عبثية توظيف مساعدين اجتماعيين في الأمازيغية
أعلنت وزارة العدل عن إجراء مباراة، بتاريخ 20 مارس 2022، لتوظيف منتدبين قضائيين «للقيام بمهام المساعدة الاجتماعية والترجمة (اللغة الامازيغية)»، كما جاء في قرار وزير العدل رقم 04 /م م ب/2022 بتاريخ 26 يناير 2022. وقد أكد وزير العدل، السيد وهبي، أن وزارة العدل «تحتاج مساعدين ومساعدات يتحدثون باللغة الأمازيغية، للقيام بالدراسات التي يحتاجها السادة القضاة وتقديم خدمة الترجمة للقضاة والمتقاضين الذين يتحدثون فقط اللغة الأمازيغية لتوصيل مطالبهم ودفوعاتهم» . وقد سبق، لهذه الغاية، أن «أشرف السيد رئيس الحكومة، يومه الثلاثاء 25 يناير 2022 بمقر الوزارة بالرباط، على مراسيم توقيع اتفاق بين وزارة العدل والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، يحدّد الإطار العام للتعاون والتنسيق بينهما من أجل إدماج اللغة الأمازيغية في مجال العدالة»، حسب ما جاء في الموقع الإلكتروني لوزارة العدل (انقر هنا).
آراء أخرى
كل هذه الإجراءات التي تقوم بها وزارة العدل، من إبرام اتفاقية مع “ليركام” وتوظيف مساعدين اجتماعيين…، هي من أجل “تنزيل” مقتضيات القانون التنظيمي للأمازيغية رقم 26.16، بهدف “تنزيل” الترسيم الدستوري للأمازيغية كما تقضي بذلك أحكام الفصل الخامس من الدستور. أضع كلمة “تنزيل” بين مزدوجتين لأنها أصبحت من المصطلحات الأكثر استعمالا من طرف المسؤولين الحكوميين كلما تعلق الأمر بتفعيل رسمية الأمازيغية، رغم أن معناها لا يلائم مقام لغة رسمية ولا الغاية من ترسيم هذه اللغة، كما سأوضّح في ما يأتي.
“تنزيل” شيء لا وجود له:
بالنسبة لوزارة العدل، توظيف مساعدين اجتماعيين، أو منتدبين قضائيين كما تسمّيهم هذه الوزارة، يدخل في إطار هذا “التنزيل” للقانون التنظيمي رقم 26.16. قد تبدو هذه المبادرة شيئا جميلا ومطلوبا، ينمّ عن النية الحسنة لدى الوزارة، ومعها الحكومة ورئيسها، في الإسراع بإعمال هذا “التنزيل”. وعندما نتساءل: “تنزيل” ماذا؟ يكون الجواب: “تنزيل” القانون التنظيمي رقم 26.16 لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. لكن عندما نعود إلى هذا القانون التنظيمي ونقرأه ونعيد قراءته، لا نجد فيه أي تفعيل حقيقي ووظيفي للأمازيغية، وخصوصا في مجال القضاء الذي تعتزم وزارة العدل توظيف منتدبين قضائيين يجيدون التحدّث بالأمازيغية (يشترط في 60% منهم أن يكونوا ناطقين بالأمازيغية) لمساعدة المتقاضين الناطقين بنفس الأمازيغية. وإذا عرفنا أن مفهوم اللغة الرسمية يعني اللغة التي تحرّر بها الوثائق الرسمية للدولة، وعرفنا أن القانون التنظيمي 26.16 خال من أي إجراء لاستعمال الأمازيغية كلغة لتحرير الوثائق المستعملة في القضاء، كالأحكام ومحاضر الشرطة القضائية وتقارير الخبرة…، فإننا سنكون إذن أمام “تنزيل” شيء غير موجود: “تنزيل” ترسيم الأمازيغية في القضاء تطبيقا لأحكام القانون التنظيمي الذي لا يتضمّن أي ترسيم للأمازيغية في مجال القضاء.
فالمادة 30 الوحيدة التي أفردها القانون التنظيمي لما سماه: “إدماج الأمازيغية في مجال التقاضي” تقول: «تكفل الدولة للمتقاضين والشهود الناطقين بالأمازيغية، الحق في استعمال اللغة الأمازيغية والتواصل بها خلال إجراءات البحث والتحري بما فيها مرحلة الاستنطاق لدى النيابة العامة، وإجراءات التحقيق وإجراءات الجلسات بالمحاكم بما فيها الأبحاث والتحقيقات التكميلية والترافع وكذا إجراءات التبليغ والطعون والتنفيذ. تؤمن الدولة لهذه الغاية خدمة الترجمة دون مصاريف بالنسبة للمتقاضين والشهود. يحق للمتقاضين، بطلب منهم، سماع النطق بالأحكام باللغة الأمازيغية. ومن أجل ذلك، تعمل الدولة على تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين لاستعمال اللغة الأمازيغية». فليس هناك إذن جديد يخصّ مكانة الأمازيغية في القضاء مقارنة مع ما كان عليه الأمر قبل ترسيمها. فتأمين الترجمة، أثناء مراحل التقاضي، لمن يتحدّث لغة لا يفهمها المسؤولون القضائيون، هو إجراء معروف نصّت عليه المسطرة الجنائية في العديد من الفصول مثل المواد: 21، 47، 120، 121، 145، 147، 318… أما الحق في سماع النطق بالأحكام باللغة الأمازيغية لمن يطلب ذلك، فحتى إذا اعتبرناه شيئا جديدا، إلا أنه يبقى إجراء شفويا لا يجعل من الأمازيغية لغة تُستعمل كتابيا في مجال القضاء، علما أن هذا الاستعمال الكتابي هو الشرط الذي يضفي على لغة ما صفة الرسمية، كأن يوازي هذا النطقُ بالأحكام بالأمازيغية كتابتَها بالأمازيغية كذلك. أما «تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين لاستعمال اللغة الأمازيغية»، فإذا كان يبدو شيئا جديدا بالنسبة للاستعمال الرسمي للأمازيغية، إلا أنه يبقى بدون أي أثر حقيقي بشأن هذا الاستعمال الرسمي للأمازيغية، كما سنشرح ذلك في ما يلي. النتيجة أن هذه المادة (30) لا تمنح للأمازيغية أي استعمال رسمي حقيقي، كتابي ووظيفي. فكل ما تمنحه لها، وفي حالات معدودة، هو استعمالها الشفوي، مع العلم أن ترسيم الأمازيغية لم يتقرّر إلا لتجاوز هذا الاستعمال الشفوي والانتقال بها إلى مستوى الاستعمال الكتابي.
توظيف “طائفي” لا يفيد ترسيم للأمازيغية:
في هذا الإطار “الشفوي”، الذي لا يسمح باستعمال رسمي حقيقي للأمازيغية، وهو الاستعمال الكتابي الوظيفي، يدخل توظيف منتدبين قضائيين تكون مهمتهم «تقديم خدمة الترجمة للقضاة والمتقاضين الذين يتحدثون فقط اللغة الأمازيغية لتوصيل مطالبهم ودفوعاتهم». ماذا يعني هذا التوظيف وهذه المهمة؟ يعنيان تفعيل، ليس الطابع الرسمي للأمازيغية، وإنما طابعها الشفوي. والحال أن الأمازيغية كانت دائما شفوية، وبالتالي لم تضف المادة 30، ومعها كل القانون التنظيمي رقم 26.16، أي عنصر جديد للانتقال بالأمازيغية من الاستعمال الشفوي إلى الاستعمال الكتابي. فالهدف من ترسيم الأمازيغية، ليس هو تكريس طابعها الشفوي، كما فعل هذا القانون التنظيمي، وإنما هو الارتقاء بها إلى مستوى لغة مدرسية وكتابية. وفي غياب قرار الاستعمال الكتابي للأمازيغية في القضاء، مع ما يتطلّبه ذلك من تدريس جدّي وإجباري وموحّد لها، يكون توظيف منتدبين قضائيين لمساعدة المتقاضين الناطقين بالأمازيغية، كتفعيل للطابع الرسمي لهذه اللغة، هزلا وعبثا. قد يكون ذلك مجديا لو تقرّر في إطار المساعدة الاجتماعية وليس في إطار تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية. ولنلاحظ أن القانون التنظيمي استعمل، من خلال المادة 30، عبارة “مجال التقاضي” وليس “مجال القضاء”، تماشيا مع الاستعمال الشفوي للأمازيغية لفائدة المتقاضين، الذين يمكن أن تكون لهجاتهم مختلفة، في استقلال عن اللغة الكتابية للقضاء كنظام يمثّل سيادة الدولة.
إلا أن الخطير في المادة 30، المتعلقة بإدماج الأمازيغية في مجال التقاضي، هو أن تطبيقها مشروط بوجود فئة خاصة من المغاربة، وهم فئة الناطقين بالأمازيغية. وهذا إجراء فئوي وطائفي يتناقض على طول الخط مع الدستور الذي ينص على أن الأمازيغية “رصيد مشترك لجميع المغاربة بدون استثناء”، في حين أن المادة 30 جعلت منها رصيدا خاصا بالناطقين بها. مع أن الداعي إلى إقرار ترسيم الأمازيغية، هو أن تكون لغة لجميع المغاربة، كما يستلزم ذلك مفهوم اللغة الرسمية للدولة. وهذا الإجراء الطائفي هو الذي فرض توظيف مساعدين اجتماعيين بشرط طائفي، وهو إتقانهم للأمازيغية في حدود 60%.
التدريس كشرط واقف لتفعيل الترسيم:
المشكل هو أن حصر تفعيل ترسيم الأمازيغية في الاستعمال الشفوي، كما فعل القانون التنظيمي، وخصوصا في مجال القضاء، هو مراهنة على موتها التدريجي، لكن الأكيد، بسبب التناقص المتنامي لهذا الاستعمال الشفوي للأمازيغية، وهو ما يجعلها غير قادرة على إعادة إنتاج نفسها والانتقال من جيل إلى آخر بهذا الاستعمال الشفوي، الذي ظل إلى حدود 1912 هو الآلية التي تحافظ على بقاء الأمازيغية وحمايتها من الموت والزوال. وهكذا، فبعد أجل قد يقصر أو يطول لبضعة قرون لكنه حتمي، لن تكون هناك حاجة، إذا استمر الاعتماد فقط على الاستعمال الشفوي للأمازيغية، إلى توظيف منتدبين قضائيين لمساعدة المتقاضين الناطقين بالأمازيغية، لأنه لن يكون هناك متحدّث بالأمازيغية. هذه هي النتيجة التي يعرفها وينتظرها واضعو القانون التنظيمي الذين صاغوه بالشكل الذي يتوافق مع هذه النتيجة ويؤدّي إليها. وإذا عرفنا الظروف التي أُعدّ فيها هذا القانون التنظيمي، وحكومة “البيجيدي” المعادية للأمازيغية التي حرّرته وأقرّته، سنعرف أن مراهنة هذا القانون على موت الأمازيغية باختفاء الناطقين بها في المستقبل، هو ما يفسّر تركيز هذا القانون على الجانب الشفوي، أي الجانب الذي يعجّل بموت الأمازيغية.
مع أن الغاية من ترسيم الأمازيغية هي حمايتها من هذا الموت الذي يتربّص بها، وذلك بالانتقال من استعمالها الشفوي، الذي أصبح بمثابة حفّار لقبرها، إلى استعمالها الكتابي. والشرط الواقف لهذا الاستعمال هو تدريسها، ليس الشكلي والرمزي، بل الجدّي والحقيقي، الإجباري والموحّد. فهذا التدريس هو الذي سيوفّر، بعد مدة قد تقدّر بـ10 إلى 15 سنة، موظفين قادرين على التواصل بالأمازيغية، ليس فقط مع “طائفة” الناطقين بها الذين يتناقص عددهم سنة بعد أخرى، كما شرحنا، بل مع مختلف المرتفقين والمتقاضين الذين يفترض في المتعلّمين منهم أن يكونوا مجيدين، هم أيضا، للأمازيغية بحكم تعلّمهم لها في المدرسة. فتفعيل ترسيم الأمازيغية في مجال القضاء لا يحتاج إذن إلى توظيف مساعدين اجتماعيين للتواصل شفويا مع “طائفة” الناطقين بالأمازيغية، بل إلى تدريسها، الجدي والحقيقي، الإجباري والموحّد، لتكون، بعد 10 إلى 15 سنة، وحتى أكثر، لغة مختلف الموظفين في مختلف الإدارات، والذين سيكونون، بحكم تعلّمهم المدرسي لها، متمكّنين من التواصل بها مع جميع المغاربة، بالنظر إلى أنها لغة رسمية.
ولهذا فإن «تأهيل القضاة وموظفي المحاكم المعنيين لاستعمال اللغة الأمازيغية»، كما جاء في المادة 30، لا معنى له خارج تعلّمهم المدرسي المسبّق للأمازيغية، مما يؤهلهم، بعد المدة المشار إليها، أن يكونوا متمكّنين من استعمالها والتواصل بها مع المتقاضين، وحتى تحرير الأحكام والأوامر القضائية بها باعتبارها لغة رسمية للدولة، مما لا يُفترض معه جهل القاضي ـ وحتى الموظّف العادي ـ باللغة الرسمية لأن القضاء تجسيد لسيادة الدولة التي تعتبر اللغة الرسمية أحد مظاهرها. وهذا لن يطبّق، كما قلت، غدا أو بعد غد. لكن المنتظر تطبيقه فورا هو البدء بتوفير الشروط التي ستجعل من القضاة ومختلف الموظفين متمكنين من الاشتغال بالأمازيغية بعد 10 إلى 15 سنة، كما شرحت. وهذه الشروط تتلخّص في تدريس الأمازيغية، بالشكل الحقيقي والجدّي، الإجباري والموحّد، كما كتبت.
وعليه، إذا كانت الحكومة الجديدة جادّة، كما جاء ذلك في تصريحات عدد من مسؤوليها، في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فإن أولى المهام التي عليها القيام بها، بخصوص هذا التفعيل، هي تدريس الأمازيغية بكيفية تقطع نهائيا وبلا رجعة مع الطابع الشكلي والعقيم الذي ظل ملازما لهذا التدريس، حتى يكون تدريسا من أجل الاستعمال الرسمي، الكتابي والوظيفي للأمازيغية، وليس تدريسا من أجل التدريس، كما كان منذ انطلاقه في 2003.
شروط تدريس جدي وحقيقي للأمازيغية:
وحتى ينجح هذا التدريس لا بد من تضافر شروط عديدة، مالية وتربوية وإدارية وبشرية… لكن كل هذه الشروط تتوقف على شرط الشروط، وهو توفر إرادة سياسية حقيقية للارتقاء بالأمازيغية إلى لغة رسمية حقيقية ووظيفية. ويدخل ضمن هذا الشرط السياسي (توفر الإرادة السياسية) أن تعيد الدولةُ النظرَ:
ـ أولا، في مكانة الأمازيغية في الاتجاه الذي يجعل منها أداة للرقي الاجتماعي والمهني، وذلك باشتراط إتقانها لشغل الوظائف العمومية بعد مدة قد تقدّر بـ 15 سنة، حتى يخضع لهذا الشرط فقط من يكونون قد درسوها لعدد كافٍ من السنوات حتى يؤهلهم ذلك أن يكونوا متمكنين منها، وقادرين على الاشتغال بها كلغة عمل في الإدارات العمومية. هذا الشرط ـ إتقان الأمازيغية ـ ضروري لخلق طلب عليها عندما يكون إتقانها مطلوبا لتحسين الوضع الاجتماعي والمهني والحصول على عمل ووظيفة.
ـ وثانيا، في سياستها اللغوية كما ورثتها عن “الحركة الوطنية” مع العمل على تغيير في المواقف والقناعات والممارسات ذات العلاقة باللغة الأمازيغية، وخصوصا في الذهنيات التي تنتج تلك المواقف والقناعات والممارسات، بجانب إجراءات مصاحبة لتفعيلها الرسمي الوظيفي، ترمي، وبتدخل وتخطيط من الدولة دائما، إلى إشاعة قيم اعتزاز المغاربة بأمازيغيتهم. فلا يمكن أن ينجح تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية مع استمرار نفس الممارسات والذهنيات التي كانت وراء إقصاء الأمازيغية.
أما الشروط التربوية والبيداغوجية، وهي ذات علاقة بتوفر الإرادة السياسية لأنها تحتاج إلى قرار سياسي دائما، فتشمل مجموعة من العناصر، أهمها:
1ـ تعميم التدريس الإجباري والموحّد للأمازيغية، أفقيا وعموديا، بدءا من التعليم الأولي حتى الجامعي،
2ـ تمتيعها، كمادة دراسية إجبارية، بعامل تمييزي محفّز، تعزيزا لخلق الطلب عليها،
3ـ تخصيص غلاف زمني أسبوعي تمييزي لها كذلك،
4ـ جعلها منذ البداية، وتدريجيا، لغة تدريس بعض المواد العلمية والأدبية،
5ـ إقرار نظام تفتيش تربوي جدي وفعال للمراقبة والتتبع والتقويم،
6ـ التتبع، الجدي والصارم، لمدى تنفيذ المسؤولين الجهويين والإقليميين والمحليين لقرارات وتوجيهات وزارة التعليم بخصوص تدريس الأمازيغية،
7ـ إنشاء أقسام خاصة لتكوين أساتذة اللغة الأمازيغية بمراكز التكوين (وهو شيء قد بدأ العمل به)
8 ـ إنشاء أقسام خاصة لتكوين المفتشين التربويين للغة الأمازيغية بمراكز تكوين المفتشين، لاستكمال حلقات السلسلة اللوجستيكية الضرورية لإنجاح عملية تدريس الأمازيغية.
9ـ فتح شعب جامعية، تدريجيا، لتدريس بعض التخصصات بالأمازيغية، مثل الدراسات القانونية، لتستكمل دورتَها التعليميةَ التي تسمح لها بإعادة إنتاج نفسها.
“التنزيل” الحقيقي:
كتبت، في بداية هذه المناقشة، أن معنى “تنزيل” القانون التنظيمي رقم 26.16، كما يردّد ذلك المسؤولون، لا يلائم مقام لغة رسمية ولا الغاية من ترسيم هذه اللغة، ذلك أن المقام والغاية، كما تحدّدهما الفقرة 3 من الفصل 5 من الدستور بالنسبة للأمازيغية، هما استعمالها كلغة رسمية للدولة. لكن القانون التنظيمي، المراد “تنزيله” من أجل هذا الاستعمال الرسمي، لا يسمح بهذا الاستعمال الرسمي، لأن هذا القانون “رفع” هذا الترسيم، أي ألغاه وأزاله، وهو ما سبق أن بيّنته في موضوع: “قانون تنظيمي لإعدام الأمازيغية” . فإذا كان ترسيم الأمازيغية “مرفوعا” ولا وجود له ضمن القانون التنظيمي رقم 26.16، فلا جدوى من محاولة “تنزيله” حسب مقتضيات هذا القانون. ما العمل إذن؟
هنا نعود إلى شرط الإرادة السياسية. فإذا توفّرت يمكن، بل يسهل، “تنزيل” ترسيم الأمازيغية، إما بتعديل وتصحيح القانون التنظيمي الحالي، وإما ـ ربحا للوقت ـ بالاستناد مباشرة إلى مقتضيات الفقرة 3 من الفصل 5 من الدستور، والذي هو أسمى من القانون التنظيمي، والتي تقول بأن الأمازيغية هي أيضا لغة رسمية للدولة. ولا يتعلق الأمر هنا فقط بالتأكيد على رسمية اللغة الأمازيغية، بل إن هذه الفقرة تفيد، من خلال استعمال أداة “أيضا”، أن ما يسري على العربية من حيث استعمالها لغة رسمية يسري بشكل مماثل على الأمازيغية. وبالتالي إذا كانت العربية تستعمل كتابيا ووظيفيا بمختلف مؤسسات الدولة، بعد تلقّي موظفي هذه المؤسسات تعليما مدرسيا في العربية، فينتج عن ذلك أن الأمازيغية ستُستعمل هي أيضا بنفس الوظائف وبنفس المؤسسات وستستفيد من نفس التعليم. وهو ما يفرض تدريسها الجدي والحقيقي، الإجباري والموحّد، حتى تقوم بنفس الوظائف التي تقوم بها العربية. ونلاحظ أننا نعود كل مرة إلى التدريس، الذي هو مفتاح تفعيل ترسيم الأمازيغية.
صعوبات ومعيقات:
من السهل على الرافضين لاستعمال الأمازيغية كلغة في القضاء، القولُ بإن استعمالها لتحرير الأحكام القضائية، سيطرح السؤال حول أية من اللغتين الرسميتين ستحرّر بها هذه الأحكام، لتبيان أن هناك صوبات عملية وإجرائية حقيقية لا تسهّل عملية استعمال الأمازيغية كلغة كتابية في الوثائق القضائية، وخصوصا منها الأحكام. لكن إذا كنا نستحضر، في كل مرة نعتزم فيها تفعيل الترسيم الوظيفي للأمازيغية، الإكراهاتِ والصعوباتِ التي قد تعيق هذا الترسيم الوظيفي، فلن نتقدّم أية خطوة إلى الأمام بخصوص تفعيل رسمية الأمازيغية على مستوى استعمالها الوظيفي والكتابي، ذلك أن مثل هذه الإكراهات والصعوبات قد تعترضنا في كل مجال قد تُستخدم فيه الأمازيغية كلغة رسمية، كتابية ووظيفية. فمثلا، لن نتوفّق في تدرسيها للانتقال بها من الاستعمال الشفوي إلى الاستعمال الكتابي الوظيفي، بمبرّر أن هناك ثلاث لهجات أمازيغية تجعل من الصعب تدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة. وهكذا يمكن التذرّع دائما بوجود صعوبات ومعيقات تحول دون استكمال عملية تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
لكن المشكل ليس أن هذه الصعوبات والمعيقات هي قائمة وحقيقية، وإنما المشكل هو أننا نكتفي باستحضارها كمبررات، ولا نفعل شيئا لتجاوزها والتغلّب عليها. مع أن ترسيم الأمازيغية، كتابيا ووظيفيا، هو أصلا نوع من التحدّي لهذه الصعوبات والمعيقات. فما معنى تدريس الأمازيغية لجميع المغاربة إن لم يكن يعني توحيدَها التدريجي عبر المدرسة لتجاوز مظهرها اللهجي الذي يختلف من جهة إلى أخرى؟ ما معنى تحرير الأحكام القضائية بالأمازيغية إن لم يكن يعني إيجادَ حلّ في نفس الوقت لمشكل استعمال لغتين رسميتين في نفس البلد؟
من جهة أخرى، إذا كانت هناك صعوبات ومعيقات حقيقية لا تسهّل عملية الترسيم الكتابي والوظيفي للأمازيغية، فذلك راجع إلى تهميشها لمدة طويلة. وكلما تأخرنا في ترسيمها الكتابي الوظيفي، كلما كانت هناك مزيد من الصعوبات والمعيقات. فمثلا لو شُرع في تدريس الأمازيغية منذ الاستقلال، لما كانت هناك اليوم مثل هذه الصعوبات التي تعترض تفعيل ترسيمها. بل لو نجح تدريسها منذ أن تقرّر هذا التدريس في 2003، لكان تفعيلها الرسمي، اليوم، عملية بسيطة وسهلة.
فلتكسير هذه الحلقة المفرغة، حيث يؤدّي تأخير تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية إلى مزيد من الصعوبات تعيق هذا التفعيل، وهو ما يؤدّي بدوره إلى مزيد من التأخير بخصوص نفس التفعيل، لا بد من إرادة سياسية، حقيقية وقوية، لدى المسؤولين لتفعيل حقيقي ووظيفي لرسمية الأمازيغية. وهذا ما ننتظره من الحكومة الجديدة التي عبّرت غير ما مرة عن توفّر هذه الإرادة لديها.