قصر بيرديكاريس في طنجة يحكي جزءا من تاريخ المغرب المضطرب ما بين أطماع الاستعمار ومغامرات الريسوني
اعتبرت فعاليات ثقافية بمدينة طنجة، أنه وعلى الرغم من المبلغ الضخم الذي خصص لعملية ترميم وإعادة تأهيل قصر برديكاريس الذي شيده المواطن الأمريكي من أصل يوناني، إيونبيرديكاريس، سنة 1878 في قلب غابة الرميلات الشهيرة بمدينة طنجة، إلا أنه لم يتم الأخذ بعين الاعتبار المحافظة على المظهر الخارجي للقصر كمعلمة يعود تصميمها وهندستها للعصور الوسطى، مشيرين إلى أننا لم نتخلص بعد من ثقافة الأضرحة والزوايا التي تعشش في عقولنا.
وطالبوا في حديث مع موقع “لكم”، إلى تسليط الأضواء على “الاختطاف” الذي تعرض له إيونبيرديكاريس قبل حوالي قرن ونصف من الزمن ودورأحمد الريسونيأو بريسول، كأهم حدث له علاقة بقصر بيرديكاريس، تناقلته وسائل الإعلام العالمية طوال مدة الاختطاف، والذي تصدر صفحات الجرائد والمجلات، مؤكدين على ضرورة إشراك المؤرخين والباحثين في تاريخ شمال المغرب في هذا الموضوع.
وذلك في سياق تحويل قصر بيرديكاريس، إلى مركز تعريف التراث شهر ماي الماضي، يجمع بين التعريف بهذه الشخصية التاريخية واستعراض التنوع البيولوجي لهذه المنطقة وللجهة ككل.
وأضاف من تحدثوا مع موقع “لكم”، أنه وعلى الرغم من المبلغ الضخم الذي خصص لعملية ترميم وإعادة تأهيل قصر برديكاريس الذي شيده المواطن الأمريكي من أصل يوناني، إيونبيرديكاريس، سنة 1878 في قلب غابة الرميلات الشهيرة بمدينة طنجة، إلا أنه لم يتم الأخذ بعين الاعتبار المحافظة على المظهر الخارجي للقصر كمعلمة يعود تصميمها وهندستها للعصور الوسطى، مشيرين إلى أننا لم نتخلص بعد من ثقافة الأضرحة والزوايا التي تعشش في عقولنا.
دعوة لرد الاعتبار للتراث الثقافي الطنجي.
وفي هذا الصدد، قال أحمد الزيداني الباحث في تاريخ المغرب، أن مدينة طنجة مرت بها العديد من الحضارات القديمة التي تركت بصمات بارزة في محيطها الحضاري، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر: المدينة القديمة، منطقة مرشان، منطقة الشرْف، الميناء، منطقة مالاباطا، رأس سبارطيل…بالإضافة طبعًا إلى التراث الثقافي غير المادي..، لكن ومع كل هذا التميز والتنوع، للأسف لا نجد موقعا واحدا طبيعيا أو ثقافيا طنجاويا ضمن مواقع التراث العالمي باللائحة التي تعدها لجنة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، فقط هناك تطاوّن -المدينة القديمة- تمثِّل كل الشمال من بين تسعة مواقع مغربية.
واعتبر الباحث، أن غياب مدينة طنجة، أو على الأقل مواقع داخلها، عن هذه اللائحة دليل على أن الجهات المسؤولة لم تقوم بواجبها، وهو كذلك دليل على تواطؤ بعض منتخبي المدينة و ممثلي المجتمع المدني في طمس هوية وذاكرة المدينة ومحيطها، معتبرا أنه ومن هنا تظهر أهمية انخراط الجميع في الحفاظ على الإرث التاريخي للمدينة لرد الاعتبار للتراث الثقافي الطنجي وتثمينه وصيانته من الضياع وتمريره للأجيال اللاحقة.
أما الباحث خالد طحطح، فقد اعتبر في تصريح لموقع “لكم”، أن افتتاح قصر بيرديكاريس بعد تأهيله وتحويله لمتحف خطوة مهمة في مجال ثتمين التراث المادي التاريخي لمدينة طنجة التي تزخر بمعالم كثيرة تؤرخ لفترات مختلفة، مشيرا في تصريحا لموقع “لكم”، إلى أن كل الفضاءات التي يتم إصلاحها تساهم بشكل أو بآخر في ضخ دينامية جديدة في مجال السياحة الثقافية للمدينة.
وأضاف المتحدث، لا شك أن موقع بيرديكاريس ضمن فضاء أخضر يستقطب مئات الزائرين أسبوعيا سيشكل إضافة نوعية وسيسهم في التعريف بهذه المعلمة، خاصة وأن اسم غابة الرميلات ارتبطت بشخصية بيرديكاريس وبالبناية التي شيدها السفير وأقام بها رفقة زوجته وعائلته خلال فترة عصيبة من تاريخ المغرب.
تأهيل القصر يدخل في إطار برنامج طنجة الكبرى
ويعتبر القصرمن المعالم الشهيرة بعاصمة البوغاز، ويقال أن يون بيرديكاريس وعد زوجته بأنه سيبني لها قصرًا في أجمل مكان في العالم، وبعد أن تجوَّل في القارات الخمس قرر أن يكون المكان في غابة الرميلات فجلب إليه كل أنواع الأشجار، ومنها شجرة الصفصاف التي دخلت أول مرة للمغرب، وجاء بها من دولة استراليا.
ومما زاد من شهرة هذا القصر، هو تناول السينما الأمريكية سنة 1975، لحدث اختطاف الشريف أحمد الريسوني لبرديكاريس، من خلال فيلم تحت عنوان “الريح و الأسد”، الذي اعتبر أهم عمل فني وأدبي خلد شخصية أحمد الريسوني، وإن كان الفيلم تحدث عن اختطاف زوجة بيرديكاريس، وهي المعلومة المتداولة رغم عدم صحتها.
وخضع القصر لعملية إصلاح وتأهيل كبيرة، تقول الجهات الرسمية أنه حافظ على أهم العناصر الديكورية الأصلية، وفي هذا الصدد، اعتبر المدير الجهوي للثقافة، كمال بنليمون، أن “قصر بيردكاريس يشكل نقطة مضيئة وإيجابية في التاريخ والذاكرة الدبلوماسية والثقافية لمدينة طنجة”، موضحا أن مشروع ترميمه وتأهيله وإعادة الاعتبار إليه يدخل في إطار المشاريع التراثية ضمن المحور الثقافي لبرنامج طنجة الكبرى الذي أشرف عليه الملك محمد السادس.
وأضاف المتحدث في تصريح لوسائل الإعلام، على هامش افتتاح المشروع شهر ماي الماضي، أن مشروع الترميم تطلب 20 مليون درهم، وذلك في إطار اتفاقية شراكة بين قطاع الثقافة وقطاع المياه والغابات وتحت إشراف ولاية الجهة، ومن المنتظر أن يساهم في تنويع المدارات السياحية الثقافية وتحويله إلى قبلة دائمة للتنشيط الثقافي على مدار السنة.
من هو بيرديكاريس؟
يقدم الباحث أحمد الزيداني في حديث مع موقع “لكم”، يون بيرديكاريسIon Hanford Perdicarisبأنه ازداد سنة 1840 باليونان حيث كان يعمل أبوه سفيرًا للولايات المتحدة الأميركية لم يستطع متابعة دراسته بجامعة هارفارد، فانتقل للدراسة في مدرسة الفنون الجميلة بباريس وهنا كذلك فشل في دراسته.
استطاع والده، غريغوريبيرديكاريس اليوناني الأصل أن يحصل على الجنسية الأمريكية بعد أن جمع ثروة كبيرة باستثماره في قطاع الغاز بعد أن أسس شركته Trenton GasCompany.
رسم لإيونبيرديكاريس
خلال الحرب الأهلية الأمريكية هرب الابن بثروة أبيه التي كانت ستصادرها الحكومة الأمريكية مستغلًا جنسيته اليونانية، ورحل للعيش بإنجلترا حيث تعرف على إلين فارليEllen Varley وتزوجها في نفس السنة – 1873- التي طلقت من زوجها. وفي سنة 1884 انتقل الزوجان وأبنائهم للعيش والاستقرار بطنجة.
اكتسب شهرة وسلطة كبيرة بالمدينة كأهم شخصية سياسية واقتصادية، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مثَّل جمعية الأجانب في طنجة والتي كانت تفرض قراراتها على ممثلي القنصليات الأجنبية للضغط على المخزن، ساهم في ظهور مرافق عمومية بالمدينة، كبناء نظام حديث للصرف الصحي لأول مرة بالمدينة، من خلال مؤسسة اللجنة الدولية للنظافة والتي ترأسها، كما كانت له سلطته في إقالة موظفي الوكالات الدولية التي كان يعارضها ومنهم على سبيل المثال قنصل الولايات المتحدة بالمدينة Félix Mathews. وهو أحد أهم الداعمين للماسونية بالمغرب والتي كانت تنظم محافلها بقصره، بفندق المنزه اليوم.
قصة بريسولوبيرديكاريس
علاقة بريسول أو الشريف أحمد الريسوني، ببرديكارس، شابتها العديد من المعطيات الخاطئة، خاصة بعد أن خصصت السينما الأمريكية عملا فنيا تحت عنوان “الريح و الأسد”، والذي أشار إلى أن الريسوني اختطف زوجة بيرديكاريس، والواقع أن المختطف هو الديبلوماسي بيرديكاريس نفسه، كما أن هناك مجموعة من وجهات النظر حول هذه القضية.
وفي هذا السياق، قال خالد طحطح، الباحث والمهتم بتاريخ طنجة، أنه تم اختطاف السفير الأمريكي ايون بيرديكاريس اليوناني الأصل وصهره الإنجليزي فارلي يوم 18 ماي 1904 من طرف الثائر أحمد الريسوني الذي هجم على قصر بيرديكاريس الكائن بالجبل الكبير الواقع بغابة الرميلات، وذلك انتقاما من أولاد ابن عبد الصادق الذين كانوا يحكمون مدينة طنجة، وكان والي طنجة من هذه الأسرة آنذاك قد قبض على الريسوني بالحيلة سنة 1895 بعد توالي الشكايات ضده واقتيد إلى سجن الصويرة حيث قضى هناك ست سنوات. وهذه الحادثة زادت من نقمة الريسوني على أسرة بن عبد الصادق والسلطة المركزية. أطلق سراح الريسوني بتدخل من الفقيه الحاج محمد الطريس الذي استشفع فيه وأطلق سراحه عام 1900.
وأضاف الباحث، بعد خروج الريسوني من السجن عاد إلى حياة المغامرة خاصة وأن أمواله صادرها عامل طنجة عبد السلام بن عبد الصادق، وقد استغل الريسوني أو بريسول الوضعية الصعبة للمخزن واشتغاله بإخماد ثورة بوحمارة فاستعاد نشاطه السابق الذي شمل طنجة ذات التمثيل الديبلوماسي الدولي ونواحيها، وركز على اختطاف الشخصيات المهمة، فقد سبق له اختطاف الصحافي والتر هاريس في 16 يونيو 1903م، وبعد سنة من ذلك وبالضبط يوم 18 ماي 1904 اختطف بيرديكاريس وصهره، وهو ما مكنه من تحقيق مجموعة من المكاسب السياسية والمادية. فمقابل اطلاق سراح بيرديكاريس وصهره طالب الريسوني بفدية مالية قدرها سبعون ألف ريال، بالإضافة الى شروط أخرى منها تسريح عدد من المساجين التابعين له ومطالبته بضرورة عزل غريمه الحاج عبد السلام بن عبد الصادق عن ولاية طنجة، وتنازل المخزن عن مدشر الزينات ومدشربرييش وجعلهما تحت نفوذ حكم الريسوني، مع إلزامية إبعاد المحلة العسكرية المرابطة بفحص طنجة والتي كانت تستهدف الهجوم على المناطق التابعة له.
رغم هذه الشروط، التي توصف بالكبيرة والثقيلة، أذعن السلطان عبد العزيز لها ـ حسب الباحث طحطح ـ بعد مفاوضات صعبة باشرها عن الجانب المخزني محمد الطريس، وكانت الزاوية الوزانية تقوم بدور الوساطة بين الجانبين لمكانتها الدينية، وبعد التوصل لتسوية مرضية تم اطلاق سراح بيرديكاريس وفارلي يوم 25 يونيو 1904.
واعتبر المتحدث في تصريح لموقع “لكم”، أن هذه حادثة اختطاف بيرديكاريس، شكلت ضربة قاسية لسلطة المخزن التي كانت تتهاوى باستمرار، فقد وضعت أزمة الاختطاف السلطان عبد العزيز في أزمة ديبلوماسية ومأزق سياسي عويص، فقد وجهه القنصل الأمريكي سمويل روني كومري رسالة احتجاج للمخزن تطالبه بضرورة الإسراع في إطلاق سراح سفيرهم والاستجابة الفورية لشروط الريسوني، وقد أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية بالموازاة ست بارجات حربية الى سواحل طنجة، وهو ما جعل السلطة المركزية تعمل على حل المشكلة بسرعة كبيرة لتجنب التهديدات الأمريكية والبريطانية. كما استغل طايانديي الوزير الفرنسي المفوض في طنجة حيث طرح مشروع ضرورة تكوين شرطة بطنجة تؤطرها القوات الفرنسية وهو ما جعل هذه الدولة تقوي من نفوذها بعد الاتفاق الودي الذي أبرمته مع إنجلترا في نفس السنة (1904).
أما الباحث أحمد الزيداني، فقد اعتبر في تصريح لموقع “لكم”، أن “الريح و الأسد” يعتبر أهم عمل فني وأدبي خلد شخصية الشريف مولاي أحمد الريسوني، رغم أن المخرج استبدل الشيخ بيرديكاريس بالشابة Candice Bergen وأبنائها، ولعب الراحل شون كونريSean Connect دور الريسوني، مشيرا إلى أنه كان لابد من إدراج الغزو في الفيلم لأن الأمريكيين الذين عرفوا بالقضية كانوا مقتنعين بأن روزفلت قد غزا المغرب لحل عملية الاختطاف.
لكن المختطف كان بيرديكاريس وكذلك ربيبه كرومويلفارليCromwell Varley، يضيف المتحدث ـ أما زوجته فقد سلمها الريسوني رسالة لمندوب السلطان محمد الطريس يخبره بالأمر ويشير فيها أنه لن يتعرض للمعتقلين بأي سوء بل فقط سيستعملهم لإرجاع حقه الذي سُلب منه بسبب حقد موظفي المخزن.
والأكثر من ذلك فإن بيرديكاريس حين اختطافه لم يكن يحمل الجنسية الأمريكية رغم أن أغلب المؤرخين أو جلهم دَكروا أنه كان أميركيًا، كما أن الإدارة الأمريكية أخفت الأمر وباقي تفاصيل القضية، وظل سرا حتى عام 1933، لكن هناك من أشار إلى أنه لاحقًا حصل على جواز السفر الأمريكي.
السياق التاريخي لهذه الواقعة
عن السياق التاريخي لهذا الحدث الحدث الكبير، يقول الزيداني، أن الريسونيترك سجن موغادور( جزر الصويرة) بصماته في جسد ونفسيته رافقته طوال حياته، فبعد أن خرج سنة 1900 بدأ بإجراءات لدى المخزن لإعادة أملاكه المحتجزة، لكن تعنت السيد بركاش باشا طنجة ورفضه فتح الموضوع وإعادة الأملاك المصادرة دفع الريسوني لتهديده، فكان جواب الباشا أنه إذا رجع لعادته القديمة فما زالت هناك السجون لتأديبه، فبدأ ينتقم من الذين كان يعتبرهم الحاقدين عليه، ولم تكن تمنعه أسوار طنجة في ملاحقة أعدائه فانتشر الرعب بين الغربيين بعد أن منعهم من الخروج من المدينة أو السفر لعاصمة البلاد فاس، فتوالت الضغوطات على المخزن، الذي قاد حملة نحو الزينات معقل الريسوني، إلا أن وجود الإنجليزي والتر هاريس Walter Harris بالمنطقة أعطى فرصة للريسوني لاعتقاله وتهديد المْحلة بقتله إذا اقتربت من قلعته، كان ذلك قبل سنة تقريبا من اختطاف بيرديكاريس 16/06/1903، لكن مدة الاعتقال هنا كانت قصيرة بعد أن هاجم أكثر من ألف أنجري أصدقاء الانجليزي الزينات وإطلاق سراحه.
خلال هذه الفترة ـ يضيف المتحدث ـ كان المخزن مشغولًا بمنع انتشار ثورة الجيلالي الزرهوني- بوحمارة بالمنطقة، وبعد أن تأكد من فشل الأخير في نشر سلطته بتطوان، توجهت ثلاث مْحلات للزينات لمواجهة الشريف، ومع بداية مارس سنة 1904 استطاع هزيمة محلة طنجة وردها، لكنه رغم ذلك لم يغتر بانتصاره لأنه كان يعلم باقتراب محلتين آخرتين – واحدة من القصر الكبير وأخرى من تطوان- فهرب مع جنوده لقبيلة بني عروس، فحاصرت محلة القايد مولاي بوبكر القبيلة وشددت الحصار عليها، وأمام ضغط أعيان وشرفاء القبيلة على مدشر طردان لتسليم الهارب، فكر الريسوني في وسيلة تنقذه من ورطته، وكانت قضية اختطاف هاريس مازالت قريبة، لكن هذه المرة يجب أن يكون المستهدف أجنبي مرموق وله وزنه المعتبر لإلزام مْحلة السلطان بالانسحاب خارج القبيلة والحصول على ضمانات من أي انتقام في المستقبل.
من المهم هنا الاشارة إلى أن فرنسا وإنجلترا وقعتا عقدًا سريًا يوم 8/04/1904 سُميّ بالعقد الودي والذي أعطى ” الحق” لفرنسا بالسيطرة على المغرب مقابل تنازلها عن “حقها” بمصر مع الاحتفاظ “بحق” إسبانيا – دون علمها- بشمال المغرب.
كيف خطط الريسوني لهذا الإختطاف وتبعاته؟
على هذا المستوى، اعتبر الزيداني، أنه قد يبدوا من الوهلة الأولى أن بيرديكاريس لم يفكر في أمن قصره الذي بناه بعيدًا عن طنجة بأكثر من ستة كيلومترات، لكن المصادر تشير إلى أنه كان متصلًا بشبكة التليغراف مع طنجة وهو ما يؤكده وصول الإنقاذ بعد نصف ساعة فقط من الاختطاف، هذا بالإضافة إلى الحرس الخاص والخدم الذي كان يرافق المليونير لقصره.
والمعروف كذلك، أنه كانت تنظم هناك حفلات تحضرها النخبة من الجالية الغربية وممثليها وكذا التجار والأعيان المغاربة وموظفي المخزن، لذلك من المستبعد جداً الشك في أمن القصر وأمن ضيوفه.
بعد أن اشتد الحصار على الريسوني،اختفى عن الأنظار قبل ستة أيام من الموعد الذي حدده للعملية التي قادها بنفسه، فخرج متخفيًا من بني عروس وتوجه لضواحي طنجة وهو مصمم في خطته التي أعدها بدقة فائقة، وبدون شك هناك حدد فريسته والتي كانت تمثّل رأس حربة الغطرسة الغربية بطنجة والمغرب، فاختار للمهمة كوماندو خاص من 18 فردًا من الذين يثق بهم و كفاءتهم، حيث كان يراقب تحركات بيرديكاريس، الذي انتقل مع عائلته لمنتجع الرميلات، يوم 16 ماي، أي قبل يوم من تنفيذ العملية، استطاع المهاجمون اقتحام القصر والسيطرة على الحرس والخدم دون أن تشعر العائلة بوجودهم، فأمر الريسوني سيد القصر وابن زوجته فاريلي بأن يركب كل منهم حصانه و يرافقونه إذا كانوا يريدون الحفاظ على حياتهم وحياة أسرهم.
وبسرعة اتخذت ملاحقة المخزن للريسوني منحى آخر، وتم تشكيل لجنة خاصة للتواصل معه، فأرسل الطريس القايدْ العياشي الزلال مع كل ما يمكن أن يساعد في راحة المخطوفين، وكالعادة فإن فرنسا لم تترك الفرصة تمر وأكدت للأمريكيين أنها ستفعل كل ما في وسعها لإنقاذ المختطفين، فتدخلت حليفتها الزاوية الوزانية في القضية وسافر مولاي أحمد ومولاي علي، أبناء “الشريفة” إيميلي زوجة عبد السلام الوزاني والمربيّة السابقة لأبناء بيرديكاريس، إلى بني عروس ومكث أحد الأخوين لمرافقة المعتقلين في معتقلهم، بينما عمل الآخر وسيط بين كل الأطراف، الريسوني- المخزن- الأمريكيين والانجليز، وحسب والدتهم فقد تم مكافأتهم من طرف المخزن وكذا من حكومة الدولتين المذكورتين.
شروط الريسوني ورد فعل الولايات المتحدة الأمريكية
وضع الريسوني مجموعة من الشروط، من أهمها، فدية مالية بـ 55.000 ريال أو دولار(حسب المصادر) تحولت أمام غطرسة الأمريكين ل 70.000، إبعاد المْحلة المخزنية من بني عروص والفحص وتسريح المتطوعين فيها، إطلاق سراح جميع أنصاره وسجن جميع أعدائه، تعيينه باشا على قبيلة الفحص وعزل بن عبد الصادق باشا طنجة من منصبه، إعادة كل ممتلكاته وبناء قصبة الزينات، بالاضافة لذلك ضمانات إنجليزية وأمريكية من أي انتقام قد يتعرض له، وبخصوص هذه النقطة الأخيرة، فإن المصادر تشير إلى أن الحكومتين الأميركية والبريطانية كانتا تفضلان قتل الرهينتين على إعطاء تعهد كهذا للريسوني.
وحسب الباحث الزيداني، فإن ” قضية بيرديكاريس” صادفت السنة الانتخابية بالولايات المتحدة فاستغلها ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt في حملته حيثُ رفع شعار “بيرديكاريس حي، أو الريسوني ميتًا” وقد ساهم ذلك في إعادة انتخابه رئيسًا لولايةٍ جديدة، ورغم أن الرئيس الأمريكي كان يعلم أن المختطف لم يكن يحمل الجنسية الأمريكية، استمر في تهديداته وأرسل سبع طرادات إلى سواحل طنجة، في أكبر تجمع عسكري بحري في الخارج لإنقاذ “مواطن أمريكي”.
كما أن إنجلترا بدورها أرسلت بارجة حربية تبعتها إسبانيا بإرسال بارجتين وإيطاليا بارجة أخرى، واستعداد فرنسا لإرسال كل ما من شأنه أن يمنع إنزال قوة غربية بسواحل المغرب.
ماذا حقق الريسوني من كل هذا؟
اعتبر الزيداني في ذات التصريح لموقع “لكم”، أن الريسوني حقق كل مطالبه ومنها التزام المخزن بإعادة بناء قصبة الزينات بعد أن نهبتها مْحلات الجيش المغربي، واستعمل في بنائها أجود أنواع الرخام والخشب المستورد قبل أن تعود المْحلة بعد ثلاث سنوات لهدمها وتخريبها من جديد.
هناك اختلاف كبير بين المؤرخين حول أهداف هذه العملية، فهناك من رأى في هذا الاختطاف مغامرة وتآمر على سيادة الدولة ( وهذا رأي التمسماني خلوق) والبعض الآخر رأى فيه موقف وطني ضد التوسع الغربي( بن عزوز حكيم)، والحقيقة فإن الريسوني كسب شهرة عالمية، وقبل ذلك ظهر أمام القبائل كمجاهد وبطل استطاع أن يقف أمام أطماع وغطرسة الغربيين والمتآمرين معهم من الأعيان وموظفي المخزن، كما أن المال الذي حصل عليه وباعترافه، كان أساس الثروة التي جمعها، بالإضافة إلى عمليات تزوير الوثائق الرسمية بمساعدة يهود أصيلة، وبيع الممتلكات العامة، وفق رأي الزيداني.
والأهم من كل هذا تعيينه باشا الفحص حيث خضعت لسلطته سبع قبائل وهي: ودراس وأنجرة، وجبل حبيب، وبني يدر، وبني عروس، وبني مصور، باستثناء مدينة طنجة إلا أنه عين ابن منصور ينوب عنه داخل المدينة للقضاء فيها باسمه دون أي اعتبار للأجانب والمحميين المغاربة مسلمين ويهود.
تجدر الإشارة كذلك إلى أن السلطان دفع للبحرية الأمريكية 4 ألف دولارًا كمصاريف نقل الأسطول الأطلسي لسواحل طنجة.
في 24 يونيو دخل بيرديكاريس وابن زوجته فارلي طنجة حاملين معهم الهدايا الثمينة التي قدمها لهم الشريف، فاستقبلته الجالية الغربية باحتفالات عمت المدينة، حاولت صحافة المدينة استغلال الحدث لتشويه صورة الريسوني واستفزازه، يقول أحمد الزيداني، إلا أن مفاجأتهم كانت كبيرة، إذ صرح بيرديكاريس: ” أنني ليست نادمًا على سجني لبعض الوقت … الريسوني ليس قاطع طريق، وليس قاتلاً، بل وطني مضطر لارتكاب هذه الأفعال لإنقاذ وطنه وأرضه وشعبه من نير الاستبداد “. وأضاف: “… إنني أحترم الريسوني كما أحترم الرئيس الأمريكي…”. لم تكن هذه التصريحات لتروق الدبلوماسيين الغربيين.
غادر المغرب نهائيًا، واستقر بلندن حيث توفي سنة 1925، كان يزور الولايات المتحدة، ومازالت هناك ساحة باسم بيرديكاريس بمدينة Trenton تخلد اسم الأب والإبن.
دعوة لرد الاعتبار للتراث الثقافي الطنجي
وفي هذا الصدد، قال أحمد الزيداني الباحث في تاريخ المغرب، على هامش تحويل قصر بيرديكاريس، إلى مركز تعريف التراث شهر ماي الماضي، أن مدينة طنجة مرت بها العديد من الحضارات القديمة التي تركت بصمات بارزة في محيطها الحضاري، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر: المدينة القديمة، منطقة مرشان، منطقة الشرْف، الميناء، منطقة مالاباطا، رأس سبارطيل…بالإضافة طبعًا إلى التراث الثقافي غير المادي..، لكن ومع كل هذا التميز والتنوع، للأسف لا نجد موقع واحد طبيعي أو ثقافي طنجاوي ضمن مواقع التراث العالمي باللائحة التي تعدها لجنة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو)، فقط هناك تطاوّن -المدينة القديمة- تمثِّل كل الشمال من بين تسعة مواقع مغربية.
واعتبر الباحث، أن غياب مدينة طنجة، أو على الأقل موقع منها، من هذه اللائحة دليل على أن الجهات المسؤولة لم تقوم بواجبها، وهو كذلك دليل على تواطؤ بعض ممثلي المجتمع المدني في طمس هوية وذاكرة المدينة ومحيطها، معتبرا أنه ومن هنا تظهر أهمية انخراط الجميع في الحفاظ على الإرث التاريخي للمدينة لرد الاعتبار للتراث الثقافي الطنجي وتثمينه وصيانته من الضياع وتمريره للأجيال اللاحقة.
أما الباحث خالد طحطح، فقد اعتبر في تصريح لموقع “لكم”، أن افتتاح قصر بيرديكاريس بعد تأهيله وتحويله لمتحف خطوة مهمة في مجال ثتمين التراث المادي التاريخي لمدينة طنجة التي تزخر بمعالم كثيرة تؤرخ لفترات مختلفة، مشيرا في تصريحا لموقع “لكم”، إلى أن كل الفضاءات التي يتم إصلاحها تساهم بشكل أو بآخر في ضخ دينامية جديدة في مجال السياحة الثقافية للمدينة.
وأضاف المتحدث، لا شك أن موقع بيرديكاريس ضمن فضاء أخضر يستقطب مئات الزائرين أسبوعيا سيشكل إضافة نوعية وسيسهم في التعريف بهذه المعلمة، خاصة وأن اسم غابة الرميلات ارتبطت بشخصية بيرديكاريس وبالبناية التي شيدها السفير وأقام بها رفقة زوجته وعائلته خلال فترة عصيبة من تاريخ المغرب.