قال أستاذ العلوم السياسية محمد الساسي إن المشكل الكبير في مرجعيات الحريات العامة هو تداخلها، فكيف يمكن مثلا أن نجمع بين المرجع الديني والمرجع الكوني للحقوق والحريات؟، مشيرا أننا لم نهتدي بعد إلى منهجية عامة لحل هذا المشكل.

وأكد الساسي خلال مشاركته في ندوة نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أمس الاثنين، حول “الحريات العامة: المرجعية والفعلية” ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب 2024، أن هناك أكثر من طرف له مصلحة في عدم حل هذا المشكل.

وأضاف “هناك طرف في المجتمع يعتبر أن المرجع الديني يعلو ولا يعلى عليه، ومنه المرجع الديني القائم على القراءة الحرفية الجامدة للنص الديني، وهناك من يعتبر أن المرجع الحقوقي الدولي يسمو على المرجع الديني التقليدي”.

تبني الشيء ونقيضه

وأشار الساسي أن تداخل المرجعيات يسمح بلعبة تبني الشيء ونقضيه، فهناك داخل المجتمع من يعتبر الإسلام مثنا مغلقا لا يتأثر بشروط الزمان والمكان، وكل مساس بما جاء في هذا المثن هو مغامرة بمصير أمة بكاملها، وأن هذا المثن هو نهج اختاره المغاربة.

وشدد على أن هذا الخطاب يعرف حاليا نهجا تصعيديا وعنفا يؤدي إلى اتهام أطراف معينة بأنها تقول إن الله أخطأ، مما أدى إلى بلورة أرضية تعتبر أن الأمة سيضيع مصيرها ومآلها إذا أخذت بالمرجع الكوني لحقوق الإنسان، معتبرا أن هذا التوجه لا يعتبر “الأمة” أنها جزء من المخاض العالمي الذي أدى إلى بلورة أرضية عامة ملزمة للجميع بخصوص حقوق الإنسان.

وسجل الساسي أن هناك جهات رسمية تعتبر أنها تخوض ضد هذا الطرف حربا للمزايدة بالإسلام وتقديم نفسها على أنها الأكثر إسلامية، والحقوقيون هم ضحايا هذا الصراع، وهنا يتم الاعتماد على الفهم التقليدي للدين، وفي نفس الوقت التبشير بحداثة اقتصادية واجتماعية تتنكر للحداثة السياسية التي هي ثمرة لتطور تنويري يهم التاريخ والإنسان والدين نفسه.

وتابع ” هناك من يستعمل الدين لرفض المشروع التحديثي التنويري الكوني لحقوق الإنسان، وهناك من يضطره هذا الصراع إلى التشبث بجزء من المرجع التقليدي لخدمة أهداف سياسية، ويبشر بحداثة اقتصادية واجتماعية، ويرفض الحداثة السياسية، ويحول قداسة الدين إلى قداسة للسياسة”.

ولفت إلى أن تداخل المرجعيات يجعلنا في ذات الوقت نقدم فتوى لقتل المرتد (المجلس العلمي الأعلى) ولا نجرم الردة في القانون الجنائي، فالخروج عن الدين الإسلامي في القانون الجنائي لا يتبعه أي عقاب، لكن المجلس العلمي الأعلى أفتى بقتل المرتد، علما أن الدستور يشير أن فتاوي هذا المجلس تعتمد رسميا.

وأبرز أن تداخل المرجعيات يجعلنا تارة نستعمل قانون الصحافة والنشر، وتارة أخرى القانون الجنائي وبينهما اختلاف في المقاربة والجزاء، مؤكدا أنه لا يمكن حل هذا المشكل دون أن يكون هناك طرف خاسر، لأننا نقول بازدواجية المرجع لكن هذه المراجع متعارضة وليست متكاملة.

الإصلاح الديني

واعتبر الساسي أن الحل يكمن في الإصلاح الديني، موضحا أننا لم نتبنى بعد خطة لإصلاح ديني شامل، وتبقى النظرة التقليدية للدين لعبة سياسية في يد أكثر من طرف والأطراف كلها لا تريد التخلي عنها، مضيفا ” يمكن القول إننا تجاوزنا الأمر وطنيا باعتماد إسلام معتدل، لكن هل هذا الشعار يحل المشكل؟.

وزاد ” المشكل في نظري أكبر من ذلك لأن ما تعتبره جهة معينة وسطية واعتدال، لا تراه جهة أخرى كذلك”، مبرزا أن المقصود بالإصلاح الديني هو إعادة هندسة ما نسميه بالشريعة الإسلامية، لأنه إذا اعتبرنا أن القرءاة الحرفية للنص الديني هي الأساس، كيف نتبرأ من عملية القتل والإرهاب بعد ذلك وهي مجرد نتائج لهذا المنهج، حيث تبقى نقطة ضعف هذه المرجعية هي أنها لا تستطيع تعميم المنهج الذي تدافع عنه.

كيف ندرس الإسلام لأبنائنا؟

وتساءل الساسي كيف سندرس الإسلام لأبناءنا ونحن نردد لا اجتهاد مع وجود النص، الشريعة القرآن السنة، الحديث والإجماع، الإسلام دين ودنيا وأجاب عن أسئلة الحاضر والمستقبل، وكيف نقدم الديانات الأخرى لأبنائنا هل بنظرة عمودية يتفوق فيها الدين الإسلامي أم أفقية تتساوى فيها الديانات بين بني البشر؟.

وشدد على أن الإصلاح الديني هو الاعتراف بوجوب ثلاثة جوانب تبدأ بالقرآن (جانب روحي وعقدي)، جانب العبادات ثم المعاملات، والمفروض أن هذا الجانب الأخير يخضع لظروف الزمان والمكان وتدور الأحكام مع علتها وجودتها، وحيث ما كانت المصلحة تمت شرع الله، ومن يقرر المصلحة هم المنتخبون وليس العلماء، أي في النهاية اعتماد قراءة سياقية تاريخية للنص الديني، وهذه القرءاة بدأت منذ أمد طويل مع منهج المقاصدية.

الخصوصية

وقال الساسي إنه سيقال دائما أن هناك للخصوصية مكان وهذا صحيح، لكن مكان الخصوصية تحدده العالمية نفسها، لافتا أنه في المغرب كان هناك دائما هامش ديمقراطي وليس ديمقراطية كاملة، وكان يتم التأكيد على وجود ديمقراطيتين، إذ يسوق الهامش ويصور على أنه هو الديمقراطية.

وأضاف ” نعيش في بلد يتباهي بكثرة الصحف الورقية وتعددها، لكن المنحى لم يكن تراكميا، فهناك دورات تشدد ودورات انفتاح، واليوم نعيش في دورة تشدد طالت أكثر من اللازم، مع ضرورة الاعتراف بأن هناك تقدما بارزا حصل في المحاكم التجارية والإدارية، ولم يعد تفسير النصوص دائما لمصلحة الإدارة”.

وأفاد الساسي أنه في المجال الجنائي يمكن أن نقول إنه في كثير من الأحيان يعاني مبدأ الشرعية الجنائية من محنة كبيرة، ويمر من اختبار كبير، ومن نتائجه القراءة الضيقة للنص الجنائي، أي أنه عندما يكون القاضي أمام الحرية يجب أن يفسر النص المتعلق بالحرية في أوسع حدوده، ويجب أن يفسر النص الضيق للحرية في أضيق الحدود، هكذا يجب أن يتصرف القاضي حتى نقول إنه احترم الشرعية الجنائية.

معضلة الحريات

وسجل أنه في حالة جرائم الصحافة والنشر هناك نصوص يساء اليوم تطبيقها، ويؤدي ذلك إلى الحد من الحريات، والمثال الساطع على ذلك هو استعمال تهمة الاتجار بالبشر، حيث تفسر تفسيرا يحيد بها عن الغايات التي اتجهت إليها اتجاهات الإرادة العالمية التي نصحت القوانين المحلية باعتمادها، موضحا أن النص فيما يتعلق بجريمة الاتجار بالبشر يفرض أن يكون الضحية مجردا من أية حرية بالمطلق، وهذه المسألة ليست مجازية، ودائما الاتجار في البشر عندما صنع في مصنع عالمي وجرى تدويله، انطلق من فرضية وجود عصابة وأن الضحايا ليست لديهم أية إمكانية مادية لكي يتواصلوا مع السلطات العامة ويبلغوا وضعهم.

وخلص أنه إذا اعتبرنا أن الإصلاح الديني يجيب على مسألة تعارض المرجعيات، فإن فعلية الحقوق تعالج من خلال توازن السلطات والمقصود هنا ليس السلطات الثلاث المشهورة، بل سلطات المجتمع المدني وسلطات المؤسسات السياسية.

وعبر الساسي عن أمله في أن يرسل الملك رسالة لجميع القضاة يقول فيها إنه يضمن حمايتهم ضد أي تدخل في أحكامهم، وأنهم أحرار، مشيرا أننا قريبون من تخليد الذكرى 25 لتولي الملك محمد السادس للعرش، لذلك نتمنى أن تفك الكثير من المعضلات المتعلقة بالحريات العامة في بلدنا.