توفيت الناشطة الاجتماعية والمدافعة عن حقوق المرأة عائشة الشنا، يوم الأحد بإحدى المصحات بالدار البيضاء عن سن ينهاز 81 سنة، بعد صراع مع المرض، حسب ما علم لدى مصادر طبية.

رحيل الشنا المفجع جاء بعدما رسمت مسار حياة استثنائي، كافحت فيه من أجل القضايا التي تبنتها حتى آخر رمق، إلى أن فارقت الحياة في سكينة.

ارتبط اسم عائشة الشنا، المولودة بالبيضاء سنة 1941، بالدفاع عن قضايا النساء ترافعا وفعلا مدنيا ميدانيا لتوفير الحماية لشريحة الأمهات العازبات وأطفالهن والنساء المغتصبات، مسار لم يكن من السهل السير على دربه في سياق مغربي تتجاذبه تيارات سياسية وإيديولوجية يقف بعضها في النقيض من العمل الذي قامت به، لكنها جعلت من جمعية “التضامن النسوي” تفرض نفسها بقوة في المشهد الجمعوي المغربي، وتحوز بفضل عملها ضمنها بجوائز عديدة وطنية ودولية، وأكثر ما كانت تتحدث عنه الشنا في هو حصولها على الميدالية الشرفية لمؤسسة محمد الخامس للتضامن ولقاؤها بالملك محمد السادس، الذي لم تكن تخف في الاتصالات الهاتفية معها لعمل صحفي مساندته لها ولعملها ودعمه لها عندما أصيبت بالسرطان سنة 2006.

لغة مباشرة ترفض المنع من الكلام 

ولم يكن خطاب الشنا عسيرا لفك شفراته، فهي تتحدث لغة تصل مباشرة إلى إدراك المغربيات والمغاربة بدارجة بسيطة وبعمق إنساني متشبع بقصص نساء كثيرات التقتهن واستمعت إليهن ورافعت من أجلهن ودونت بعضا ممن روين لها في كتاب عنونته بـ “البؤس: شهادات”. هذه القضايا التي حملتها معها إلى الرمق الأخير كانت ما تحكي عنه الشنا بسخاء وافر وبعزيمة لا تلين، حتى وصوتها يصل متعبا عبر الهاتف، حتى وهي تتحدث عن انشغالها الكبير بالتكفل بزوجها حينما كان مريضا قبل أن يغادر الحياة سنة 2018.

لقبها البعض بـ”الأم تيريزا”، لكنها “الأم الشنا”، فهي صنيعة واقع مغربي عاشته بكفاح منذ سنوات شباب مبكر، تنقلت بسبب الظروف العائلية وهي طفلة من الدارالبيضاء مسقط رأسها إلى مراكش، ثم عادت للبيضاء لتتم دراستها، واضطرت للعمل وهي في سن السادسة عشر في جمعية لمكافحة داء السل والجذام، ثم واصلت تكوينا في التمريض، قبل أن تشتغل موظفة في وزارة الصحة.

امرأة لا تداري الشمس بالغربال

فتحت الشنا عينيها على العمل التطوعي والاهتمام بقضايا النساء مبكرا، بداية كمتطوعة بالعصبة المغربية لحماية الطفولة والتربية الصحية، ثم مع الاهتمام ببرامج التوعية الصحية للنساء بإذاعة الدارالبيضاء سنة 1972، إلى غاية تأسيس جمعية التضامن النسوي سنة 1985، والتي كلفتها كفاحا مزدوجا، من أجل قضايا النساء العازبات وضحايا الاغتصاب، وآخر ضد تيار يرفض هذا النوع من الالتزام ويعتبره خارجا عن قيم المجتمع المغربي، لكنها كانت ترفض تغطية الشمس بالغربال والتستر على واقع يكشف عن نفسه بشكل يومي ولا ينبغي في نظرها الهروب منه أو تجاهله، كما كانت تعبر عن ذلك مرارا.

الشنا التي أمضت حوالي أربعة عقود من عمرها في الدفاع عن حقوق الأمهات العازبات وأطفالهن، وواجهت حملات تشهير ضدها في بعض المرات، من لدن من اعتبروها تشجع على “الفاحشة وتمس بتقاليد المجتمع المغربي المحافظ”، وبين من ذهب بعيدا في رجمها بتهم ما أنزل الله بها من سلطان. وأمام كل المضايقات التي تعرضت لها كانت تقف صخرة صلبة في وجه كل معيقات يمكن أن تحد من معاناة الفئة الاجتماعية من النساء اللواتي تكلفت بإيصال آلامهن وآمالهن. واستطاعت ترسيخ توصيف “الأمهات العازبات” في القاموس المدني المغربي والتداول الإعلامي وفي النقاشات العمومية رغم مناهضة من يرون فيه مفهوما غريبا عن التربة المغربية وأن “الأم هي الأم الشرعية التي تلد في إطار الشرعية والزواج المعترف به اجتماعيا ودينيا”.

امرأة جابت قرى ومدن المغرب ولم تنتظر شيئا من السياسيين 

كانت الشنا ، رغم تقدمها في السن، امرأة لا يتعبها أن تجوب المغرب طولا وعرضا بحواضره وقراه لحث النساء والشباب عن ضرورة امتلاك ثقافة جنسية لحماية المجتمع، حسب منظورها، من عواقب الولادات خارج إطار الزواج ولدرء معاناة قانونية ونفسية واجتماعية عن هؤلاء الأطفال وأمهاتهن خاصة. في حديث هاتفي مطول معها كانت قد قالت لي: “أنا لا أدعو للحرية الجنسية بالمفهوم الغربي، أقول إنه يجب الأخذ بعين الاعتبار الأصول المغربية وهذا لا يتنافى مع أن نوفر لأبنائنا تربية جنسية”، وهي تشدد على أنها لا تراهن على السياسيين وتتجه للمجتمع مباشرة حيث يكمن المشكل، وتضيف: “لا أنتظر شيئا من السياسيين هم لا يعيرون اهتماما لهؤلاء الأطفال، الحل عند الشباب ويجب تغيير العقليات”. و كانت تحكي أن المقابلات الكثيرة التي أجرتها في السنوات الأخيرة في عدد من المدن المغربية بمدارس وجامعات، لقيت ترحيبا وقبولا من لدن الشباب، خاصة حينما يكتشفون، على حد قولها، أن إثارة موضوع العلاقات الجنسية تتم بطريقة تربوية قصد التحسيس و فتح أعينهم على “عواقب الانجرار وراء الشهوة والرغبة في سن يتميز بتغيرات جسمانية وهرمونية كبيرة”.

وتلوم الشنا فئة من المجتمع التي تعاقب أطفالا لا ذنب لهم بنظرة انتقاصيةواحتقارية حينما يسمون أطفالا جيء بهم دون مشورتهم، “أبناء زنا” أو “أولاد حرام” ولا يدخرون أوصافا قدحية لنعت الأم كذلك. “هذه المرأة لم تأت بهذا الطفل وحدها، بل مع رجل ، وتتحمل في الأخير مسؤولية صعبة لوحدها، قد تضحي بدراستها وعملها وتصبح منبوذة في المجتمع”، تقول الشنا وهي تعود القهقرى لعقود من الزمن حيث تحكي عبر الهاتف وتشرح كيف أن المجتمع المغربي كان لا يجرم العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، فالعديد من الزيجات تمت فقط بقراءة الفاتحة دون عقد، لكنها تؤكد على أن القبيلة كانت تكون شاهدا على تلك العلاقة مما يمنحها شرعية اجتماعية، بل وتقول كذلك أن الأطفال الناجمين عن تلك العلاقة لم يكونوا في نظر الناس “أولاد حرام” بل “أبناء الرضى” مستعيرة التوصيف من جدها الذي توفي سنة 1932 وهو رجل دين تخرج من القرويين، قائلة أن أطفال هذه العلاقة كانت حقوقهم محفوظة: “أجدادنا لم يكونوا يرمون أطفالهم، وكان الطفل المولود خارج الزواج يرث من أبيه” متسائلة ما الذي غير العقليات اليوم حتي صار مصير هؤلاء الأطفال حاويات القمامة؟ التحولات التي عرفتها الذهنيات المغربية حسب ما تحكيه من خلال وقائع تاريخية تقول أنها هي التي أملت تسمية الأم التي لا تتوفر على عقد زواج ” أما عازبة” و أنه من باب حمايتها صار واجبا إن لم يرغب الأب في الزواج منها، القيام بتحليل الجينات كي يستفيد الطفل من نسب أبيه وتتم حماية حقوقه الاجتماعية.

غادرت الشنا وستبقى وشما في ذاكرة أطفال ونساء كثيرات كانت سندا لهن في بيئة ترمي بهن وأبنائهن للهامش، ومرجعا، مهما اختلفت المواقف من عملها، في العمل الجمعوي الذي يصل ويتواصل مع المجتمع مباشرة بكل ما يحمله ذلك العمل من إكراهات ومعيقات ثقافية وسياسية ومادية، ومهما فرقت الإيديلوجيا الرؤى حولها، فإنسانيتها التي أفنت في سبيلها عمرا يجمع عليها من أحبوها وساندوها ومن اختلفوا معها.