عزيز شهير: تحول "الأعيان" إلى مقاولين سياسيين يقوي الزعامات الإسلامية في مواجهة "حزب الدولة"
في هذا الحوار الذي أجراه موقع «لكم» مع عزيز شهير الأستاذ الباحث في العلوم السياسية، وصاحب كتاب «من يحكم المغرب؟» يقف على مجموعة من التحولات التي عرفتها النخب المحلية والوطنية في المغرب؟ وكيف أن «الأعيان» تحولوا إلى «مقاولين سياسيين»؟ بالإضافة إلى بروز قيادات إسلامية تابعة لحزب العدالة والتنمية تشتغل أيضا بنمطق المقاول السياسي، كما يتحدث شهير عن حضور يد الإدارة المركزية في تشكيل خريطة بعض التحالفات التي أعطت الأفضلية لمظليين من حزب البام، وخصوصا في جهة الدار البيضاء، التي ترأسها تقنوقراطي مبتدأ في السياسة، وأيضا في جهة مراكش التي ترأسها وزير سابق، مقرب من صديق الملك.
. في كتابك «من يحكم المغرب»، قمتم بدراسة سوسيولوجية للزعامة السياسية على المستوى المحلي، كيف يمكن فهم صعود البيجيدي في أغلب المدن التي كانت، في السابق، تحسم إما للأعيان أو ما أسميته بالمنتخب المقاول ؟
الدراسة التي أنجزتها بين سنة 2002 وسنة 2009 بالدار البيضاء حول الزعامات السياسية المحلية قادت إلى ملاحظة غير منتظرة وهي ظهور زعامة إسلامية صاعدة ممثلة في حزب العدالة والتنمية. فبالنسبة لي صعود البيجيدي الذي ساهم قبل 2011 في تسيير بعض المدن بما في ذلك الدار البيضاء لم يكن مفاجئا، بل العكس، فهو يؤكد قدرة هذا الحزب ذو التوجه الإسلامي على تعزيز تكوين زعامات محلية بمقدرتها أن تفرض نفسها في الساحة السياسية المحلية والوطنية أساسا بفضل مجهوداتها في التعبئة.
وللقيام بذلك فالقيادات الإسلامية، المشاركة في الحقل السياسي الموسساتي أو الرسمي ترتكز على ثلاث موارد رئيسية للتأثير : مشروعية شعبية، مركز إجتماعي للقياديات (مرتبط بالوسط السوسيو اجتماعي وبمستوى تعليم عالي) وشبكة علاقات مكونة أساسا على قاعدة العمل الجمعوي والخيري إضافة إلى تكوين وساطات محلية بين المجالس المحلية والنخب الحكومية المتمثلة أساسا في برلمانيي البيجيدي. هذا من أجل محاولة الإجابة على الشق الأول من سؤالك، وفي ما يخص الشق الثاني الذي يهم التفوق السابق للأعيان في مختلف المدن، أرغب في الرجوع إلى تعريف بعض المصطلحات والمفاهيم التي تستعمل في بعض الأحيان بدون الانتباه إلى قدرتها الوظيفية على جعل عالم السياسية المعقد واضحا. وعلى سبيل المثال، أظن أن مفهوم الأعيان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تطور الظروف السياسية، لكن كذلك بالخصوص التكوين السوسيولوجي للمجموعات التي تكون ما يمكن تسميته ب «المجتمع المغربي».
في الثقافة السياسية الكولونيالية، مفهوم « الأعيان » يأخذ صبغة قدحية التي يحيل على مجموعة أو جماعة من الأفراد لها امتيازات متمثلة في ارث عائلي أو ثروة، كان الجنرال ليوطي ينتشي بتلقيبهم ب « الناس الطيبون » حسنوا النية. هذه الطبقة كانت مكونة أساسا مما نسميه ب « النخب الخارجية »، منهم ملاك الأراضي والأعيان القروية والتجار الذين ليس لهم مستوى ثقافي، والذين لم يكن لهم أي اهتمام بالسياسية و الشؤون المرتبطة بالحكم. من بين طبقة الأعيان نجد العائلات الفاسية الخاضعة لتحكم الإدارة الكولونيالية التي كانت تهدف توفير ما نسميه آنذلك « الحكم الغير مباشر » للسكان المحليين أو « الأهالي ».
من بين الأعيان الذين تحكموا في مدن المملكة خلال الحماية، نذكر عائلة بن كيران التي كلفت من قبل الفرنسيين بتسيير مدينة الدار البيضاء من قبل القوات الكولونيالية التي كانت تعتبر هذه المدينة « مدينة للبدو » لا تتوفر على تقاليد إسلامية أو تاريخ أرستقراطي أو برجوازي. هؤلاء الأعيان « الخارجيين » الذين كانوا لا يتوفرون على جذور محلية، تم طردهم من طرف الأهالي التي دعت إلى إنشاء زعامة « أصلية » داخل تراب هذه المجموعات ( قيادة محلية). وبناء على ذلك قررت الإدارة الكولونيالية آنذاك، تعزيز تكوين الزعامة « المحلية » بمدينة الدارالبيضاء تبعا لمقولة « الدار البيضاء للبيضاويين ». من هذه الزاوية يمكن ملاحظة أن مفهوم « الأعيان » كان أساسا مرتبطا بثقافة سياسية كولونيالية مرتكزة على مبدأ تمييزي للتفرقة التي تسمح بطريقة غير عادلة للمحظوضين الخاضعين والمتحكم فيهم من طرف المستعمر، ثم من طرف « المخزن » بعد ذلك، بتولي شؤون إدارة المجتمع، حتى وإن لم تكن لهم مشروعية شعبية، وبغض النظر عن ثروتهم أو شبكات نفوذهم.
بعد الاستقلال عدد من علماء السياسة وعلماء الاجتماع استمروا في استعمال مفهوم الأعيان بدون تفسير علمي لجوانبه. هذه حالة ريمي لوفو والذي لم يعطي تفسير دقيق لمفهوم الأعيان كما تم استعماله في عمله حول النخب المحلية. بعد ذلك نلاحط أن مفهوم الأعيان تحول إلى مصطلح « جامع غير محدد » تم بسرعة ضمه إلى قاموس الثقافة السياسية المغربية بدون أخذ وقت لتفسيره. أو على الأقل تسليط الضوء المفاهيمي حول تعقيده التاريخي بخلق التمييز، في اعتقادي، بين الأعيان الاجتماعيين والأعيان الاقتصاديين. الأول يأخذ مشروعيته من انتمائه إلى عائلات ذات أصول قديمة. وهذه أيضا حالة بعض المنتخبين الذين اشتغلوا في مهن حرة (نقباء، مدراء الشركات، الملاك العقاريين، مدراء أبناك..). فيما يخص أعيان الاقتصاد يعتبرون كوافدين جدد، يعني أغنياء جدد اقتحموا عالم المال الأعمال.
في حالة المغرب، وبالنظر إلى التطور السوسيولوجي والسياسي للمملكة، أعتقد أن مفهوم الأعيان يجب أن يعاد النظر في صياغته الأولية إذا أردنا تطبيقه في تحليل النسق السياسي. فأكيد، سنجد دائما بروفايلات منتخبين وسياسيين يمكن نعتهم ب« الأعيان » بالمعنى التقليدي أو الكولونيالي للكلمة، لكن نلاحظ أيضا أن قوة حضور « الأعيان » بدأت تتراجع تدريجيا، خصوصا في المجالس البلدية و الفضاءات العمومية الحضرية والمدن الكبرى. فالدراسة التي قمنا بها حول الزعامات السياسية بمدينة الدار البيضاء، جعلتني أقف على نشوء ما أسميه « بالمقاول السياسي » الذي يمثل الطابع الهجين للنظام السياسي. فالمقاول السياسي هو شخص يحاول من خلال اتخاذ مهنة السياسي تحقيق أرباح يومية بالمعنى الفيبيري للكلمة. وللقيام بذلك يتجه هذا السياسي « المهني » محاولة إظهار التزامه المادي من أجل خدمة مصالح مجموعته الأصلية لاكتساب تجدر سياسي محلي وثقة تترجم في الانتخابات عبر مشروعية شعبية من خلال صناديق الاقتراع. وهذا النوع بالضبط من البروفيلات لا أسميه بالأعيان، بل ب « المقاولين السياسيين » الذين بدأو في فرض أنفسهم في الساحة السياسية المحلية وبعضهم حصل على ريادة محلية أو وطنية.
طيب وكيف يمكن لهؤلاء «المنتخبين» الذين أسميتهم «بالمقاولين السياسيين» من فرض أنفسهم داخل الساحة السياسية «المحلية» أو «الوطنية» ؟
هؤلاء المقاولين السياسيين الذين استطاعوا بناء شبكات نفوذ أو أصبحوا وسطاء مع الحكومة أو مسؤولين في الدولة، يشكلون « جسور » يستطيعون من خلالها توجيه القرارات السياسية المتعلقة بالمصالح العامة للمدينة. وفي هذا الصدد، أعتقد أن منتخبي العدالة والتنمية يعطون صورة واضحة عن « المقاول السياسي » الذي يستمد سلطته ليس فقط من توفير المصالح النفعية للناخبين، بل أيضا من تحديد منظومة قيم أخلاقية ودينية، تجعلهم في نفس الوقت « مقاولين سياسيين » وكذلك قادة محليين شرعيين ذوو مصداقية. على سبيل المثال، فمنتخبو العدالة والتنمية في المجالس البلدية استطاعوا توجيه الاختيارات السياسية والثقافية للساكنة. يحضرني هنا أساسا مثال مجلس مدينة الدار البيضاء حين قرر الإسلاميون سنة 2003 الاحتجاج على فتح متاجر لبيع المشروبات الكحولية، وكذلك عندما احتجوا على استقبال مهرجان الدار البيضاء سنة 2005 لبعض الفنانين المتحررين، ومن بينهم أساسا بعض مغنيو الراب الذين اتهمهم البيجيدي بنشر ثقافة موسيقية تشجع على « الفجور » في المدينة. وهنا تكمن قوة إسلاميي البيجيدي الذين قاموا باقتباس طريقة للعلمانية الطارئة، عبر الفصل الوظيفي بين الديني والسياسي لكن بدون التخلي الكلي عن دور ومكانة الدين في المجتمع. صحيح أن حزب العدالة والتنمية بعد وصوله إلى قيادة الحكومة توقف عن الاحتجاج ضد بيع الكحول في بعض المحلات التجارية، لكنه على الرغم من إجرائه لتغيير برغماتي لاستراتيجيته، مازال يعبر عن مواقف محتشمة ضد استهلاك الكحول من قبل المغاربة.
من جهة المخزن، انتبهت الملكية لتوجه « نواب البيجيدي » حين قامت برد فعل تمثل في منع، مؤخرا، بيع الخمور بمحلات « مرجان » التابعة لمجموعة « أونا » المملوكة للعائلة الملكية، وهي كذلك حالة مهرجان « موازين » الذي ينظم برعاية الملك باستشارة كاتبه الخاص، حيث أن البيجيدي لم يتوقف عن التنديد بالطابع « الانحلالي » و « الاأخلاقي » لبعض عروض فنانين غربيين بما فيهم مثليين جنسيا « كإلتون جون » على سبيل المثال، لكن بمجرد وصول الحزب للحكومة توقف البيجيدي عن إنتقاد مهرجان موازين. فالمسألة هنا غير متعلقة بتنديده بالبرنامج الفني للمهرجان، ولا ببيع الكحول في المحلات التجارية الكبرى. فبمجرد دخول البيجيدي إلى مجال تسيير الشأن العام، قلل الحزب من تأثير وقوة القيم الأخلاقية والدينية حينما يتعلق الأمر بتدبير الشؤون العامة. إبتداء من اللحظة أصبح البيجيدي يندد بغموض التدبير المالي للمهرجان أو ما نسميه تدبير المال العام في إطار « الحكامة الجيدة » وتخليق الحياة العامة. عمليا، فالإسلاميين اكتفوا برفع الضرائب على المشروبات الكحولية، في حين أن البعض منهم مازال يطمح سرا إلى منع بيع الكحول بشكل نهائي ! وفي هذا تمكن البيجيدي من إظهار قدرته على المزاوجة بين نظام القيم الأخلاقية والدينية، ومنطق الدولة المتعلق باكراهات القانون وضرورة إرساء مؤسسة عقلانية للعمل السياسي. ففي نظري، أحد أسرار الصعود المنتظر للبيجيدي في الانتخابات الأخيرة، يمكن اختصاره في عنصرين : من جهة، القدرة التنظيمية و التكيف مع اللعب السياسي المؤسس على البرغماتية والتوافقات، ومن جهة أخرى عقلانية قيمية تحاول، طوعا أو كرها، تكييف المرجع الأخلاقي والديني مع الإكراهات الرسمية والبيروقراطية والسوسيو ثقافية المفروضة من قبل السياق والمحيط الوطني والعالمي الذي بداخله يتطور الحزب.
على الرغم من فوز العدالة والتنمية بتسيير أغلب المدن الكبرى، إلا أنه على مستوى الجهات، صعدت مجموعة من الشخصيات المنتمية لحزب الأصالة والمعاصرة، الا يمكن اعتبار ذلك نوع من « الردة » على صناديق الاقتراع ؟
في البداية، أريد أن أذكر أن تأسيس البام عام 2008 مثل نقطة تحول تاريخي في نظام الحكم الجديد الذي يبدو أنه تخلى جزئيا على دوره الحيادي في « التحكيم »، فقد سمح الملك، بطريقة أو بأخرى، بتأسيس حزب « لاتاريخي » وهجين يستقطب نخبه بدون تمييز عبر شبكة علاقات صديق الملك وكاتب الدولة السابق في الداخلية. عام بعد تأسيسه، البام و « بمعجزة » تمكن من التموقع في انتخابات 2009 حيث تمكن من تأسيس فريق برلماني في زمن قياسي. وهو الشيء الذي سيتكرر لاشك في انتخابات مجلس المستشارين الحالية. وهو ما يكشف صحة بعض الأصوات التي تحدث عن دور المخزن وكذلك السلطات الإدارية في توجيه نتائج الانتخابات بطريقة أو بأخرى وكذا استمالة برلمانيين بكل الوسائل المتاحة بغرض مساندة البام. الدخول المفروض (من فوق) لهذا الحزب كان ملاحظا خلال دراستنا منذ 2007 التي تشهد بالإرادة الواضحة للمخرن، حسب تصريحات فؤاد عالي الهمة نفسه، للتأثير على تكوين مناخ سياسي عبر حزب موجه أساسا لمحاربة القوى التي توصف « بالظلامية ». لكن السيطرة المتوقعة لهذا الحزب أوقفت من طرف موجة « الربيع العربي » وتصاعد الاحتجاجات في الشارع التي نادت بها حركة 20 فبراير لرحيل الهمة والماجيدي وخروجهما من عالم السياسة والأعمال.
في هذا التشكل الجديد، يظهر أن الملكية تمر بأزمة مشروعية بعدما سمحت بتأسيس البام كتعبير على إرادة النظام للتأثير على الحقل السياسي وبالتالي التأثير على اختيارات الناخبين وإعادة تشكيل الطبقة السياسية. الأسوأ الذي يظهر من خلال الملاحظة هو أن ،سيناريوهات تحضير البام للحكم بدت مطبوخة من قبل مستشاري الملك، لكن الرياح التي سماها الإعلام « بالربيع العربي » كشفت عن الطموحات السلطوية للمخزن والمقربين منه وخصوصا المثقفين والجامعيين الذين هرولوا، لسوء الحظ، لشرعنة وجود « الوافد الجديد ». الأسوء أيضا في نظرنا، هو أن بعض المثقفين الذي كانوا دائما بعيدين عن التموقع الإيديولوجي واللعب السياسي لم يبخلوا على مد يد المساعدة لمهندسي البام لقيادة مشاريع متنوعة ومختلفة تهدف، قبل كل شيء، إلى تدعيم الجهاز السياسي- الإداري للنظام، وكذلك عبر انتاج نخب سياسي وثقافية مقربة من النظام ( جامعيون مباعون، صحافيين تحت الطلب، جمعويين للخدمة…).
الآن وبعد استعراض هذه العناصر والتذكير بها، يمكننا جيدا فهم الميكانزمات المولدة التي عززت إعادة انتشار البام بطريقة مكنته من وضع يده على رئاسة عدد من جهات المملكة. فقراءة قانونية أو دستورية قد تظهر على أن رغبة الناخبين عبر نتائج الاقتراع لم تحترم، وبالتالي الناخبون لم يختاروا رفاق ورموز المخزن الذين وضعوا يدهم على رئاسات العديد من الجهات على الرغم من أنهم لا يتوفرون على تجذر سياسي محلي أو مشروعية شعبية نابعة من صناديق الاقتراع.
صحيح أن هذه حجة قوية يمكن أن تكون حاسمة في الدول الديمقراطية التي لا تتدخل الدولة في الخيارات و المواقف السياسية للمواطنين وممثليهم. لكن للأسف، هذا ليس هو الحال في المغرب حيث الممارسات ذات الطبيعة الاستبدادية تنخر جسم النظام السياسي الهجين الموسوم بقداسة شخصية تعبر على نوع من الإرادة الإلاهية. من هذه الزاوية ومن دون الوقوع في منزلقات نظرية المؤامرة، فمن الواضح أن المخزن والإدارة المركزية فعلت كل شيء تقريبا للتأثير، عبر قواعد فن الاستقطاب، من أجل استمالة وتوجيه اختيارات الناخبين الكبار لاختيار رؤساء الجهات. هذا التأثير كان من هندسة موظفين كبار في الدولة وبدى واضحا مؤخرا أثناء انتخاب رؤساء مجالس العمالات والأقاليم، وبعض أعضاء مجلس المستشارين التي أدت، بشكل غريب، لانتصار متقدم لحزب الأصالة والمعاصرة أمام البيجيدي مثلا. بهذا الخصوص لعب التحالف والتأثير، بين بعض الأحزاب والمنتخبين، وأساسا المنتمين إلى حزب التجمع الوطني للأحرار بالدار البيضاء مثلا، الذين لعبوا في بعض الأحيان دور الحليف – الخفي الذي استخدم لدعم ترشيح البام على رأس بعض الجهات، وذلك في تناقض تام مع التحالف الحكومي الذي عقد مع أعضاء الأغلبية الحكومية. وفي هذا الصدد وجد البيجيدي نفسه في حرج بعدما « خان » بعض « حلفائه » من الأغلبية (التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية) التزام تحالف الأغلبية الحكومية. ولحفظ ماء الوجه، سمعنا البعض مؤخرا ذهب للقول أن البيجيدي قام « بانسحاب استراتيجي » في سباق الجهات، وذلك مخافة أن يكون مسؤول أمام الملك عن احتمال فشل أو صعوبة تحقيق ما يسميه النظام « بالجهوية الموسعة ». فافتراض البعض أن البيجيدي ترك المجال مفتوحا لمرشحي البام للحصول على بعض الجهات يمكن أن يكون صحيحا لو كانت الأجهزة السياسية والإدارية للدولة قررت أن تبقى محايدة وبعيدة عن الحسابات الانتخابية والاعتبارات السياسية، وهو ما في اعتقادي لم يكن عليه الحال في الانتخابات السابقة. بل العكس تماما أعتقد أن يد الإدارة المركزية كانت موجودة بالفعل في تشكيل خريطة بعض التحالفات التي أعطت الأفضلية لمظليين من حزب البام وخصوصا في جهة الدار البيضاء، التي ترأسها تقنوقراطي مبتدأ في السياسة، وأيضا في جهة مراكش التي ترأسها وزير سابق، مقرب من صديق الملك، بعد أن تقدم كمرشح وحيد وبدون أي خصوم سياسيين بعد أن « فضلوا » عدم التقدم بالترشح !
طيب ولكن كيف يمكننا فهم منطق تحالفات الأحزاب على المستوى المحلي، خصوصا بعد الانتخابات الجماعية الأخيرة، التي أظهرت أن الانتماء للأغلبية الحكومية غير محدد بالضرورة للتحالفات المحلية ؟
بداية، أريد أن أوضح أنه عندما نتحدث عن التوافقات أو التحافات السياسية فلا يوجد منطق معين ! ففي الجوهر، السياسة تنخرط في موقع معارض للمنطق. فقد نسمع بعض السياسيين يحاولون إقناع الرأي العام بأن اختيارات أحزابهم، خصوصا بعد توافقات أو تحالفات معينة، نابعة من نوع من التجانس السياسي المؤسس على نسق من القيم، لكن في الحقيقة لا يوجد أي شيء من هذا، فهذا لا يعدو أن يكون خطاب إيديولوجي يهدف إلى تمويه اللعبة السياسة القائمة أساسا على منطق المصالح. وبوضوح : فالانتهازية هي الأصل في كل عمل سياسي. ففي الوقت الراهن، أعتقد أنه علينا أن نكون حذرين من المعجم السياسي المستخدم من قبل الفاعلين، وعلى سبيل المثال التمييز بين التحالفات والائتلافات. فبينما يفترض أن يكون التحالف اتحاد متضامن مؤسس على مصالح متبادلة، فالائتلافات هي مجرد اتحادات مؤقتة تهدف إلى تحقيق بعض الأهداف كتشكيل حكومة إئتلافية. فلذلك وعلى عكس ما نتصور، فمنتخبو أحزاب الأغلبية ليس لهم في الأصل أن يحترموا التحالف المبرم على المستوى الحكومي. بمعنى أنه عندما تثير الأغلبية الحكومية منطق التحالفات، فهذا لا يعني في الواقع إلا تحالف مؤقت يستند بالأساس على تحقيق عدد من المصالح السياسية ذات الصلة بالانتخابات أو إلى توزيع الحقائب الوزارية. بعبارة أخرى، فالائتلافات الحكومية ليست مبنية على مرجع إيديولوجي «مشترك» أو نظام قيم مشتركة بين جميع الشركاء، كمثال « تحالف البيجيدي بتوجهه المحافظ والتقدم والاشتراكية بتجوهه الإيديولوجي التقدمي».
يظهر أن ظاهرة ترشيح «الأعيان» عادت بقوة لتنتقل من القرية إلى المدينة، هل يمكننا الحديث عن بداية ترييف للمجالس البلدية بدورها ؟
بالنسبة لمسألة عودة الأعيان، أو حضورهم في المدن، أعتقد أنه لا يجب التركيز عليه كثيرا، فكما أشرت سابقا فيما يخص تعقيد المفهوم، وخصوصا التغيرات الاجتماعية والديمغرافية المرتبطة أساسا بالهجرة، وكذلك التغييرات والتحولات في مفهوم «المجال» الذي تجاوز هذه الرؤية الثنائية (قروي / حضري، مدينة / قرية) التي تقلص بشكل كبير من مجال الرؤية ونحن في الغالب نتهم باعتماد منطق تحليل ثنائي، بدلا من دراسة الـظاهرة على تعقيدها على ضوء مقاربة سيرورة دينامية تهتم بتفاعلات وتداخلات المجالات الترابية والتثاقف بين السكان. لدرجة أننا بدأنا نتحدث الآن عن مجال مخترق، متغير ومتقلب يتجاوز الفضاءات، الأفراد والأفعال، ولكنه يعرف بناء هوياتي مؤسس على الرموز والمعتقدات الأسطورية المنتمية للمجال، المحلي، الجماعة اللغوية، العرقية ودينية محددة.
شخصيا، أعتبر أن ترييف المدينة أو تحضر القرية، هي بالتأكيد مسألة مثيرة للاهتمام والدراسة، إذا كنا نريد فهم بروفيلات النخب المحلية، لكن هذه المقاربة متجاوزة نوعا ما منذ سنوات الثمانينات خصوصا من قبل الأنجلوساكسونيين الذين يركزون على المقاربات الهوياتية والثقافية الأكثر تعقيدا وتحليلها من أجل فهم تكوين النخب، وانتشارها في الساحة السياسية والموارد المعبأة لتوجيه اختيارات المدينة على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي…
على الرغم من بداية الحديث عن خلخلة البنية التقليدية للزعيم الحزبي، مع الحراك الشبابي في 2011، إلا أن الانتخابات المحلية الأخيرة، حافضت على استمرار حضور الفاعل التقليدي « الأعيان »، « رجال الأعمال » في الوصول إلى المجالس المحلية، هل يمكن الحديث عن عودة « الأعيان » في المغرب ؟
أعتقد بأن صورة “الزعيم الحزبي” فقدت حدتها خصوصا مع اضمحلال ايديولوجية الحركة الوطنية، خاصة مايسمى بأحزاب الكتلة الديمقراطية بقيادة حزب الاستقلال حيث أن تراجع أيديولوجية الزعامات أو القيادات التاريخية التي تركت بصماتها في التاريخ السياسي للمغرب، خاصة إبان فترة الحماية، راجع لتعاقب وتأثير الأجيال. ففي واقع الأمر، الأجيال الجديدة غير متناسبة كثيرا مع الزعامات التاريخية أو الشخصية المحظوظة التي تحدث عنها ماكس فيبر، بحيث أن هذا الاستنتاج لا ينطبق فقط على المغرب، و إنما على المجتمعات الطائفية. و اعتقد بأن تأثير المتعاقبة الأجيال هو الذي يمثل إرادة الشباب، لتجاوز روادهم و تسجيل حضورهم وتأكيد سلطتهم سواء داخل الهياكل العائلية أو داخل الأحزاب أو النقابات، و قد كانت بالمناسبة حركة 20 فبراير انعكاسا شعبيا مثاليا لسخط الشباب الذي تجلى في الاستياء السياسي و العزوف يوم الاقتراع.
و بعد قدوم العهد جديد، قرر الملك نوعا – مُكرها- اللجوء إلى أحزاب “الكتلة الديمقراطية” لضمان وراثة العرش و الالتزام ب “الاتفاق” الذي عقده الحسن الثاني مع المعارضة السابقة، في شخص اليوسفي، وذلك من دون الاعتماد على الحرس القديم الذي فرض نفسه تدريجيا على أنه “حارس المعبد” والمدافع المعترف به عن سلالة العلويين. هذا الأمر تحقق سنة 2008 من خلال إحداث حزب الأصالة و المعاصرة من قبل صديق الملك وعودة المخزن الاقتصادي الجديد و الدعاية الأكاديمية و الاعلامية و المجتمعية؛ و هكذا يبدو أن الملكية عزمت أكثر من أي وقت مضى على هيكلة الخريطة الحزبية؛ و ذلك بالبدء بالتخلص من إرث الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية. والحجة على ذلك، تعيين الملك، سنة 2002، ادريس جطو مكان الأستاذ اليوسفي مع العلم أن الاتحاد الاشتراكي كان قد فاز بالاستحقاقات التشريعية! فنفاذ القصر إلى السياسية توطد بإنشاء حزب الأصالة و المعاصرة بهدف تعزيز الانقسام السياسي (الاسلاميين / المحافظين مقابل اليساريين / الحداثيين) قد أسهم في تطوير ثنائية قطبية بالحياة السياسية، كثيرا ما أعرب وتمناها عنها الملك في خطاباته، حيث يبدو أن الملكية مصممة على التأثير في النظام السياسي (من أسفله إلى أعلاه) و ذلك بممارسة ضغوطات سياسية أدت إلى “اندماج / اختفاء” العديد من الأحزاب و إضعاف أحزاب أخرى و الإسهام بطريقة مباشر أو غير مباشرة، بدفع زعامات معينة من الحركة الوطنية لترك قيادة أحزابها، مثلما عليه الأمر بالنسبة لليازغي و الراضي والفاسي و أحرضان.
و في ضوء ذلك، يمكن لحزب الأصالة و المعاصرة أن يكون حصنا حقيقيا ضد الحركات الاحتجاجية التي قد تهدد استقرار النظام أو استمراريته. و بإعلان “مهمة الحزب” مواجهة الظلامية الإسلامية، فإن عرَّاب حزب الأصالة و المعاصرة، يريد أن يكون بمثابة صمام أمان في مواجهة أي صعود محتمل لأي حزب أو تنظيم يطمح إلى احتكار الدين، والذي يعتبر حكرا على الملكية. و للقيام بذلك، يحاول حزب الأصالة و المعاصرة أن يقوم مقام الأعيان بالرغم من أن دور هؤلاء (الأعيان) وتأثيرهم لا يمكن إنكاره، خاصة بالبادية، إلا أن هذا الأمر لا يجب أن يدفعنا إلى الحديث عن “عودة” للأعيان كونهم لم يندثروا من الأحزاب.
طيب، وكيف يمكن تفسير عملية تحول النخب المحلية في السياق الجديد ؟
اعتقد شخصيا، بأن الأعيان بصدد التحول إلى “مقاولين سياسيين” بشرعية لا تستند حصريا على الوراثة العائلية أو الثروة، خلافا لما عليه الأمر بالنسبة للأعيان أنفسهم. فهؤلاء المقاولين السياسيين اللذين تحركهم المصلحة و المنفعة السياسية القائمة على العقلانية الانتفاعية قد يكونون أكثر عرضة للالتحاق بصفوف حزب الأصالة و المعاصرة وحلفائه، كونه حزب سياسي تابع للقصر و مقرب من دوائر القرار السياسية والإدارية. فيكفي قراءة نتائج الانتخابات منذ عام 2009 ليقتنع المرء بالقدرة “الهائلة” لحزب الأصالة و المعاصرة على الحصول على دعم الإدارة و رجالات البلاط الأقوياء. فالسبب يكمن برأيي في أن هذا الحزب – حزب الأصالة و المعاصرة – يستمد شرعيته “العليا” من تقربه من محيط القصر، و ليس من تاريخ نضالي أو أيديولوجية سياسية مُؤسسة على معتقدات عميقة مرتبطة ب « العقيدة الديمقراطية ».
فخلافا لحزب العدالة والتنمية، ذو الشرعية الشعبية الغير ممكن إنكارها، والمنبثقة من منظومة قيم أخلاقية و دينية، فإن حزب الأصالة و المعاصرة، يفتقر إلى المصداقية السياسية الضرورية لإضفاء الشرعية التاريخية على الحزب، بينما يتوفر حزب العدالة والتنمية على منظومة قيم و مرجعية دينية رمزية، تمكن بتعبئة الحشود وتدعم قادة ذووا مصداقية و نزاهة، في حين أن حزب الأصالة و المعاصرة يستند إلى طريقة تعتمد على المحسوبية و المحاباة، بجانب التهديد والتخويف من (فوق إلى تحت) بهدف جذب ودمج المقاولين السياسيين من دون الاعتماد على شفافية عدد من السياسيين و المقاولين السياسيين اللذين ينتهي بهم الأمر غالبا إلى الانضمام إلى أحزاب كحزب العدالة والتنمية. و لهذا السبب تمكن حزب العدالة و التنمية، منذ أواخر التسعينات، من تعزيز بناء قيادة اسلامية ذات مشروعية خاصة في الحواضر، و ذلك بالسهر على ضمان أن يكون التحالف مع المقاولين السياسيين و حتى الوجهاء التقليديين متوافقا مع أيديولوجية الحزب و منظومة قيمه الأخلاقية والدينية. و بإيجاز، يجوز القول بأن النظام السياسي المغربي يعرف منطقا للتحديث (من تحت) ناتج عن تطور ثقافة المشاركة المتجسدة بحزب العدالة والتنمية، إلا أن منطق التحديث هذا متحكم فيه ( وتتم مقاومته) أحيانا من طرف الملكية التي باستطاعتها الاعتماد على حزب الأصالة و المعاصرة لضبط الحياة السياسية وضمان إنتاج نخب المخزن الموالية للنظام و «ثوابته».
فمنطق تحديث السياسة، موضوع الحديث، تتم ترجمته بترشيد القيم المُحيلة على نموذج العلمنة المبني أساسا على التفرقة والتمييز بين الوظائف الدينية و الوظائف السياسية، من دون الوقوع في العلمانية الفرنسية أو النموذج العلماني التركي وهذا الأمر في رأيي ينم عن منافسة سياسية بين حزب قريب من النظام (حزب الأصالة و المعاصرة) ذو استراتيجيته الاستقطابية المعتمدة على تعبئة “نخب خارجية” بجميع الوسائل بما في ذلك رجال الأعمال و المثقفين والصحفيين من جهة، ومن جهة أخرى حزب إسلامي (حزب العدالة والتنمية)، الذي تعتمد شرعيته التاريخية و الرمزية أساسا على الانخراط الطوعي والنضال السياسي للأعضاء. فحزب العدالة و التنمية يعد بالتأكيد حزبا ذو مشروعية، إلا أنه على استعداد لأخذ مسافة من خصومه بمجرد تهديد شرعيته ومصداقيته من طرف المخزن العميق الذي يجسده حزب الأصالة و المعاصرة. ففي هذ المسعى، يمكن لحزب العدالة والتنمية الاعتماد على المساندة الأيديولوجية الغير المباشر لجماعة العدل و الإحسان القوية إذا ما قررت (الجماعة) يوما ما، التحول إلى حزب سياسي و المشاركة في اللعبة السياسية المؤسساتية. و هذا الأمر يعد تهديدا خطيرا للشرعية الدينية للنظام القائم و إضعافا لمنافسيه المباشرين بدءا بحزب الأصالة و المعاصرة.
في ظل هذه الصورة “الثنائية القطبية” فإن الأحزاب “التاريخية” المنحدرة من الحركة الوطنية ستكون مدعوة من الآن فصاعدا للتعاطي مع هذه الأيديولوجية أو تلك، إذا كانت ترغب بالاستمرار بالتواجد في الساحة السياسية عبر صناديق الاقتراع. فبهذه المنافسة السياسية المتمثلة في انقسام سياسي أكثر جلاء، فإن الملكية تسعى بذكاء إلى ضمان إجراء إصلاح للحقل الحزبي بإشراف صديق الملك، عن بعد، الذي اعتمد مواجهة الإسلاميين عبر بوابة إنشاء “حزب-واجهة” يزعم حماية الملك عن طريق التأثير / الإبعاد، والحرص على ضمان سيطرة الملكية تحت إشراف “أمير المؤمنين”، و في هذا الصدد، فالنظام السياسي المحلي (خاصة في المدن و الأقاليم) سيكون بمثابة مختبر تجريبي لطريقة التحكم “من تحت” تتم إدارتها من طرف فاعل سياسي مكون “من فوق”. وهذا ما يسمى بعملية دمقرطة غير طبيعية، يبدو أنها تسعى في السر لتقويض المحاولات المتفرقة و الخجولة للانفتاح السياسي المعروف التي بدأه النظام. ذلك النظام الذي يستمر في الامتناع عن تقديم تنازلات و مقاومة الرضوخ للإصلاح الطبيعي الذي لا مفر منه، و ذلك باعتماد نموذج الملكية البرلمانية الذي دعت إليه حركة 20 فبراير و كل المدافعين المتحمسين لمسألة « العقيدة الديمقراطية ».