقناعات الشخصية من خير أو شر!
ويأتي هذا التناقض بين الهدف المعلن لهذه المؤسسات وما تقوم به فعلا على أرض الواقع من كون الفكر المؤسساتي أو ″العمل الجماعي المنظم ليس ظاهرة طبيعية بل هو بناء اجتماعي un construit social″ كما يؤكد الباحثان (ص.15 )
أكثر من ذلك، فهذه ″المؤسسات تخلق حقائقها المطلقة″
i.illich, Libérer l’avenir, Ed. Seuil, 1971, p.11
ومن اليقينيات التي تروج لها مؤسسات العالم الغربي قيم العدالة والحرية والمساواة…لكنها في واقع الأمر تعمل في الاتجاه المعاكس تماما.
وهذه المؤسسات ″لا تهدد الإنسان فقط بل الفكر الإنساني المستقل أيضا″ (ص.16 نفس المرجع أعلاه)
وكخلاصة إضافية فهذه الكائنات الإدارية الحديثة لا تشكل عائقا أمام ″الدولة الإسلامية″ لوحدها بل هي تهديد حقيقي للوجود الإنساني بأكمله.
وما الكوارث البيئية إلا غيضا من فيض ونموذجا للأخطار التي كانت هذه الكائنات الإدارية سببا فيها بأشكالها المختلفة وعلى رأسها المقاولات والشركات العابرة للقارات.
لا مناص من الاعتراف أن العقل العربي الإسلامي يدور في حلقة مفرغة..حول قضية فارغة..أوجدها الفراغ الفكري والتبعية الفكرية العمياء للفكر الغربي.
فهل من سبيل لتجاوز هذه الأزمة المزمنة؟
يقول الفيلسوف الأمريكي المتخصص في تاريخ وفلسفة العلوم طوماس كون T.Kuhn في كتابه بنية الثورات العلمية La structure des révolutions scientifiques, Ed. Flammarion, 2018, p.136 ″الأزمة تعني أننا أمام ضرورة تجديد أدوات العمل″
ومن بين أهم أدوات العمل التي يرتكز عليها هذا الفيزيائي الابستمولوجي مفهوم الباراديكم Paradigme والذي لا مقابل له في اللغة العربية على حد علمنا. لذا سنحتفظ به كما هو.
إنه ″مجموع المعتقدات والقيم والتقنيات المعتمدة من طرف وسط علمي معين للإجابة عن المشاكل العلمية المطروحة″ (ص.284-285 المرجع أعلاه )
كما أنه ″يتعلق في الغالب بمجموعة من العلماء وليس حكرا على المجال العلمي المعني″ ص.292 نفس المرجع. وهو في صلب بنية النظريات العلمية التي تتنافس فيما بينها ووسيلة حجاجها الرئيسية.
و ″تفوق نظرية علمية على أخرى لا يتم حصرا عن طريق المناقشة″ ص.320 نفسه بل في المختبر أو في الحلول العملية التي تقدمها للمشاكل والأزمات القائمة..وبالطبع الواسطة هي الباراديكم.
و″التشكيك في القدرة العلمية للباراديكم لا تكون إلا عقب محاولات عديدة فاشلة تؤدي إلى نفق مسدود″ ص.238 نفسه. في هذه الحالة وأمام انسداد الأفق العلمي للنظرية العلمية وعجزها عن تقديم إجابات للإشكالات الواقعة، يؤكد طوماس كون على الملاحظات التاريخية التالية وهي وصف لمواقف العلماء إزاء الأزمات التي مرت منها جل النظريات العلمية : ص. 137-157
1 – لا يتخلى العلماء عن الباراديكم هكذا دفعة واحدة أو يرمونه في سلة المهملات.
2 – لا يتم الطعن في مصداقية النظرية العلمية بمقارنتها فقط مع المعطيات الطبيعية.
3 – رفض الباراديكم دون تعويضه هو رفض للمنهجية العلمية وإلغاء للعلوم بالكلية. وهو نوع من الإجهاز على أدوات العمل ليس إلا. ولا يخفى ما فيه من السذاجة أو الغباء!
وبهذا المعنى فالتطور العلمي يأخذ أشكالا مختلفة. فقد يكون ″تراكميا يحدث بشكل آلي تتعاقب فيه النظريات العلمية دون أن تلغي إحداها الأخرى بالمطلق″ ص. 164 أو ″بشكل احتوائي من العام إلى الخاص كما في فيزياء نيوتن وأينشتاين″ ص. 166-170
وإذا ما حاولنا أن نوازن بين هذه التحديدات النظرية والواقع العربي الإسلامي، فماذا نجد؟
الباراديكم التقليدي محط النزاع الفكري هو الشريعة الإسلامية بجوانبها العقدية والقيمية والتقنية. وقد طال أمد هذا السجال بلا طائل من ورائه. لماذا؟
″لأن مناقشة الباراديكم من الداخل هو نقاش مغلق لا يساهم في الثورة العلمية″ ص. 162 نفس المرجع أعلاه.
أي أن الحداثيين والإسلاميين ولأنهم ليسوا من المتخصصين في القانون وتاريخ التشريع الإسلامي فهم يقعون في نفس الأخطاء المنهجية لعقود ويسيرون عكس عقارب الساعة العلمية ومنطق الثورات العلمية عبر التاريخ.
وسواء عن قصد أو بدونه فهم يلتقون عند نفس النتائج :
1 – الحداثيون يرفضون باراديكم الشريعة جملة وتفصيلا فيم الإسلاميون يقحمونه في طريق مسدود!
2 – يشكك الحداثيون في مصداقية الشريعة ويتهمونها بالقصور في سياق ليس سياقها الأصلي ومجتمع بقوانين وضعية لا شرعية وفي المقابل يصر الإسلاميون على أسلمة القانون الوضعي ليغدو ″قانونا إسلاميا″!!!
3 – لا يطرح كلا الفريقين أي باراديكم بديل بل يكتفي كل منهما بإشهار معول الهدم في وجه الآخر!
والقاسم المشترك بين هذه النقاط هي أنها تبني قلاعا من رمل ما يلبث موج الواقع أن يهدمها!
أي أنها لا تقدم أي جديد في الموضوع. ولا تغير من مجرى الأمور شيئا.
كيف الخروج إذن من هذا المأزق؟
يعيد المفكر وائل حلاق صياغة باراديكم الأخلاق من جديد ويضعه كحجر الزاوية في نظريته السياسية انطلاقا من مقارنة هادئة بين خصائص الحكم الإسلامي طيلة 12 قرنا والدولة الحديثة بمؤسساتها وقوانينها وبيئتها الأوروبية-الأمريكية.
كما يؤكد أن النقاش حول الشريعة قد تم تمييعه سياسيا بنقله من النطاق المركزي الذي كانت تشغله الشريعة في الماضي إلى نقاش هامشي مغلوط ومليء بالمغالطات التاريخية.
لأن ″الشريعة كانت قانونا أخلاقيا أنشأ مجتمعا جيد التنظيم وساعد على استمراره″ ص.19 نفسه.
ولم تكن عبارة عن مجموعة من القوانين الفقهية الجافة بل شكلت نوعا من التصوف العملي الذي يندمج فيه القانوني بالأخلاقي.
وإذا كان القانون الغربي قد انفصل نهائيا عن الأخلاق فإن الشريعة الإسلامية وعلى العكس من ذلك تماما قد انصهر فيها القانوني والأخلاقي معا. واعتبر جل علماء وفقهاء الإسلام تكوين الذات الأخلاقية سابقا على الذات القانونية.
وفي الوقت الذي يناقش فيه الغرب السبب الذي من أجله يجب أن يكون المرء أخلاقيا، ناقش علماء الإسلام وما زالوا الكيفية التي تجعل من الإنسان أخلاقيا. وما مدارس التصوف العديدة المنتشرة في ربوع العالم العربي الإسلامي إلا خير شاهد على ذلك.
أخيرا، فهل نحتاج إلى التذكير بأن من معاني الإسلام السلم والسلامة والسلام (السلم الإجتماعي والسلامة النفسية والعقلية والسلام الداخلي) ومن معاني الإيمان الأمن والأمانة والأمان (الأمن الروحي والأمانة العلمية والأمان المادي)، وهما أرقى درجات السلوك الأخلاقي.
وهل يمكن أن يهنأ لنا عيش ما لم يسلم الإنسان من أخيه الإنسان ويأمن الواحد منا الآخر؟ بالمعاني المذكورة وفي جميع الأديان والثقافات.
ومن لا خلاق له من الأخلاق هو بحق من شر المخلوقات..في السياسة وفي غيرها.
ملاحظة ختامية :
– من الجميل الإشارة إلى أن المفكر وائل حلاق فلسطيني مسيحي وهو بهذا المعنى أقرب إلى الموضوعية من أي مفكر إسلامي آخر!