سوانح الأدباء ونوادر الظرفاء في برد الشتاء
في اليوم الخامس عشر دجنبر من الشهور الأعجمية ، الموافق للثاني عشر دجنبر الفلاحي من كل عام تبدأ المنازل المعروفة ب(الليالي)، تدوم أربعين يوما و تعرف بشدة بردها خاصة في نصفها الأول ، لكننا في الواقع ـ ومنذ أيام ـ في برد اضطر فيه الناس لإخراج كل أسلحتهم المقاومة وعلى رأسها ( كافات الشتاء السبعة ) ، وبهذا المناسبة أرجو أن تقبل مني ـ أيها القارئ الفاضل ـ بعضا من الأمالي ، عساها تدفيك من بعض قرسات هاتيك الليالي ، بشرط أن تخرج من العراء ، ولا تلتحف لحاف السماء ، خاصة إذا كنت في مثل البلاد التي قيل فيها :
آراء أخرى
بِلاد ـ إِذا مَا الصَّيف أقبل ـ جَـنَّـةٌ
وَلكنّـهَا عِنْد الشتَاء جحيم
فهكذا هي بعض البلاد ، لكن ما أعجب حال الإنسان وما أضعفه ، بالأمس كان ينتجع المنتجعات للاستبراد هروبا من حمارة القيظ ، ويُكيِّـف الهواء الساخن بالمكيفات الصناعية حتى يعتدل رغما عنه ، واليوم في ضد ذلك .
يتمنى الإِنسانُ في الصيفِ الشتا
فإذا جاء الشتا أنكرَه
فهو لا يرضى بحالٍ أبداً
قُتِلَ الإنسانُ ما أكفره
كانت العرب تسمّي الشتاء بالفاضح ، كما قال الأصمعي ، وتقول : الشتاء ذَكَرٌ لأن فيه اللقاح، والصيف أنثى لأن فيه النتاج ، وذلك لقسوة الشتاء وشدته ، ولين الصيف وهونه . و إذا أردتَ أن تعرف هذا المعنى فاسمع لهذا الأعرابي الذي يرسم لك لوحة شتوية ـ و كان في حضرة أمير ـ قائلا : ( تهبُّ الرياح ، وتضجر الأرواح ، وتدوم الغيوم ، وتكثر الغموم ، وتسقط الثلوج ويقلُّ الخروج ، وتغور الأنهار، وتجفُّ الأشجار، فالشمس مريضة ، والعين غضيضة ، والوجوه عابسة ، والأغصان يابسة ، والمياه جامدة ، والأرض هامدة… نيرانهم تثور، ومراجلهم تفور، لحاهم صُفْر من النيران، وثيابهم سود من الدخان، والمواشي من البرد كالفراش المبثوث ، والجبال من الثلج كالعهن المنفوش، فأما من كثرت نيرانه، وَثَقُلَ ميزانه، فهو في عيشة راضية، وأمّا من قلّت نيرانه، وخفَّ ميزانه، فأمّه هاوية، وما أدراك ما هيه، نارٌ حامية، فقال له الأمير: ما تركت عذاباً في الاخرة إلاّ وصفته لنا في الدنيا ).
وحال الناس فيه كما قال القائل :
قد مُنِع الماء مِنَ الـمَسِّ
وأمكنَ الجمرُ من اللَّمسِ
فلستَ تلقى غيْرَ ذي رِعدةٍ
أو مسلمٍ يسجدُ للشمسِ
بل ـ أيضا ـ حال الدواب ، وعلى رأسها الكلاب :
وشتاءٍ يخنقُ الكلـ
بَ فلا يعلو هَرِيرُهْ
كلّما رام هريراً
أزَمّ الفاهَ زمهريرُه
ولست أدري لماذا كثر ذكر الكلب دون غيره من الدواب عند التعبير عن شدائد الشتاء ؟ ولعل ذلك لكون الدابة الأليفة الذي ديدنه التسكع ، ولا يكاد يجد من يأويه ، وقد سئل الكلب : ما أعددت للشتاء فقال : أَلِوي ذَنَبـي ، وأربِض عند باب أهلي .
صرعــــــــى الشتاء
وعلى كل حال فأظنك مهما بلغ بك البرد ، لن تتمنى الاستدفاء بمثل ما تمناه صاحبنا الأعرابي ، ولن ترفع معه يديك لتتضرعا وهو يستغيث بربه من البرد :
أيا ربّ ، هذا البرد أصبح كالِـحاً
وأنت بصير عالم لا نعلمُ
لئن كنْتَ يوما مَا جَهنمَ مُدخِلي
ففي مِثل هذا اليوم طابتْ جَهنمُ
بل نعوذ به سبحانه منها ، وهل يطيب إلا نعيم الجنة ؟!
ومهما كنْتَ من ذوي النسيان ـ والنسيان من طبع الإنسان ـ فلن تنسيك شدة القر ما تقول وما تتلفظ به ، كما أنسى صاحبَنا الأعرابيَّ وقد اقترب من النار يتدفأ بها ، فلما ذهب عنه روع البرد وحَلّت في عظامه السكينة وسرى فيها الانتعاش ، توجه إلى الله شاكرا وداعيا بدوام النعمة قائلا : اللهم لا تحرمنيها فى الدنيا والآخرة !
حقا ، فأي شيء ألذ للأبدان من دفء يزيل عنها قوارس البرد ، وإنها للحظات لا توصف وقد مددت يديك اليابستين و أرخيت قدميك المتحجرين على قرب نار هادئة تتسلل في العظام كما يتسلل الغذاء الشهي إلى الأمعاء الفارغة :
النار فاكهة الشتاء فمن يرد
أكل الفواكه شاتيا فليصطل
ونِعْم الفاكهة في الشتاء ، لذلك لا نحتاج أن ننصح أحدا بإعداد العدة والتهيؤ للضيف الثقيل ، لكن الغفلة واردة ، والتهاون ممكن ، وإن لم يكونا فالحاجة وقلة ذات اليد ربما جعلتاك تستسلم وليس لك بعدها إلا مدافئ مصنوعة من أصواف الصبر ، قيل لأعرابي وقد هجم البرد الشديد : ما أعددتَ لهذا الفصل قال : ( أعددتُ له عُرْيَ الـمـَتْـنَيْن ، وحفاء القدمين ، وقلقلة الفَكّين ، ودمعَ العينين، وسَيلانَ المنخرين، مع شدّة الرعدة، وكسوفِ البال، وفرطِ البلبال، وقلَّةِ المال، وكثرةِ العيال ).
سيلان المنخرين ؟ نعم من ذا الذي لم يسل منخراه ؟ أو حتى منخر واحد ؟ ألم تتساءل لماذا لم تصبه حالة التجمد حين تجمدت الأشياء من حوله ؟ لا نريد جوابا من الفيزيائيين ، فالأعرابي لا يعرف لغتهم وقوانينهم ، ولوكان يعرف شيئا من ذلك لما توجه إلى أنفه السيال في الشتاء مخاطبا له بمثل هذه الشدة : ( لا والذي جلّ وعلا ، ما رأيتُ عضواً أنْتـَنَ منك ماءً ، إذا جـمد كل شيء فأنت تذوب ، وإذا ذاب كلُّ شيءٍ فأنت تجمد ).
واحمدِ الله على نعمة الشمس ، فإنها المدفأ الذي يستوي أمامه الفقير والغني ، فما عليك سوى أن تتعرض لها ما دامت أشعتها نفحات ولم ينقلب فيها شعاع النون لاما ، اقتداء بهذا الأعرابيّ الذي اقتدى هو الآخر بالقطط ، فبرز لشمس الظهيرة بعد أن غابت في الناس شموس الظروف المريرة :
فكأنّى لشدّة البرد هرّ
يرقب الشّمس في أوان الطّلوع
فالشمس (قطيفة المساكين) في الشتاء ، كذا قال فقراء العرب :
يا شمسُ يا قطيفة المساكين
قربك الله كما تعودين
وليس ثمة أحسن من الأمن والاطمئنان في الأجساد والأرواح و دفع كل ضر عن البلاد والعباد ، ولهذا قال من جرب الشدتين شدة الشتاء والأمراء : إن الملك العادل كالشمس في الشتاء .
غير أن أغرب مدفئة سمعت عنها ـ وأظنك مثلي أيضا ـ مدفئة تسمى : الحسب والنسب !! النسب العائلي والأرومة فيه ، هكذا هي المدفئة عند هذا الرجل الذي له نسب عريق في قريش ، فقد شوهد ذات يوم يلبس ثوبين ، إزارا ورداء في الشتاء ، فقال له قائل: يا فلان : ألا تلبس ثوبا يدفئك ؟ فقال (بنبرة افتخار واعتزاز والأرض لا تسعه ) : أنا ابن فلان ، حَسَبـِي يدفئني !!
وبيني وبينكم أن الحرارة لم تنخفض عنده إلى 20 درجة ، و لو زارنا لعلم أن لا حسب في البرد ولا نسب إلا من كان أبوه الجلباب ، وجده البرنس .
ومع ذلك ، فأخشى أن أكون تسرعت في الحكم ، لأنني وجدت ـ حقا ـ حسبا ونسبا يتدفأ منه الناس فضلا عن صاحب النسب نفسه ! فقد جلس ( أشعب ) يوما في الشتاء إلى رجل من أحفاد عقبة بن أبي معيط،(من كفار قريش) ، فمر به رجل آخر فقال : ما يقعدك إلى جنب هذا ؟ قال : أصطلي بناره !
وإن بقي فيك من آثار البرد شيء فأذكرك بالحمام ، وما أظنك تنساه ، فإنه الأول والوسط والآخِر ، بشرط ألا يكون في حره مثل هذا الحمام الذي دخله بعضهم فخرج منه كأنما زار جهنم ، أعاذنا الله وإياك منها فقال :
وحـمّام دخلناه لأمر
حَكَى سَقَراً وفيه الـمُـجْرِمُونا
فيصطرخوا يقولوا :أخرجونا
فإن عدنا فإنّا ظالمونا
ولا حماما بعكسه أيضا ، مثل هذا الذي قيل فيه :
ما نلت بالحمّام حَرّا ولا
يَصلح فيه غيرُ تَبريدِ ماء
وجدت بالصيف به رِعدة
فكيف أرجو عَرَقا في الشتاء ؟!
رضي الله عن سيدنا عمر بن الخطاب كان إذا حضر الشتاء تعاهد الناس، وكتب إليهم بالوصيّة: ( إن الشتاء قد حضر وهو عدوّ، فتأهبوا له أهبةً من الصوف والجباب (جمع جُبة) والجوارب والخفاف المنعلة ، واتّخذوا الصوف شعاراً، والقطن دثاراً، فإن البرد عدوّ سريعٌ دخوله، بعيد خروجه ).
وكان زياد بن معاوية يقول لقواده : ( تجنّبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو : الشتاء ، وبطون الأودية ) . ولو أن القائد النازي (هتلر) سمع هذه النصيحة لملك العالم ، ولما انهزم القائد (نابليون) قبله . كلاهما على مشارف روسيا إبان غضبة الشتاء.
وما دمنا في النصيحة ، فلا تنس النصيحة الثمينة التي قالتها العرب : ( من غلى دماغه في الصيف غلت قِدْرُه في الشتاء ) يعنون الكد والعمل في الصيف من أجل الراحة في الشتاء :
وإن الذي لم يغل صيفا دماغه
وجدّك لا تغلي شتاءً قدورُه
كذلك مقسوم المعايش في الورى
بِسعي ورعي تستبين أمورُه
ولا إخالك إلا تعرف قصة الصرار والنملة ، وحكاية التي ضيعت اللبن في الصيف فجاءت تطلبه في الشتاء فلم تجده فبقيت للناس مضرب المثل.
الشتاء والعبادات :
رفع الله المشقة والحرج عن عباده ، وأزال عنهم كل ضرر ، ولم يكلفهم إلا بما تطيقه أنفسهم ، لكن ليس على فهم هذا الأعرابي الذي أنزل الرخص في غير منازلها ووسع معناها حتى امتدت من الشتاء إلى الصيف ، فقد شاهده الأصمعي على شاطىء نهر ـ وكان في فصل صيف ـ يغوص غوصة ثم يخرج فيَعْـقـِد عقدة في حبل، فقيل له : ما هذا ؟ قال: جنابات الشتاء أقضيها في الصيف !!
ومثله صاحبه الآخر ،أعرابي قتله البرد فترخص ما شاء الله فقال معتذرا:
إليك اعتذاري مِنْ صلاتيَ قاعداً
على غير طُهْرٍ مُومياً نحو قبلتي
فليس ببردِ الماءِ عنديَ طاقةٌ
ولا قوةٌ عندي على ثَنْيِ ركبتي
ولكنني أحصيته ربِّ جاهداً
وأخرجُ مما فاتَ في وجه صيفتي
وأما من دفئت أرواحهم بأرواح الإيمان، وتلذذت أفئدتهم بمناجاة الرحمن ، فلم تشغلهم هذه التقلبات عن مقلبها ، بل رأوا فيها حكمة تدبيره وقدرته ، و وقتا من الأوقات التي هي أنفس ما عُمِّر ، و فرصة لاتفوت لـمُـدّخِر .
فيحكى أن أبا سليمانَ الدارانيّ رأى في طريقِ الحج في شدة برد الشتاء شيخا عليه أخلاق رثة ، وهو يرشح عَرَقا فسأله عن حاله ، فقال الرجل : إنما الحر والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمَرَهما أن يَغشياني أصاباني ، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني. وقال : أنا في هذه البَرِيّة منذ ثلاثين سنة يلبسني في البرد فَـيـْحا من محبته ،ويلبسني في الصيف بردا من محبته.
وقيل لآخر وعليه خرقتان في برد شديد لو استترت في موضع يكنك من البرد فأنشد:
ويحسن ظنّي أنني في فنائهِ
وهلْ أحدٌ في كنِّهِ يجد البردَا ؟
وبكى أحد الصحابة عند موته فسأل عما يبكيه فقال : والله لا أبكي على دنياكم ولا أبكي على فراقكم، ولكن أبكي على طول ظمأ الهواجر، وقيام ليالي الشتاء الطويلة
ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام ) وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: ( يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرأوا ،وقصر النهار لصيامكم فصوموا) . مصداق ذلك كله قوله عليه السلام 🙁 الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة )
في تفضيل الشتاء
لكن الإنصاف يقتضي منا أن نعتبر رأي آخرين لا يرون الشتاء بالعين التي نراه بها ، ففيه من المحاسن في نظرهم ما ليس في غيره مما ينسي مساوئه ، يقول أحدهم في ذلك : ( ومن محاسن الشتاء ، طول الليل الذي جعله الله سكنا ولباسا ، وبرد الماء الذي هو مادة الحياة ، وانقطاع الذباب والبعوض ، وعدم ذوات السموم من الهوام، هو حبيب الملوك وأليف المتنعمين يطيب لهم فيه الأكل والشرب، ويجتمع فيه الشمل، ويظهر فيه فضل الغني على الفقير، وهو زمان الراحة كما أن الصيف زمان الكد ).
وقال غيره : ( آكلُ فيه ما جَمَعتُ ، واستمتِعُ بما ادّخرْتُ ، وأي شيء أحسن من كانوني في (شهر ) كانون، والقعود في الطوارم مع الأحباب، وتناول الدراج والكباب …)
ومن الشعر في تفضيل ليالي الشتاء :
وليال أطَلْنَ مدّةَ درس
مِثلما قد مَدَدْنَ في عُمر لَهوِ
ومن منافعه أيضا مما لم يخطر لك على بال ، ما أخبر به رجل لما قيل له : ما لوجهك مستطيلا ؟ قال: ولدتُ في الصيف ، ولولا أن الشتاء أدركه لسال وجهي.
ثم لتعلم ـ أولا و أخيرا ـ أن البرد والحر آيتان من آيات الله في خلقه ، أجراهما بمقتضى حكمته ، دالان على قدرته في خلق الأضداد من الأزواج ، وأما ما فيهما من ضر فإنه بمقابل منافعها لا يذكر ، و هذا من ناموس هذا الكون وسننه ، ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار ، كما في قيل .
وبعدُ ، فحديث الشتاء طويل طول لياليه ، وإنما أردنا بهذه النبذة أن نبعث دفئا أدبيا لذوي الذائقة ، لنذيب به بعض الجليد في هذا الباب ، هذا ، وإن سألت عن حالنا مع الشتاء وبرده فنحن فيه ـ معاشر من شابت نواصيهم ـ بتنا نقول مع القائل :
إذا كان الشتاء فأدفئوني
فإن الشيخ يهرمه الشتاء
وأما حين يذهب كل قُرٍ
فَسِرْبالٌ خفيف أو رداء
وإن تسأل عن أطفالنا فقد تركتهم ينشدون ـ وقد احمرت أوداجهم ، وتورمت أصابعهم ، وتلحفوا معاطفهم ـ : البرد قارس في بومالن دادس عند المدارس .
و الحمد لله ، و إلى فصل آخر بحول الله