كيف تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى “شركات تابعة” لـ “إف بي آي” و “سي آي إيه”
كشفت ملفات تويتر اللثام عن تحالف سري بين وادي السيليكون وأجهزة المخابرات والنخبة السياسبة الأمريكية. كانت آخر مرة حاول فيها الكونجرس الأمريكي مواجهة أنشطة الأجهزة الأمنية المترامية الأطراف في البلاد منذ ما يقرب من نصف قرن.
في عام 1975، نجحت لجنة تشيرش (لجنة مجلس الشيوخ لدراسة العمليات الحكومية المتعلقة بالأنشطة الاستخباراتية) في إجراء معاينة، غير مكتملة، للمتاهة التي تعمل عبرها وكالات مثل وكالة المخابرات المركزية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ووكالة الأمن القومي (NSA).
بعد اندلاع فضيحة ووترغيت، اكتشفت لجنة الكونجرس والتحقيقات الأخرى ذات الصلة أن أجهزة المخابرات في البلاد لديها سلطات مراقبة أخطبوطية، كما تورطت في مجموعة من الأعمال غير القانونية.
لقد نفذت أجهزة المخابرات عمليات سرية، من التخريب إلى اغتيال مسؤولين أجانب. ثم وقع اختيارهم على مئات الصحفيين والعديد من المنابر الإعلامية حول العالم للترويج لروايات كاذبة. كما تجسسوا على المنظمات السياسية والمدنية وتسللوا إليها، وتلاعبوا بالنقاش العام لحماية وتوسيع سلطاتهم.
السناتور فرانك تشيرش نفسهحذر من أن سيطرة أجهزة المخابرات يمكن أن تنقلب في أي وقت “ضد الشعب الأمريكي، ولن يتمتع المزيد من الأمريكيين بالخصوصية”، وتشمل هذه السيطرة، قدرة المخابرات على مراقبة كل شيء، لهذا لن يكن هناك أي مجال للاختباء.
منذ ذلك الحين، تضاعفت الإمكانيات التكنولوجية للتدخل في الحياة الخاصة للناس، ونما مدى وصول وكالات الاستخبارات، خاصة بعد 11 ستنبر، بطرق لم يكن تشيرشيتخيلها أبدا.
قوى متعاظمة
أظهرت الوثائق التي كشف عنها المخبر إدوارد سنودن قبل عقد من الزمن وجود رقابة جماعية غير قانونية على الصعيدين المحلي والخارجي من قبل وكالة الأمن القومي(NSA). وأصدرت منظمة الشفافية التابعة لجوليان أسانج “ويكيليكس” ملفات لا تكشف فقط عن جرائم الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان، ولكن أيضا عن برنامج اختراق عالمي ضخم أنشأته وكالة المخابرات المركزية (CIA).
وتجدر الإشارة، بالنسبة لأولئك الذين يشككون في سلطة الأجهزة الأمنية وقدرتها على الانتقام، أن سنودن وأسانخ دفعا ثمنانتيجةأفعالهم. لقد أجبر سنودن على النفي في روسيا، باعتبارها ضمن الولايات القضائية القليلة التي لن تسلمه إلى واشنطن أو تسجنه، أما أسانخ فهو مسجون في الوقت الذي تنتظر السلطات الأمريكية تسلمه من أجل وضعه في سجن شديد الحراسة لبقية حياته.
بعد أن استحوذ على تويتر العام الماضي، منح إيلون ماسك حق الوصول إلى أرشيف الشبكة لعدد قليل من الصحفيين المستقلين، اللذين أجروا سلسلة من التحقيقات على مدى طويل، ونشرت على منصة تويتر في سلسلة ملفات طويلة تحت اسم “ملفات تويتر Twitter Files”، حيث يكشف هؤلاء الصحفيون عما كان يحدث في أيام مالكي تويتر السابقين.
باختصار، بعد انتخاب ترامب، شقت الوكالات الأمنية الأمريكية، بمساعدة الضغط السياسي، لا سيما من الحزب الديمقراطي، طريقها بقوة إلى عمليات صنع القرار في تويتر. وعلى يبدو أن الشبكات الاجتماعية الرئيسية الأخرى قد اتخذت ترتيبات مماثلة.
“أمر عديم الأهمية؟”
تشير ملفات تويتر إلى شراكة خفية، ولكنها ناشئة بسرعة، بين استخبارات الدولة ووادي السيليكون ووسائل الإعلام الرئيسية التي تهدف إلى التلاعب بالنقاش الوطني في الولايات المتحدة وكذلك في الكثير من ربوع العالم.
يبرر أعضاء هذا التحالف تدخلهم في السياسة الأمريكية، المخفي عن الرأي العام، كرد فعل ضروري على الصعود السريع للشعبوية الجديدة. فقد نجح ترامب وأنصاره في امتلاك اليد العليا في الحزب الجمهوري، وحقق اليسار الشعبوي بقيادة السناتور بيرني ساندرز بعض التقدم في الحزب الديمقراطي.
يبدو أن الأمن القومي رأى في التحالف مع القطاع الخاص لشركات التكنلوجيا الكبرى فرصة لحماية الحرس السياسي القديم، لا سيما داخل الحزب الديمقراطي. فقد اعتبرت شخصيات مثل الرئيس جو بايدن ورئيسة مجلس النواب السابق نانسي بيلوسي على أنهم أشخاص آمنون، في وضع يسمح لهم بالحفاظ على شرعية الرأسمالية النيوليبرالية الجامحة والحروب التي لا نهاية لها التي تشكل القوة الحياتية لمجتمع الاستخبارات.
قامت هذه الشراكة بخدمة جيمع الأطراف على نحو جيد، حيث يمنح وادي السيليكون يفضلها العديد من الليبراليين الذين يعتقدون أن أفضل طريقة لخدمة التقدم هي من خلال الوسائل التكنولوجية التي تعتمد على الاستقرار الاجتماعي والإجماع السياسي، لأن الشعبوية والاستقطاب الذي تولدهما التكنولوجيا بشكل طبيعي يقلق مضجعهم.
إن أجهزة الأمن وكثير من السياسيين المركزيين في الحزبين الجمهوري والديمقراطي يعرفون أنهم في مرمى السياسة الشعبوية بسبب إخفاقاتهم المستمرة منذ عقود؛ التي تتجلى في اتساع فجوات الثروة، واقتصاد الولايات المتحدة المتهالك، والخدمات الاجتماعية غير الموجودة أو المتداعية، وقدرة الأثرياء على شراء النفوذ السياسي، والأرواح والأموال التي تُفقد باستمرار في حروب لا طائل من ورائها خاضتها واشنطن في أراضٍ بعيدة، كا أن وسائل إعلام نادرا ما تتعامل مع مخاوف الناس العاديين.
بدلا من التركيز على الأسباب الحقيقية للغضب الهادر، قدمت الأجهزة الأمنية للسياسيين ووادي السيليكون خطابا عمليا ومريحا جدا؛ مفاده أن الشعبويين، اليساريين واليمينيين على حد سواء، لا يعبرون عن إحباطهم من فشل النظام الاقتصادي والسياسي الأمريكي، وإنما يعملون على زرع السخط الاجتماعي من أجل تعزيز مصالح روسيا.
واليوم، فإن مؤشر على السلوك السيء أو الإجرام المرتبك من طرف الأجهزة الأمنية، أو الإخفاقات المتوالية للطبقة السياسية، تم تعريفها على أنها “معلومات مضللة روسية”.
تم تصريف منفى سنودن إلى روسيا، الذي كان خياره الوحيد، لتشويه سمعة التحذير الذي أطلقه ضد وكالة الأمن القومي. كما تم الطعن في ما كشف عنه أسانج وويكيليكس عن جرائم حرب وجرائم مجتمع استخبارات من خلال تواطؤ مزعوم مع “قراصنة روس” لفضح الفساد في الحزب الديمقراطي خلال انتخابات عام 2016.
من الناحية العملية، أدت مزاعم “التضليل الروسي” ببساطة إلى زيادة الاستقطاب في السياسة الأمريكية.
للإشارة فإن القضايا الرئيسية التي أثارتها ملفات تويتر، التي تشمل تواطؤ الدولة العميقة مع قطاعي الإعلام والتكنولوجيا، والتلاعب والتدخل في الانتخابات، قد تم تقليل أهميتها وتغييبها من طرف السياسيين.
التحكم في النقاش السياسي
قد تكون مصادفة، لكن منذ استيلائه على تويتر، تحول ماسك من محبوب الليبراليين إلى شبه منبوذ. وفي أكتوبر، نفت إدارة بايدن التقارير التي تفيد بأنها تدرس مراجعة الأمن القومي لمثل هذه الأنشطة في مواجهة “موقف إيلون موسك المتزايد تجاه روسيا”، وسرعان ما انهارت مكانته كأغنى رجل في العالم، وكذلك سمعته.
في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، زُعم أن روسيا تواطأت مع ترامب وساعدته باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لزرع الفتنة والتلاعب بالناخبين الأمريكيين. بعد ذلك، فشل التحقيق الرسمي لروبرت مولر (محقق خاص ومدير سابق لـ إف بي آي) في إثبات هذه الادعاءات.
تشير ملفات تويتر إلى أن جهاز الأمن الأمريكي، أشد وطأة روسيا، هو الذي يشكل تهديدا حقيقيا للديمقراطية الأمريكية. وهكذا فإن مناخ الخوف الذي غذته هذه الوكالات بشأن “التضليل الروسي” المزعوم لم يؤثر على الرأي العام فحسب، بل أعطى أيضا مجتمع الاستخبارات نفوذاً أكبر على وسائل التواصل الاجتماعي وحرية أكبر في حشد المزيد من السلطات.
والواقع أن ممثلي الدولة هم من يقررون من يسمح له بسماع صوته على وسائل التواصل الاجتماعي وماذا يمكن أن يقال هناك، حتى ترامب تم حضره عندما كان رئيسا. وغالبا ما يتم اتخاذ هذه القرارات ليس لمنع الجريمة أو لإنفاذ القوانين، أو حتى من أجل الصالح العام، ولكن الهدف هو احكام السيطرة على النقاش السياسي من أجل تهميش المنتقدين الجادين للمؤسسة.
إن حقيقة أن التواطؤ بين منصات التواصل الاجتماعي وهذه الوكالات حدث في الخفاء هو في حد ذاته مؤشر على الطبيعة الهدامة لما يجري.
ضغط خفي
تكشف ملفات تويتر عن ظاهرة يبدو أنها تحدث على جميع الشبكات الاجتماعية.
الحقيقة التي كشفت عنها ملفات تويتر هي أن هذه الشبكات غالبا ما كانت تتفاعل مع ضغوط خفية، سواء مباشرة من الحكومة الفيدرالية أو من خلال وكالات استخباراتها، من خلال تقييد ما يمكن قوله. كما أوضحت ملفات تويتر مرارا وتكرارا، فإن تويتر، مثل الشبكات الاجتماعية الأخرى، لم تعد تعمل فعليا كشركة خاصة ولكن باعتبارها “نوعًا من الشركات التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي”.
في عام 2017 ، في ذروة الخوف المثار من “مؤامرة روسيا غيت”، أنشأ مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI فرقة عمل معنية بالتأثير الأجنبي سرعان ما ارتفع عملاؤها إلى 80 عميلا. كانت مهمة الفرقة العلنية هي الاتصال بالشبكات المختلفة لوضع حد للتدخل الأجنبي المزعوم في الانتخابات.
وهكذا سارع المسؤولون التنفيذيون في تويتر إلى الاجتماع والتواصل مع كبار أعضاء مكتب التحقيقات الفيدرالي بشكل منتظم، بينما يتلقون عددا لا نهائيا من طلبات إزالة المحتوى لمنع “التضليل الروسي”. يبدو أن وكالة المخابرات المركزية قد حضرت هذه الاجتماعات أيضا ، تحت عنوان “وكالة حكومية أخرى”. على الرغم من أن اختصاص فرقة العمل هذه كان نفوذا خارجيا ، إلا أنها كانت ستصبح “قناة لجبال من المطالب بضبط النفس الوطني، والحكومات المحلية، وحتى الشرطة المحلية”.
تحت ضغط متزايد من الاستخبارات وراء الكواليس، ومن السياسيين علنا، ورد أن الشبكات الاجتماعية بدأت في تجميع قوائم سوداء سرية، بمساعدة معلومات من الأجهزة الأمنية ، للحد من وصول حسابات معينة أو منع الأشخاص من امتلاك التأثير.
“النفوذ” الروسي
رمت تداعيات “روسيا غيت” بتويتر في أحضان الأجهزة الأمنية. ففي أوائل عام 2018، قدم النائب الجمهوري، ديفين نونيس، مذكرة سرية إلى لجنة المخابرات بمجلس النواب توضح بالتفصيل الانتهاكات المزعومة لمكتب التحقيقات الفيدرالي في مراقبة شخصية مرتبطة بترامب.
وبحسب ما ورد اعتمد مكتب التحقيقات الفيدرالي على “ملف ستيل”، الذي قيل إنه تم تمويله جزئيا من قبل كلينتون والحزب الديمقراطي، ولكن تم تقديمه في البداية من قبل وسائل الإعلام على أنه تحقيق مستقل من قبل وكالات الاستخبارات لفحص أي تواطؤ بين فريق ترامب وموسكو.
تسببت أخبار المذكرة في عاصفة على وسائل التواصل الاجتماعي بين مؤيدي ترامب، مما أدى إلى انتشار هاشتاغ #ReleaseTheMemo الذي يطالب بالإفراج عن المذكرة.
كان الضغط يتزايد على شركات التكنولوجيا الكبيرة، ولم تستطع تحقيقات تويتر الخاصة أن تشير إلى أي تورط روسي، مما يشير إلى أن الهاشتاغ كان يتجه بشكل طبيعي، وكان يغذيه مغردون مهمون جدا VIT، أدى عدم قدرة تويتر على الكشف عن حسابات المؤثرين الروس بوليتيكو إلى اتهام المنصة بـ “إزالة” البيانات التي يحتمل أن تكون حاسمة في التحقيقات الروسية. أما التحقيق الأصلي الذي أجراه موقع تويتر 2700 حساب، فقد كان مرجعا لادعاءات إعلامية غريبة باكتشاف “شبكة جديدة” من الروبوتات الروسية.
حجاب قاتم من السرية
عندما بدأت ملفات تويتر في الصدور في ديسمبر، لم يستجب مكتب التحقيقات الفيدرالي بمعالجة صحة المستندات، ولكن من خلال طرح نفس اللعبة كما كان من قبل. واتهمت المؤسسة الصحفيين المعنيين بنشر “نظريات مؤامرة” و “معلومات مضللة” من أجل “تشويه سمعة الوكالة”.
وتستمر هيلاري كلينتون، عميدة المؤسسة الديمقراطية، إلقاء اللوم في مشاكل بلدها على التضليل الروسي.
والحق يقال، لقد استثمرت كل من الأجهزة الأمنية والمؤسسة السياسية الكثير في الترتيبات السرية الحالية مع وسائل التواصل الاجتماعي لقبول التغيير.
ومن غير المرجح أن تزداد الضغوط مع استمرار الولايات المتحدة في التنقل من أزمة إلى أخرى ، من “الحرب على الإرهاب” إلى الغزو الروسي لأوكرانيا ، إلى رئاسة ترامب ووباء كوفيد -19. وتجدر الإشارة إلى أن كل هذه الأزمات هي إرث من القرارات السياسية التي اتخذها نفس هؤلاء الفاعلين الذين يرفضون اليوم أي إشراف.
تعمل هذه الأزمات كذريعة ليس فقط لهذا التقاعس عن العمل، ولكن أيضًا لإحكام السيطرة أكثر على الساحة العامة الرقمية التي تمارسها الدولة، ليس بطريقة شفافة ، ولكن تحت غطاء قاتم من السرية.
* جوناثان كوك هو مؤلف لثلاثة كتب عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وفاز بجائزة مارثا جيلهورن للصحافة الخاصة.
المقال الأصلي:
ترجمه (بتصرف) عبد الحكيم الرويضي