الديمقراطية الرثة أو مغرب ما قبل الحداثة المستدام
تصبح أسئلة مرحلة ما بعد الانتخابات في المغرب- إن وضعت – أكثر تعقيدا وأقل اعتيادية، خاصة وأننا لا زلنا نتلمس طريقنا نحو بناء الديمقراطية وأن التوقف عن التدخل المباشر للدولة في صناديق الاقتراع لا زال نسبيا وحديثا جدافي بلادنا.فهل قيل كل شيء عن الانتخابات التي عرفتها البلاد هذه السنة؟ ما هي الأشياء التي يمهد لها هذا الاقتراع على المستوى السياسي والإجرائي بالمغرب في الأيام القادمة؟ ما هي الرهانات التي يطرحها على البلاد وعلى فئاتها السياسية؟ ما الذي يمكن للمراقب أن يخلص إليه بعد انتهاء المسلسل الانتخابي كمحصلة سياسية لواقع المغرب الراهن؟
إن هذه المساهمة المتواضعة، تستعرض بعض الظواهر والمعطيات المرتبطة بالانتخابات الأخيرة في سياقها العام الإجمالي وضمن أفقها التاريخي كبداية لعمل يفترض أن يتم إنجازه بعمق من طرف المهتمين، انطلاقا من مقاربة معرفية شاملة ومتعددة التخصصات بغاية شق الطريق أمام كل الفاعلين لإدراك أفضل للواقع، والسعي بنجاعة أرقى للفعل فيه، وتحقيق النقلة النوعية التي تحتاجها البنيات السياسية المتجمدة للمرور إلى مرحلة واعدة تتخطى مسلسلات اليأس والفشل في موضوع الإصلاح والتغيير.
أولا، بإمكاني طبعا أن أشرع في مقاربة الموضوع على خلفيتي الفئوية كصحافي ومهتم بقضايا التواصل والإعلام، وذلك للتساؤل عن دور التواصل وتداول المعلومات والأخبار وحصيلتهما في الانتخابات المذكورة، من كل الزوايا وخاصة من زاوية مسؤولية الدولة اتجاه المواطنين، هل قامت الوسائل الإعلامية العمومية بدورها في توعية المواطنين وتزويدهم بالمعلومات والأخبار في حينها، وهل خلقت هذه المنابر التابعة للدولة فضاءات أو فتحتها بشكل فعلي للمواطنين للتعبير عن آرائهم؟ واسمحوا لي بالتذكير بأن ليلة الاقتراع أغلقت القنوات أبوابها عن موضوع الانتخابات وتابعت بعد الحادية عشر ليلا برامجها العادية ولم نعرف سهرة انتخابية كما هو معمول به في البلدان الديمقراطية، ولنتذكر أيضا أن وزير الداخلية الذي تحدث عن الموقع الذي ستنشر فيه النتائج لم يفي بوعده، ولم يعرف الموقع إلا بيانات إجمالية متأخرة. وهناك تضارب لحد الساعة فيما يتعلق بعدد المسجلين والتوزيع الدقيق للأصوات عبر التراب الوطني، ولمتتوفر لحد الساعة المعلومات حول كل محاضر مكاتب التصويت سواء لعموم الجمهور أو حتى للأحزاب السياسية الراغبة في الحصول عليها، بل منذ البداية رغم كل المجهودات، لم يتم التعريف بمسطرة الاقتراع لدى الجمهور في الوقت المناسب مما أدى لاستمرار بعض المواطنين في البحث عن بطاقة الناخب التي تم إلغاؤها، وحصل حرمان البعض من التصويت بدعوى عدم وجود أسمائهم في اللوائح بالمكاتب التي توجهوا إليها….. وبالتالي هناك إشكال حقيقي فيما يخص موضوعين محوريين مرتبطين بمسألة شفافية عملية الانتخابات ولهما أثر على تدبيرها السليم:
1-لم تتم بلورة خطة تواصلية منسجمة وناجعة بالنسبة للسلطات العمومية تصاحب التحضير للانتخابات وتقوم حينها بالمتابعة الفعلية المباشرة لكل مستويات العمليات الانتخابية،وظلت القنوات العمومية رهينة التصور الذي نشأ في زمن بعيد مضى ينبني على اتفاق بين الأحزاب السياسية ووزارة الداخلية على توزيع البث وتكافؤ الشروط، وعلى معايير الهاكا في موضوع التعددية، وقد أبان هذا كله، عن عدم توافقه ورغبات المواطنين وعدم تلبيته لحاجياتهم في مجال الأخبار والمعلومات.
2-لم تتوفر سياسة استباقية تضمن نشر وسريان المعلومات في حينها حول كل مستويات العمليات الانتخابية. وبالتالي كانت الحصيلة إذن هزيلة على مستوى التواصل وتداول المعلومات بصدد الانتخابات، والمناقشات والمساجلات التي تم بثها ليلة النتائج كانت في كثير منها عبارة عن توظيف لبعض الأساتذة الجامعيين حول ردود الأفعال الأولى لأحزاب المعارضة الحاليةوضد أو مع هذه. وغابت الاحترافية ليتغلب المستوى السطحي في الأسلوب والمتدني في الخطاب بين مجموع الأطراف.
ثانيا: الصحافة نظريا هي الرقيب المنتقد لما يجري في كل مناحي الحياة العامة، وهي أيضا المعاكس والمشاكس لكل ما هو سائد أو شائع،وحسب معطيات تم استقاؤها لدى وزارة الاتصال، تمت تعبئة ما لا يقل عن 94 طلب اعتماد للصحافيين والمصورين الأجانب لتغطية مختلف جوانب هذا الاستحقاق وقامت كثير من وسائل الاتصال والمؤسسات الإخبارية بإيفاد مبعوثين خصوصيين وهكذا كانت الانتخابات تحت مجهر وسائل الإعلام المحلية والدولية، واشتمل تقييم مجرياتها بالنتيجة على آراء متباينة حول الموضوع وهذا معيار مهم (التعددية والتنوع).
وبينما اهتم الإعلام المحلي غير الحكومي خاصة بالتهم والعبارات القدحية بين المتنافسين ومحاولة استثارة اهتمام الجمهور من خلالها، تركز اهتمام جزء واسع من الإعلام الدولي على ما سمي باكتساح ناخبة حزب العدالة والتنمية لكل المدن الكبرى بالمغرب، وقاموا بالتقليل من أهمية نتائج الأحزاب الأخرى. ومن خلال هذا المشهد يبدو الإعلام المحلي مشدودا للمشهد السياسي وامتدادا له قبل كل شيء، بينما يمثل الإعلام الدولي بشقيه الخليجي والغربي طابورا خامسا للإسلام السياسي يقوم له بالدعاية المباشرة أو غير المباشرة. وينتج عن هذا ضعف عام وهائل لاستقلالية الإعلام ينضاف لعجز الإعلام العمومي المغربي عن القيام بأدواره الأساسية ويضع المواطن في وضع الأعزل إزاء استقاء الأخبار والمعلومات حول الانتخابات الأخيرة.
فما هي الدروس والعبر السياسية بعد الانتخابات؟
ولنبدأ بأعلى هرم السلطة بالبلاد لنذكر بما صرح به الملك أمام البرلمانيين وأعضاء مجلس المستشارين في خطاب افتتاح الدورة السنوية للبرلمان إذ قال:” نرفض الاتهامات الباطلة الموجهة للسلطات المختصة بتنظيم الانتخابات. فالضمانات التي تم توفيرها تضاهي مثيلاتها في أكبر الديمقراطيات عبر العالم، بل إنها لا توجد إلا في قليل من الدول. وبطبيعة الحال فإن من يعتبر نفسه مظلوما، بسبب بعض التجاوزات المعزولة التي تعرفها عادة الممارسة الديمقراطية، فيبقى أمامه اللجوء إلى القضاء.”
هناك إذن ارتياح ملكي واضح من الانتخابات ونتائجها، وبحكم أن الدولة العميقة (أو المخزن) أو المؤسسة الملكيةقد عبرت عن هذا، من حقنا أن نتساءل أكثر إلى أي مدى ضمن المغرب بهذا كله اقتراعا نزيها وسليما يحترم إرادة الناخبات والناخبين أم لا.
علينا ألا ننسى أيضا ارتياح المراقبين الدوليين والمؤسسات المدنية المغربية المشاركة في مراقبة الانتخابات، ونذكر بهذا الصدد بما قاله رئيسالمجلسالوطنيلحقوقالإنسان،السيدإدريساليزمي،في ندوة صحفية بالرباط،من حيث أنانتخاباتمجالسالجماعاتوالجهاتالمنظمةيوم 4 شتنبر 2015 جرتفيجو”منحالضماناتالأساسيةللحريةوالنزاهةوالشفافية”،واعتبراليزمي أنالخروقاتالتيتمتملاحظتها من المراقبين الدوليين والمحليين ليست “متواترةمنالناحيةالإحصائيةولاتمسجوهريابسلامةونزاهةالاقتراع”.وللتذكير أيضا حسب مصادر وزارة الداخلية فإن عددالملاحظاتوالملاحظينالذينقاموابتغطيةالعمليةالانتخابيةيتوزعونعلى 3425 ملاحظاينتمونإلىالجمعياتوالمنظماتالوطنية،و474 ملاحظاتابعاللمجلسالوطنيلحقوقالإنسان،بالإضافةإلى 125ملاحظاأجنبيا،قاموابتغطيةمكاتبالتصويتعلىصعيدكافةعمالاتوأقاليمالمملكة. هكذا إذن لم تكن استحقاقات 4 سبتمبر عملية مهربة عن المجال العمومي وعن نظر الملاحظين والإعلام بل جرت وقائعها بشكل منفتح على مرئي ومسمع كل المهتمين.
رغم هذا سنحافظ على أسئلتنا إزاء هذا الحدث السياسي ونسعى للإجابة عليها من خلال مؤشرات وازنة كالتالي:
أ-هل حصل حياد للسلطة إزاء هذه الانتخابات؟
يعتبر العديد من الفاعلين هذه النقطة من بين محاسن تجربة 4 سبتمبر، لذا أود أن أتقدم حصريا بثلاث جوانب في هذا الباب لأخففمن تفاؤلهم المفرط إزاء هذا الجانب:
1-مشكل الأجندة:
وقد يتذكر البعض كيف أثار بعض الفاعلين حين الإعلان عن تاريخ الانتخابات التحفظ على حملة ستجري بعد أسابيع قليلة من رمضان وخلال قيظ شهر العطلة السنوية للمؤسسات الاقتصادية والتعليم والإدارة العمومية، ولكن الأدهى من هذا يتجلى في النصوص الانتخابية بمجملها التي صدرت على بعد أسابيع فقط من الاقتراع وهذا لا ينسجم والمعايير الدولية التي تلح على استقرار القانون الانتخابي وتنص بأنه “لا يجب إدخال تعديلات بشأنها سنة على الأقل قبل الاقتراع”، وخاصة فيما يتعلق بالنظام الانتخابي بحد ذاته وتقطيع الدوائر.والأجندة والقوانين كانت من مسؤولية السلطة تتحكم فيهما لوحدها أساسا.
2–موضوع تمثيلية الساكنة ونمط الاقتراع
النظام الانتخابي الغير متكافئ والذي يتجلى في ضعف تمثيلية المدن المتوسطة والكبيرة حيث أن مجموع ساكنة المدن التي تضم أكثر من 100 ألف نسمة والتي تضم 14 مليون و647 ألف و342فردا يمثلها ما مجموعه 2463 مستشارة ومستشار بمعدل ممثل واحد عن 5903 شخصا. بينما هناك تمثيلية تفضيلية للمدن الصغرى والعالم القروي حيث أن 19.308.271نسمة تتوفر على 28898 مستشار ومستشارة بمعدل مستشار أو مستشارة عن 668 فردا.
وحسب نتائج الإحصاء العام للساكنة 2014 فإن المغاربة نساء ورجالا البالغة أعمارهم فوق سن 18 سنة يراوحون 23 مليون و277 ألف نسمة تقريبا وحتى ولو افترضنا أن هناك مليون مغربي مستثنى من عملية التصويت والترشيح (حملة السلاح، القضاة..) سيظل هناك 22 مليون فردا من المفترض أن يكون مؤهلا للتسجيل والتصويت، أي واعتمادا على الرقم الرسمي للمسجلين 15.498.658 هناك فارق 7 ملايين مغربي مؤهل للتصويت وغير مسجل في اللوائح.
وقد سجل المجلس الوطني ملاحظة هامة أخرى تتعلق بضرورة الرفع من عدد النساء المسجلات باللوائح الانتخابية العامة حتىيعكس تركيب هذه اللوائح الواقع الديمغرافيالمغربي لأن اللوائح الحالية تطغى عليها نسبة الذكور.
وقد شارك 8ملايينمنالمغاربةفيانتخابات 4 سبتمبر2015. وهذاالرقميتجاوزبمليونناخبتقريباعدد 7 مليونالذينشاركوا فيانتخاباتعام2009.وبالنسبةللبطائقالملغاة فقدبلغتنسبة 11٪ منمجموعالأصواتمقابل 18٪ فيانتخاباتعام 2011 التشريعية. ورغم التحسن المسجل في هذا الجانب فإن مجمل المعطيات تضعف من قوة النتائج المحصل عليها من طرف مجموع المتنافسين.
وتمثل تمثيلية الساكنة ونمط الاقتراع والتقطيع الانتخابي عمليات يتم فيها التشاور مع الهيئات السياسية ولكن تتحكم فيها السلطة بشكل مباشر وتقع المسؤولية بصددها على عاتقها. وقد تمتالإشارة سابقا من طرف العديد من الفاعلين المدنيين والسياسيين إلى الاختلال الحاصل على مستوى تمثيلية الساكنة الناتج عن تقطيع انتخابي غير متوازن وتفاوتات تؤدي إلى سيادة معايير تعكس هواجس أمنية بدل السهر على تمثيلية أفضل للساكنة وفرصة لاتخاذالقرار..
3–معالجة الشكايات ومراقبة الفساد الانتخابي
إن الأرقام التي تثبتها وزارة الداخلية ويتحدث عنها القضاء هزيلة جدا لا تتوافق والمعاينات التي قامت بها الصحافة الوطنية بمختلف تلاوينها وحساسياتها، والتي تتجاوز بكثير ذلك، والمتضررون لا زالوا يسجلون عدم اكتراث وتدخل السلطات العمومية في أغلب الحالات، والإشكال الذي طرحته هذه الانتخابات هو وضع الأمن والسلامة العمومية بالنسبة للمتنافسين وبالنسبة للمواطنين على العموم. وهناك قضيتان عمليتان كشفت عنهما الممارسة:
-هل من المنطقي السماح من طرف السلطات العمومية للعديد من المرشحين بالتقدم للمنافسة بدل تعرضهم للمتابعة أو منعهم من هذا الحق لعدم أهليتهم؟ وقد تم الترويج في فترة ما من الحملة بأن هناك اتفاقا مع الأحزاب السياسية بالاكتفاء بالتزامها الأخلاقي وتأجيل المتابعات في حق المخلين لما بعد هذا الاستحقاق، ولكن أليس من شروط سلامة العملية وضمان مصداقيتها التخلص من هؤلاء وعدم فرضهم على الكتلة الناخبة؟
-استعمل العديد من المرشحين والمرشحات فئات من الفقراء والهامشيين الذين أصبحوا يؤثثون للمشهد الانتخابي بشكل سلبي ويعيقون حركة المرشحين في التواصل الجاد مع الساكنة. وهكذا كانت الحملات جد محدودة في أثرها المباشر على الساكنة وكان هناك مجال لاستعمال المال مباشرة أو بشكل غير مباشر في شراء الأصوات.
هذه بعض الملاحظات التي تضعف بشكل مباشر حياد السلطة في هذا الاستحقاق مهما كان التبجح بغير ذلك.
ب- من الرهانات الكبرى نسبة المشاركة فما هو الحال بشأنها؟
رهان صعب المنال
موضوع المشاركة مهم اعتبارا لرمزيتهوالمشروعية التي يضفيها على العمليات الانتخابية، وبناء على الإحصائيات المذكورة أعلاه واعتمادا على الكتلة الناخبة المؤهلة ديمغرافيا للتصويت potentielle)) تبدو نسبة المشاركة الفعلية أقل من 34 في المائة كمعدل وطني، ويجب تسجيل كون النسب الأعلى للمشاركة جاءت كلها من خارج المدن الكبيرة حيث أنه في هذه الأخيرة تأرجحت نسب المشاركة رسميا عموما بين 30 و32 في المائة بالنسبة للوائح المسجلة. ومثلت قرابة نصف هذه الكتلة الناخبة بالمدن الكبرى أصواتا معبرا عنها لفائدة العدالة والتنمية (للدقة مجددا 49في المائة). وهذا يدفعناللخلاصات التالية:
-رغم المجهودات المبذولة لا زالت هناك مشاكل قائمةفي موضوع التسجيل في القوائم الانتخابية والتحقق منالهوية، مما يفرض على الدولة والفاعلين السياسيين المزيد من البحث والتمحيص فيها.
-لا زال هناك مشكل العزوف عن التصويت ولا زالت مصداقية العمليات الانتخابيةضعيفة لدى غالبية الساكنة أو المواطنين.
إن استمرار هذه المعوقات يحتاج للدراسة والفهم من طرف الباحثين في ميادين المعرفة المختلفة لأن هذه الظاهرة لا يمكن حصر تفسيراتها في عيوب القوى السياسية أو السلطة فحسب،بل ترتبط بالثقافة الجماعية المغربية وبتقاليد وأعراف المجتمع وعلاقة السلطة بالمواطنين وإدراك المواطن للشأن السياسي والتصويت وقضية التحديث الثقافي والمؤسساتي…ويقود فهم هذا المعطىوإدراك مسبباته حتمالمراجعة عميقة لمظاهر العمل السياسي والحزبي وتفاعل السلطة مع المجتمع بشأنهما.
ج- ظروف المنافسة الحرة بين الآراء والمواقف غير تامة
1- لا زال هناك مشكل تصريف مواقف المقاطعة للانتخابات والتعامل معها، حيث أنه من غير المعقول أن تمنع حساسية من التعبير عن نفسها بشكل عادي ضمن مكونات مرحلة الحملة الانتخابية لذلك يجب مراجعة التشريع والممارسة في هذا الجانب لإدماجها الطبيعي والمشروع في نطاق الحملة الانتخابية بنفس الحقوق والواجبات.ويصعب تفسير هذا المسلك التسلطي فقط باعتباره من مخلفات العهد البائد، بل إن السؤال مطروح بوضوح حول معنى الاحتفاظ بهذا المسلك المتخلف في السياق الدستوري الحالي، ولكن هذا يؤشر على استمرار الممارسات التي تريد أن تجعل من العملية الانتخابية تجسيدا رمزيا لولاء وطاعة المواطن للدولة وترفض بالتالي كل تمرد عن ذلك.
من جهة أخرى يبدو أيضا ان الداعين والداعيات للمقاطعة لا يسعون للتعبير فقط عن مواقف من اقتراع أو من مؤسسات بل يتجاوز بعضهم هذا للسقوط في مسلكيات أخرى تضر بالممتلكات العامة والأمن العام. وعلى العموم هناك في بعض الأحيان تجاوزات تدل على منحى يتجاوز التعبير عن رأي للسقوط في منحى فوضوي غير مستساغ في المنطق الدمقراطي.
2–ضعف رسائل التغيير واستمرارية عناصر الـتأزيم
تجميع نسبي للمشهد السياسي
يتبين على مستوى البرامج المعلنة بالنسبة لهذه الانتخابات من خلال الحملات والوثائق الموزعة بالجهات المختلفة غياب مجهود خصوصي خارج بعض الاستثناءات النادرة، فمجمل الخطاب كان محدودا جدا تسكنه العموميات المتداولة، ويطغى عليه التشابه الاصطلاحي والتعبيري بين كل المتنافسين.
غابت المخططات والأهداف الملموسة، والحقيقة أن الجمهور بدوره لم يعبر في أية لحظة عن رغبته في التعرف على برنامج حقيقي للمرشحين أو اعتقاده بأن بإمكان هؤلاء تقديم مثل هذا البرنامج، وكانت مسلكياته عبارة عن تجاهل أو ازدراء أو مداهنة تخفي بنوع من المسالمة المواقف الفعلية للمخاطبين من هذه الانتخابات. وإضافة لحقيقة انعدام قابلية الجمهور المخاطب لنقاش جدي- إلا نادرا -كانت الحملة عبارة عنخطاب أخلاقي مناهض لاختلاس الاموال العمومية ويدعو لل “معقول” و”النزاهة”، وبتمركز النقاش والرهان في دائرة الأخلاق في النهاية غابت مصداقية كل الأطراف وأساءتبنفسها لوظائفها ضمن العملية الانتخابية. هذا علما أنالأحزاب سعت في غالبيتها لنوع من التجديد في دعايتها باللجوء إلى أسلوب “الفيلم المؤسساتي” و”التوثيقي” الذي يطمحلنوع من الحركية في العرض الانتخابي ويوظف مؤثرات وتقنيات حديثة. ولجأت بكثافة الى مكاتب وشركات خاصة بالتواصل للتسويق السياسي والانتخابي وتهافتت على وسائل التواصل الاجتماعي كواجهة للدعاية الانتخابية. لكن الحملة رغم كل ذلك ظلت باهتة، والتجديد في الأشكال لم يتمكن من إخفاء فراغ المضمون.
وعلى مستوى الترشيحات لم تبذل إلا هيئات قليلة مجهودا يذكر في اختيار مرشحاتها ومرشحيها على الرغم من ظاهر الرهان بالنسبة للأغلبية على شخصنة المنافسة، وقامت كثير من الهيئات بمحاولة استدراج النخب القديمة لصفوفها، ولم تتمكن حتى من احترام التزاماتها تجاه بعض الفئات (الشباب-المناصفة مع النساء). لقد كانت هذه المقاربات تعمل في النهاية ضد إعطاء بعد سياسي للحملة لفائدة من استطاع التجنيد بدءا من خلال الانسجام مع خطابه الأصلي المحافظ المستعمل للدين بشكل مباشر.
وأسفرت النتائج عن فشل جزء من عناصر النخبة القديمة وطردها من الرقعة أو تقليص تأثيرها السابق على المؤسسات المنتخبة خاصة في المدن الكبرى، بينما لم تتمكن العملية من تقليص نفوذ هاته الكائنات الانتخابية بالبوادي وجماعات العالم القروي. وقد اخترقت عملية تجديد النخب المدن والبوادي أيضا لكن آثارها الأكثر مقروئية ظلتتطبع الأوضاع الحضرية أساسا، بينما عرفت البوادي أوضاعا أكثر تركيبا وتعقيدا. وعلاقة بسلوك الناخب يتبين من خلال هذه التجربة مجددا أن التواصل المباشر مع المواطنين يظل أفضل السبل مردودية بالنسبة للمرشحين وأنه هو المحدد الأول للنتائج لحد الساعة في المغرب.
هناك على الرغم من كل هذه الاعتبارات حقيقة مهمة تبرزها نتائج الانتخابات الجماعية والجهوية ومجالس العمالات والأقاليم، تكمن في نوعمنالتجميعللمشهدالسياسيبوجودقوىتتصدربشكلقويوبارز المشهد السياسي المؤسسي المغربي، فالأحزاب الثلاثة (العدالة والتنمية، الأصالة والمعاصرة، الاستقلال) يتجاوزون نصف الأصوات المعبر عنها ويمثلون أغلبية قوية داخل كافة المؤسسات المنتخبة التي مسها الاقتراع، وهذا يكشف عن إرهاصات اصطفاف سياسي نسبي ويكشف عن معطى مؤسساتي جديد نسبيا على التجربة المغربية. وإذا تمكنت هذه الظاهرة من الاستقرار في السلوك الانتخابي فلابد ان تنتج عنها بعض الآثار على أوضاع الأحزاب السياسية الحالية، والسياسات العمومية للدولة من خلال المؤسسات وربما تعطي فرصة أفضل للحديث عن المحاسبة بالنسبة للناخب والناخبة مستقبلا وقد نرى فيه مع بعض التجاوز بوادر سلوك انتخابي سياسي في تعبيراته الجنينية يضع فيه الناخب (او الناخبة) نوعا من العقاب والمحاسبة للمتنافسين.
3- هل الفوز بمقاعد انتخابية عمل سياسي؟
سؤال غريب تفرضه النتائج في مرحلة انتخاب المكاتب واللجن والرؤساء بالجماعات والجهات ومجالس العمالات، التي تحولت إلى مشهد مثير لم يعد فيه للخطاب السياسي أي معنى، فإذا كانت الانتخابات الجهوية المباشرة قد أعطت تصدر حزب العدالة بحصوله على 174 مقعدا (25,66 بالمائة)، متبوعا بحزب الأصالة والمعاصرة ب 132 مقعدا (19,47 بالمائة)، وحزب الاستقلال ب 119 مقعدا (17,55 بالمائة) أسفرت عملية انتخاب المكاتب في النهاية عن فوز حزب الأصالة والمعاصرة برئاسة خمسة مجالس جهات. حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية وحزب التجمع الوطني للأحرار برئاسة مجلسي جهتين لكل واحد منهم. في حين فاز حزب الحركة الشعبية برئاسة مجلس جهة واحد. ويتبين من هنا أن الفائز الحقيقي هو حزب الأصالة من خلال تحالفات متنوعة لا رابط بينها. والحالة عامة على باقي الرئاسات الأخرى التي سقطت في نفس الوسائل.
وتصدر حزبالأصالةوالمعاصرةنتائجالانتخاباتالجماعيةبرسماقتراعرابعشتنبر،بحصولهعلى 6655 مقعدا (بنسبة 21,12 بالمائة)،متبوعابحزبالاستقلالالذيحصلعلى 5106 مقعدا (16,22 بالمائة)،وحزبالعدالةوالتنميةالذيحصلعلى 5021 مقعدا (15,94 بالمائة) يليه.حزبالتجمعالوطنيللأحراررابعابعدحصولهعلى 4408 مقعدا (13,99 بالمائة)،والحركةالشعبيةعلى 3007 مقعدا (9,54 بالمائة) في المرتبة الخامسة .ولكن توزيع الرئاسات والمكاتب في هذا الجانب لم يخرج عن قاعدة تحالفات مصلحية محلية تتمرد على المعايير التي تم الحديث عنها من طرف الهيئات السياسية.
وفي مجالس العمالات والأقاليم وبعد عمليتين انتخابيتين فاز حزب الأصالة والمعاصرة برئاسة 22 مجلس، متبوعا بحزبي التجمع الوطني للأحرار وحزب الاستفلال ب 11 مجلس لكل واحد منهماحزب الحركة الشعبية ب رئاسة8 مجالس، حزب العدالة والتنمية وحزب الاتحاد الدستوري وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية برئاسة 5 مجالس لكل واحد منهم، حزب التقدم والاشتراكية فاز برئاسة 4 مجالس، – الحزب الاشتراكي الموحد وحزب العهد الديمقراطي فاز كل واحد منهما برئاسة مجلس واحد،
وبالنسبة لمجلس المستشارين أصبح حزب الاستقلال قوته الأولى ب 24 مقعد متبوعا ب 23 مقعد للأصالة والمعاصرة و12 مقعد للعدالة والتنمية ثم الحركة 10 والتجمع 8 إلخ ولكن الرئاسة عادت لحزب الأصالة.
إن التحالفات السياسية والانتخابية في المنظومة الديمقراطية عبر العالم تندرج عادة في اتجاه تخفيف وقع النتائج الانتخابية المباشرة وتبحث عن تصحيحات للوضع المؤسساتي الجديد عبر التفاهمات الجديدة التي يتم إقرارها، لكن في الحالة المغربية لا نوجد ضمن هذا الصنف من الممارسات بل ضمن صورة تبدو فيها عدم قابلية إخضاع التمثيليات المحلية والجهوية لأي مشروع سياسي مشترك يتجاوز المجال المحلي والجهوي،
وفي كل هذه المحطات غاب الاختيار السياسي لفائدة اختيار المقعد الانتخابي بالنسبة لكل الفاعلين. وهكذا مثلت التحالفات العشوائية ذات الطبيعة المحلية والظرفية فسيفساء غير منسجمة جسدت ظاهرة تنضاف للصور السلبية التي تطبع ذهن المواطن حول الممارسة السياسية المغربية وتعمل على تكريس الجمود في الحياة المؤسساتية واستمرار عناصر الضعف والإفساد.
4-تجديد النخب
إلىأيحداستطاعتالانتخاباتالأخيرةأنتشكلقفزةنوعيةفيالتأسيسلممارسةديمقراطيةكاملةتفعّلمبدأ “المحاسبةعلىأساسالمسؤولية”؟ حسب الإحصائيات الرسمية المتوفرة 15.028منالمنتخبينيتقلدونمناصبهملأولمرة،نصف المنتخبينالفائزينلميترشحواسابقاقط ثلثمنتخبيالجهاتهمجددوهناكقرابة 30 فيالمائةمنالمرشحينأقلمن 35سنةمنالعمرو82 فيالمائةمنالمرشحينلهم تعليمعاليأو ثانوي، و27فيالمائةنساء.
وموضوع النساء في حدذاته مؤشر هام للوضع الفعلي للتجربة السياسية بالمغرب حيث أنه رغم تواجد دستور يفتح السبيل نحو المناصفة بين الرجال والنساء فإن الفرقاء لم يتوافقوا دولة وأحزابا إلا على أقل من 30 في المائة كنصيب محاصصة مرحلية، وتبين واقعيا أن العقليات السائدة لحد الساعة على مستوى المجتمع المغربي (أو على الأقل على مستوى كتلته الناخبة المسجلة والمشاركة) غير مقتنعة في معظمها بفكرة ومبدأ المساواة بين الرجال والنساء.
لقد حصلت إذن، بشكل ما عملية للتجديد تحتاج إلى النظر من طرف الباحثين وإذا خرجنا من سياق العموميات المتداولة علينا أن نتأمل في اتجاهين أولهما ما يجري ببلادنا على مستوى ما اصطلح عليه بالمشهد والفاعلين السياسيين من جهة وثانيهما على مستوى المجتمع المغربي وتحولاته العميقة الأخرى والتي يفرز في إطاراتها قياداتهses nouveaux leaders وصانعي الرأي ومالكي القرار فيه. والوقائع السياسية هي أحيانا تجسيد لتحولات مجتمعية وثقافية عميقة جرت في إطار زمني أطول.فأيةاستمراريةوأيتغيير ضمن هذا المسار المغربي؟ الكثير من الأبحاث الاجتماعية تدل على حصول تغيرات في مجال الريادة في المجال القروي المغربي وتواصل الانفجار الحضري بالمدن في الخمس والعشرين سنة الماضيةمع حصيلة اجتماعية كارثية في جميع المجالات (الصحة والتعليم والشغل..). وهناك بعض الأسئلة المهمة التي طرحت في السنين الماضية حول أوضاع الطبقات الوسطى وهويتها. فبقدر اندحار الطبقات الوسطى الاجتماعية الحضرية التي صاحبت ربع القرن الأول لمرحلة الاستقلال وتدهور أوضاعها، لم يبق المجال فارغا بل ملأته فئات جديدة تمثل طبقات وسطى بامتياز من حيث مستوى العيش ولكنها نابعة من موارد مثل الهجرة إلى الخارج والاقتصاد الموازي ولا تحتاج إلى الدولة وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية إلا جزئيا، هذه الفئات عنصر مكون أساسي للمجال الحضري الجديد بالمغرب في أبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها ولها بالضرورة نتائج على مستوى السياسة.
علينا أن نتذكر أيضا أن هذا الواقع الجديد هو حصيلة مركبة لعدد من العناصر، من بينها التطويق الذي عرفته المدن المغربية منذ الستينيات من القرن العشرين من خلال توظيف الهجرة القروية وأحزمة الفقر في القضاء على الطموحات الديمقراطية لنخب المدن وساكنتها الأصلية،ولنتأمل كيف انقلب السحر على الساحر مع نهاية الثمانينيات من نفس القرن، وبروز مخاطر الإرهاب الملتحف بغطاء الدين في عقر المواقع التي كانت مسخرة لقمع مطامح المجتمع.
ومن بين المحاور المهمة اليوم لفهم الواقع السياسي ببلادناالتحديد الدقيق لمكونات اقتصاد الريع واستيعاب آثاره الملموسة والمتعددة على الاقتصاد المغربي وعلى الفاعلين وعلى الحقل السياسي وكل المجتمع، وهذا ما يمكنه أن يشرح لنا العلاقة المختلفة التي تنسجها الفئات الوسطى مع المجال السياسي. هاته الفئات الوسطى الصاعدة لا تنسجم مع التحاليل التقليدية القائلة بأنها قاعدة البناء الديمقراطي ودولة الحداثة والقانون،أو دولة الرفاه، ولكنها على العكس من ذلك منفصلة تماما عن المنظومة الفكرية والقيمية التقليدية ونظم التضامن الاجتماعي للبرجوازية المتوسطة والصغرى التقليدية، وتتضايق من الدولة الوطنية عموما بكافة صيغها ومن كل من يدافع عنها أينما وجدت وذلك لأنها لم ترتق بفضل الدولة ولا ترى نفسها مدينة لها بأي شيء. لذا فحقيقة ما تطلبه هاته الفئات هو أن تبتعد الدولة عن شؤونها ليس إلا.
من جهة أخرى يجب توضيح أن ما نتعارف على تصنيفه بالنخب في مجال التمثيل السياسي والجماعي يرتبط في الواقع بنمط التدبير السياسي الراهن وطبيعة السلطة في النظام المغربي وبالتالي يتشكل من الريع ويستهدف تنميته كمشروع وغاية مما يعني أن التحولات التي تؤسس للحداثة تفترض تحولات في النخب نفسها وليس فقط في طبيعة المؤسسات ووظائفها.
5-قراءة سياسية في النتائج
-مد محافظ ديني
إذا كانت هناك عبرة تستخلص من استحقاقات 4 سبتمبر وما تلاها فهي أن الشأن السياسي وواجهته الرئيسية وعقيدته لها تأثير جد محدود سواء لدى الفاعلين السياسيين أنفسهم أو لدى الجمهور المغربي المخاطب، أي أنه لم يستقر بعد للسياسة معنى في ذهنية المغاربة فاعلين كانوا أم مواطنين عاديين. ومهما تباينت التصورات حولها داخل المجتمع أبانت التجربة الأخيرة على درب كل التجارب التي سبقتها أن الخلط قائم بين السياسي وبين ميادين أخرى كالدين /الهوية /السلطة…والوضع يزداد تأزما بحكم هيمنة الثقافة البطريركية،وسيادة التمييز بين الجنسين وتهميش الشباب.
وعلى الرغم من أن الصورةالإجمالية للنتائج جد مشتتةحدث شيء هام فيها، يصاحبهخليط يشوش على جوهره ومعناه،وعلينا أن ندرك دلالاته وألغازه اليوم بسرعة نظرا لتدافع الأحداث دوليا وجهويا ووطنيا ونتائجها الوخيمة المحتملة.
قد نكون في مرحلةجديدةبدأتإرهاصاتهامعماسميبالربيعالعربيومؤداهافرزنخبسياسيةجديدةللمشهدالعربيالمترهلالذيطبعتهسيادةالاستبدادمن خلالنخبجيلمواجهةالاستعمار، والذين حكموا ودبروا نصف القرن الذي تلي خروجه من بلادنا، ولكن في سياق هذا التطور بدا نضال الفئات الاجتماعية المغربية من أجل ثقافة وممارسة ومؤسسات دمقراطية رغم زخمه غير قادر على تغيير موازين القوى وعلى ترجيح كفة التحديث وقيمه. بل إن المسار أدى اليوم بوضوح إلى تقوية اختيارات اجتماعية لاتتماشى مع المطالبالدمقراطيةفي عمقها وجوهرها، لأنقضاياالحريةبمفهومهاالإنسانيغيرحاضرةلديها، والفردوحرياتهالفرديةوالمساواةبينالرجلوالمرأةوحريةالمعتقدأشياءلاتستحوذعلىاهتمامالمواطنالعاديبتاتا، علمابأنهامنأسسالممارسةالدمقراطيةوقيمهاالكبرى.
إن تعمقالمدالأصوليفي الساحة كمنحىفي أشكاله السياسية المتعددة ومضمونه الفكري والعقائدي، يسقيكل بذور المرحلةويقتلالتنوعوالتعددالاجتماعي، وما يزيد من قوته كونه اتجاه محلي يسبح على موجة جهوية تلف منطقتنا اليوم بشكل شبه كامل. بل في هذا السياق يتجلىالنموذج المغربي كاستثناء في إطار الحرب العالمية الجديدة التي اتخذت اسم الحرب ضد الإرهاب، وما حدث في المغرب في انتخابات 4 سبتمبر لقي استحسان الكثير من الفاعلين في الحركات الإسلامية بالبلدان المجاورة. وبعضهم يستحضر استراتيجيةاختيارإدماجالاتجاهاتالأصوليةفيالمنظومةالسياسيةالمغربيةالتيتحددتخلالحكمالحسنالثاني ويرون فيها حكمة جنبت المغرب المطبات التي تعيشها بلدان أخرى.
إن المتأمل في الوضع المغربي يكتشف أن الخطاب الديني شكل دوما مدخلا للسياسة على مدى قرون عديدة، ويمثل اليوم لدينا مجموعة مركبة من المعتقدات الشعبية والرموز الوظيفية المنتشرة عبر التراب الوطني بدون تجانس اعتبارا للتعدد الثقافي للبلاد، ولكنه أيضا مؤسسات تتخذ شرعية خاصة بهاوريادتها من خلال العلماء وارتباطات متفاوتة بالسلط القائمة وتمتلك تاريخيا مرتكزات حضرية وامتدادات تقيم الصلة بين المساجد والفقهاء على مدى التراب المغربي.
وفي التاريخ المخزني لمغرب القرون المتأخرة كرس العلماء نوعا من السلطةالمستقلة لمنافسة السلاطين وكانواالممالئين الأكثر حظوة لديهم والمنتقدين الأكثر خطرا عليهم، وتمثل المحن التي عاشها العديد من هؤلاء العلماء بسبب بطش السلاطين وغضبهم عليهم مرجعية مهمة في ذاكرة العلماء والثقافة الشعبية على حد سواء. وشكل هذا المنحى العميق في سلوك المغاربة الحاجز الثابت أما بروز مؤسسات الدولة بمعناها الحديث داخل بنيات السلطة على امتداد قرون عديدة كما مثل حلا تاريخيا يضمن الجمود في كل مراحل التاريخ التي كانت تفترض التطور والتغيير. وأمام تخلف بروز الدولة الحديثة ظلت الاحتجاجات الدينية للعلماء بشكل متواتر التعبير الأكثر حضورا في انتقاد السلطة ومعارضتها.. علما بأن كل الحركات التي تتمرد على المخزن تصنف سيبة في الذاكرة الجماعية في كل الأحوال طالما لم تتمكن من حسم السلطة لصالحها.
لكن بروز الإسلام السياسي الجديد يؤرخ لمرحلة عالمية من الحلقة المفرغة التي يمر بها التطور السياسي بمنطقتنا وبلادنا يتجسد فيها الاستحواذ على مستوى كوني من طرف فئات غير عالمة على الرصيد التاريخي الديني والذاكرة المشتركة للعلماء في انتقاد للسلطة بالنسبة لمجموع البلدان المصنفة بالإسلامية، معيدالكن بشكل جديد التحولات التي كانت تقع في حالة الزوايا والطوائف الدينية من مجال دعوي صرف إلى أطماع السلطة والحكم في هذه المناطق من العالم.إن هذا الاتجاه يؤدى مجددا بالضرورة إلى انعكاسات كبيرة على مستوى البلدان المختلفة، وكذا على المغرب، ويمثل بشكل ما إجهاضا جديدا لفرص التحديث أو صيغة مشوهة لهذا التحديث وآثاره على بلداننا.
وعلينا ألا ننسى بأن الحركة الوطنية المغربية نفسها ورموزها الكبار خاصة علال الفاسي تنتمي لنفس المجال، والتحرير الوطني تم في واقع الحال اعتمادا على ترويج خطابات رواد الكفاح الوطني كعملية جهادية في سبيل الله، وحتى الاستعمار نفسه باشر عملية التحديث (الحماية) ساهرا على المحافظة على الأنماط التقليدية المختلفة وعدم المساس بها، وسعى بدوره لتوظيفها قدر الإمكان فيخدمة الأهداف الاستعمارية. وظلت الدولة المخزنية بدورها حريصة على الاستفراد بالريادة الدينية إضافة للسلطة الدنيوية.
لذا يجب اعتبار الواقع المغربي من زاوية كون الخطاب الديني هو الأكثر نفاذا في المجتمع والأكثر مشروعية من زاوية وعي المتلقين،لذا تتخذ مشروعية الخطاب السياسي طريقها من خلاله لحد الساعة حكومة ومعارضة. وعلىالرغم تاريخيامن تكرار المحاولات الفاشلة للتحديث من خلال المدخل الديني ظل هذا رهانا احتماليا واردا كسبيل لتحديث مؤسسات المجتمع المغربي والالتحاق بركب البشرية الراكض بسرعة. إن مراكمة قرون من الفشالات المتكررة من خلال هذا السبيل تبدو غير كافية لإقناع المغاربة بضرورة التغيير،وبالتالي تبدو ضرورة تغيير المنظومة القيمية كأحد رهانات المرحلة القادمة الصعبة وربما المستحيلة من أجل الفصل بين الدين والدولة وفتح السبيل لإقرار الأسس اللازمة للدولة الحديثة. وبدونها سنسير بالضرورة في اتجاه نفق مسدود تماما.
6-هل يمكن قراءةالنتائج بدون وضعها في سياقها التاريخي وإطارها الظرفي العام دوليا ومحليا؟
لقد انهار منذ بداية التسعينات من القرن الماضي المعسكر الاشتراكي واندثرت محاولات بناء معسكر عدم الانحياز، وعلى أرضية انتصار الليبرالية الاقتصادية في المنظومة الدولية نشأ واقع جديد له مظاهر استراتيجية متنوعة ، من بينها تحرير التجارة والتحاق البلدان بمنظومة السوق و سيادة الرأسمال المالي ومنطقه المضارب ،ومع الأزمات العالمية المتتالية والانحسار الاقتصادي في البلدان المصنعة والاقتصاديات الكبرى بدأ التكريس المطلقلمعايير المنافسة في الإنتاج وخلق القيمة والبحث عن الربح خارج الحدود، وتوجيه الاستثمار حيث هناك مراكمة للقيمة، والبحث في سلسلة القيم عن موقع يضمن عرضا أفضل للمؤهلات والخدمات والمنتوجات عالميا وإعادة ترتيب الاقتصاديات الوطنية على هذه القاعدة.
العولمة والتكنولوجيا الجديدة
تتجلى المرحلة الجديدة من النظام الرأسمالي في العولمةكنمط انتاج يسيطر في كل مكان من بلدان العالم له قواه المنتجة وله علاقات انتاجه الملائمة وله دائرته التبادلية التجارية الملائمة. وما يميز الظاهرة التي نعيشها الآن هو:
-1 تسارع الاكتشافات العلمية والتطور التقني الكبير خصوصا في التواصل والمعلومات.
-2 المنافسة بين قوى عملاقة متعددة الجنسيات والرساميل العابرة للقارات. خارج دائرة تحكم الدول القومية والسياسات العمومية المشتركة.
-3 تداخل الصناعات عبر الحدود وانتشار أسواق التمويل وتماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول.
ويبدو المغرب في هذا الإطار بلدا مركبا من أربع مكونات أساسا: الفوسفاط، الهجرة، السياحة والزراعة، مع بصيص تنامي للقطاع الصناعي والخدماتي لكنه غير مستقر. ومثله مثل العديد من البلدان يحمل طموحاللحاق ببلدان الاقتصاديات الناشئة ((pays émergentsمع تفاوتات مهمة.
وعلى المستوى السياسي والجيوسياسيةنعيش في هذا السياق مرحلة توزيع جديد للقوى والتوازنات الدولية وإحدى المفارقات الأساسية بيننا وبين هذا المسار تكمن في حراكيته السريعة وديناميته الشديدة أمام آليات وطنية بطيئة جدا إن لم نقل إنها مصابة بجمود هيكلي.
ونظل جهويا رغم بعض المحاولات النسبية جدا، مستهلكين أساسالما تفتحه المرحلة الجديدة من قدرات وإمكانات عالميا، لكنأحيانا في اتجاه توظيفها لخدمة مشاريع ماضوية وتعزيز التخلف الفكري والثقافي رغبة في استدامة الاستبداد السياسيوريعه الاقتصادي. وفي هذا يظل المغرب في موقع هش تتجاذبه خصوصياته التاريخية وموقعه الجيوسياسي والإكراهات الذاتية المحلية والدولية، وتتملكه ازدواجية تمثل انفصاما خطيرا في هويته وبنياته المختلفة.
نحن المغاربة نعيش اليوم امتحانا عسيرا إذ استعصى على مجتمعنا الانفتاح والإصلاح منذ 4 قرون متتالية، وعلى الرغم من الرصيد التاريخي للمخزن الذييمتلك قدرة استثنائية علىأقلمة علاقته بالمجتمع والعالم.وعلى الرغم من جرعات الإصلاح المحدودة والمحروسة القادمة من فوق كقدر حتمي ونهائي يتماشى مع البنيات والقوى القائمة، فإن الوضع يسير نحو دورات يتقلص قطرها باستمرار وسرعة.
لقد مثل العجز عن الإصلاح والتغيير والفشل فيهما عنصراتاريخيا ثابتا في مجتمعنا على امتداد قرون عديدة،فهل ستكون المحاولة الراهنة مجرد محاكاة باهتة يفرضها السياق الدولي على بلادنا، أم الفرصة الأخيرة للتخلي عن معوقات الماضي والانطلاق في اتجاه بناء مستقبل حقيقي لأجيالنا؟ وبعد مئات السنين من محاولة الإصلاح الفاشلة، ماهي المؤشرات التي يمكن أن تعزز ظروف المحاولة الحالية وحظوظ النجاة لبلادنا في مرحلة يعرف فيها العالم وضعا انشطاريا تعاد فيه صياغة المجال؟وهل يمكن اعتبار الانتخابات المغربية ومحاولة إعطاء دينامية للمؤسسات المختلفة –المنتخبة وتلك المرتبطة بالمجتمع المدني والمؤسسات الدينية القائمة –كافيا لحماية المجتمع المغربي من جاذبية الانشطار التي تهم مختلف المجتمعات الأخرى جهويا وعلى مستوى بلدان جنوب البحر الأبيض المتوسط والخليج؟ وهل يمكن اعتبار التراكمات الكمية لتجربة السياسة والأحزاب والانتخابات إلى يومنا هذا ونتائج الانتخابات الأخيرة ل 4 سبتمبر في المغرب كافية لإقرار النقلة النوعية في النظام الاجتماعي والسياسي؟
تطرحالتجربةالانتخابيةالأخيرةأسئلة، من بينها تلك التي تهمتحديدمعنىومضمونالشأنالسياسيوالشأنالعموميفيالواقعالمغربيمؤسساتيا،ودلالاتاستمرارعزوففئاتواسعةمنالشباب؟لكن أهم الأسئلة على الإطلاق هو لماذالايمثلالتصويتعملاذاقيمةمعنويةإيجابيةلدىالمواطنينالمغاربة؟ وكيف الوصول إلى مرحلة تجعل منه سبيل لتجسيد سيادة الأمة وتعبيرا عن حرية مواطناتها ومواطنيها في الاختيار؟
وبالفعل، من بين الأسئلة المحرجة للتاريخ المغربي الحديث ذاك الذي يبحث عن دور التصويت والانتخاب في تغيير الواقع السياسي المعاش في المغرب؟حتى الاستقلال تم الحصول عليه من خلال مفوضات ومعاهدات لم يتم وضعها قط للتصويت. إذ لم يكن هذا السلوك السياسي الدمقراطي الأساسي يوما ما سببا في التغيير ولو رمزيا، بل تم رفضه أو تشويهه بشكل مستدام في كل اللحظات التاريخية التي كان بالإمكان الاعتماد عليه فيها.ويبدو أن السلطة الرمزية للدولة (هيبة المخزن) لم تكن تقبل بإمكانية وضع المسألة للمنافسة الدمقراطية، لذا ظلت كل الدساتير التي تبناها المغرب مبنية على عملية استفتاء تشوبه باستمرار عمليات تزوير وتدخل للسلطة من أجل الحصول على النسب الخيالية 99.99 في المائة، رغم أنه بالإمكان أن تصبح هذه الوثائق قوية من خلال مصداقية 60 أو 70 في المائة؛ وهذا ما حصل حتى في دستور 2011 رغم الظرفية الخاصة والخطيرة التي كانت البلاد تمر بها. والسؤال المحرج حول هذا الأخير هو ما يلي: هل دستور 2011 نتيجة للحراك الشعبي أم لتصويت المغاربة في صناديق الاقتراع؟
لقد تدخلت السلطة مباشرة في 62لإفساد الاستفتاء حول أول دستور للاستقلال، ثم مباشرة بعد ذلك لإفساد الانتخابات التشريعية واستمر هذا التدبير في عمقه رغم تحول الظروف على مدى عشرات السنين ورغم تحول الأشكال التي يتم بها التدخل.
7-ماهيدروس التاريخ الحديث بالنسبة للعمليةالانتخابية في المغرب؟
مقارنة بين حدثين او زيارة قصيرة للحظات هامة من التاريخ الحديث:
في 29 ماي 1960 توجهنحوأربعةملايينو590 ألفمغربيلمكاتبالتصويتمنأجلانتخابأعضاءأولىالمجالسالجماعيةفيتاريخالمغرب،طبقالمقتضياتالظهير 161-59-1 بتاريخفاتحشتنبر1959،بنسبةمشاركةبلغتنحو 60 بالمائة. لم يطعن أحد في النتائج أو في نسب المشاركة لأن آلة التزوير الانتخابية لم تكن بعد قد تأسست، وبتلك المناسبة تم اكتساح تمثيلية المدن المغربية من طرف هيئة سياسية جديدة هي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وكان الخاسر النسبي حزب الاستقلال الذي تمرد عن أحضانه جزء أساسي من الاتحاد الناشئ. أي أنه في مرحلة التأسيس للدولة المستقلة كانت المؤسسة الوطنية التي صنعت الاستقلال متصدعة بين قواها المكونة وفاجأ الاتحاديون بتلك النتيجة النظيفة معلنين قوتهم في وجه حزب الاستقلال الذي كان يرى في نفسه حينذاك حزب المغاربة الأوحد.
وللعبرة أيضا ابتداء من 1962 دخل المغرب مرحلة التزوير المنهجي حيث تقول الأرقام اللاحقة الرسمية المثبتة اليوم في وثائق وزارة الداخلية بأن نسبةالمشاركةارتفعت خلالالانتخاباتالجماعيةالمواليةلتصلإلىحدود 76 بالمائةبرسماقتراعي 28 يوليوز 1963 وثالثأكتوبر 1969 أي في سنوات الرصاص الأكثر قسوة والتي لم يكن الناس خلالها يتوجهون بتاتا لصناديق الاقتراع ولا يقيمون أي اعتبار لها رغم الإرهاب السلطوي المسلط عليهم..
للتذكير دائما فتحت الانتخابات الجماعية لسنة 1960 باب مرحلة جديدة في تاريخ المغرب بدأت بالصراع حول الدستور وانتخابات برلمانية عرفت تزويرا واسعا وانطلا ق الصراع حول السلطة بين النخبة السياسية بمجملها والملك الشاب الحسن الثاني والذي كانت تسنده مؤسسات الدولة الناشئة العسكرية والأمنية. فهل ستفتح انتخابات 2015 باب الصراع بين مجموعات الإسلام السياسي والقصر مجددا حول السلطة؟
إشكالات الصراع على السلطة كخلفية تاريخية ظلت لمدة طويلة جدا تسكن العقلية الجماعية للمغاربة وذهنية مقاربتهم للدولة وأجهزتها، بل لا زالت ازدواجية المخزن والسيبة هي المفهوم الحقيقي للوعي السياسي المغربي بكل حساسياته في البلاد لحد الساعة، وكذا المفهوم الفعلي للدولة القائمة ووعيها العميق لذاتها نفسها. ومن بين نتائج ذلك اعتبار الولاء المخزني مرجعية أساسية في العلاقة بين المجتمع والسلطة داخل الأجهزة والمؤسسات المختلفة للمجتمع. فالمعارضة ولو حاولت التمرد على هذه الثقافة العتيقة فإن السلطة تقاربها من زاوية كونها “سيبة”، والحقيقة أيضا هو أن المعارضة في معظمها وواقعها وفي وعيها بذاتها وتنظيماتها «سيبة” و”مخزن” في آن واحد. وكل طرف يغذي الآخر وينهل منه باستمرار، بل لربما كانت إحدى الأزمات الناتجة عن الواقع المنمط للشأن السياسي بالمغرب هو استحالة بناء منظومة عقائدية منفصلة عن منظومة المخزن/السيبة لحد الساعة، وعجزها التخلص من العلائق التي تفرضها حتما والتي تجعل من كل الفاعلين السياسيين الحقيقيين تجسيدا لهذه المنظومة حتى على مستوى الأفراد. وبهذا تعتبر نتائج الانتخابات التي جرت في 2015 تجسيدا لكل المفارقات التي تحملها هذه الوضعية كوعي سياسي وكمؤسسات.
ومن بين المظاهر الواضحة في هذه المعضلة حقيقة غياب مشاركة واسعة للمواطنات والمواطنين في الحياة العامة حتى اليوم رغم ما يتضمنه دستور2011 من فقرات حول التشاركية وحقيقة العجز الهائل في التفاعل مع الكثير من المجالات التي تهم حياتهم، وإمكانية التعبير عنها أو اقتراح حلول لها من خلال العرائض والملتمسات بشكل شرعي وقانوني.
إن استمرار المنظومة السياسية وبناء الدولة ضمن صيغة المواجهة بين المخزن والسيبة على مدى أكثر من 60 سنة عطل بشكل كبير نشأة العمل السياسي بمضمون حداثي ومؤسساتي حقيقي، لأن مكونات المخزن والسيبة مكونات تنتمي لما قبل الدولة الوطنية في شكلها العصري، وهو أيضا سبب في عدم تشكل الأحزاب في صيغة حداثية، وفي عدم فاعليتها وعج