على مدى سنوات عديدة تميزت العلاقة بين النقابات والحكومة بالشد والجدب بين الطرفين وانتقلت في فترات إلى نوع من الهدوء الحذر. وعلى الرغم من الحرب المعلنة بين كلا الطرفين والتي حظيت بتغطية إعلامية كانت الحكومة تقود حملة واسعة النطاق للحد من سلطة المساومة الجماعية للمركزيات النقابية للحد من سطوتها واستعراض عضلاتها وفي نفس الوقت من تحجيم مساحة اشتغالها ونفوذها والحد من الشعبية الجماهيرية التي تتمتع بها النقابات ومن خلالها تقوية خطاب الحكومة. في ظل هذه العلاقة الشائكة والمعقدة نطرح سؤالا مركزيا ما هي كلفة التصعيد بين النقابات والحكومة في ظل حكومة سعد الدين العثماني؟

تصاعد الصراع بين الحكومة والنقابات

لا يزال النزاع بين حكومة العثماني والمنظمات النقابية يزداد سوءاً وتدهورا مع تبادل الإتهامات في ظل تنامي المأساة الناجمة عن تراكم المشاكل الإجتماعية والإقتصادية وتفاقمها للشغلية واندحار القدرة الشرائية للمواطنين. وقد اختارت الحكومة التفاوض مع النقابات والتدخل في الحياة النقابية بطرقها الخاصة لتسوية الخلافات العالقة وهي حالة وضعت الحكومة والعديد من النقابات في طريق التصادم بينهما.

واقترحت حكومة سعد الدين العثماني عدداً من الإجراءات أمام المركزيات النقابية في إطار الحوار الاجتماعي وتواصلت الإجتماعات من خلال لجنة تحسين الدخل والتي شُكلت في إطار الحوار الاجتماعي، الذي تضم الحكومة والنقابات والقطاع الخاص، وعرفت تقديم إجراءات مقترحة لفائدة موظفي الدولة، أبرزها زيادة عامة في الأجور الشهرية الصافية للمرتبين في السلالم أقل من 10. أما الكلفة المالية السنوية الإجمالية لهذه المقترحات التي طرحتها الحكومة فبلغت، حسب المصادر النقابية، قرابة 6.4 مليارات درهم سنوياً، في انتظار اجتماع اللجنتين الخاصتين بالقطاعين العام والخاص.

وفي نظر فؤاد بلقاسم، الباحث في القضايا الإجتماعية، يصف العلاقة القائمة بين النقابات والحكومة بالعلاقة الشائكة والمعقدة في حديثه لـ” لكم ” موضحا ” تتصف العلاقة بين المركزيات النقابية وهي 34 نقابة والحكومة بالشائكة والشديدة التعقيد وبتضارب المصالح وبالمفاوضات العسيرة والطويلة وبمفاوضات اللحظة الأخيرة تحت الطاولة.. فكثيرا ما تعمد الحكومة الى إدارة المصالح الخاصة لهؤلاء النقابيين الذين ينتهكون شرعية منظماتهم النقابية ويناشدون الديمقراطية للدفاع عن امتيازهم وسلوكاتهم المتسمة بأكثر من قناع واستغلال الحكومة والنقابات الاتهامات القوية والمتبادلة بينهما في الصحف والمواقع. ومع ذلك، فإن هذه الاتهامات هي قطعة الثلج التي تطفو و لا يمكن أن تستخدم كذرائع لتدخل الحكومة في الحياة النقابية وتوجهيها”.

يضيف المتحدث ” هذا الموقف من الحكومة يعوق العلاقات بين الدولة والنقابات التي تلجأ إلى التهديد بالإضرابات إذا لم تتراجع السلطات عن سياساتها ولا تسهم بأي في حالة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

وتظهر هذه العناصر أن الحكومة وجزء من الطبقة السياسية أكثر اهتمامًا بتقويض سلطة النقابات وتمييز مصالح الأعمال بدلاً من السعي لتحقيق رفاهية الطبقة العاملة، الأمر الذي يؤدي حتمًا إلى عدم الاستقرار السياسي والإجتماعي “.

حريق الإتهامات المتبادلة

ترى حليمة بلقايد، الباحثة في قضايا السياسية والمتغيرات المجتمعية في حديثها لـ ” لكم” أن الصراع القائم بين النقابات والحكومة هو حول من يدير دفة الصراع الإجتماعي ومن يكسب رهانه موضحة ” إذا لم يتم التوصل لأي اتفاق بين الطرفين ولكن ليس لأن النقابات لم تبذل جهدا، ولكن لأن الحكومة تتصرف بشكل متعال مع العاملين في القطاع النقابي، كما أن كلفة الأمن الوظيفي يتم السعي له بين النقابات والحكومة عن طريق التفاوض والجلوس على طاولة الحوار بسلام. كثيرا ما يقال إن العمل النقابي يعتمد على النضال لتحقيق المكاسب والإستعداد لمواجهة الصراعات الاجتماعية على اعتبار أن الصراع الاجتماعي هو المسألة الأساسية للنقابيين. إن فهم الصراع الاجتماعي و مكوناته الرئيسية وقوته واهتمامه وطرق حله بسلام من خلال التفاوض يعمل على تحسين أحوال العمال المعيشية أمام الغلاء ولهيب الأسعار. وفي بحث للمركزيات النقابية الدائم عن ظروف أفضل للعمل والعمال “.

وتضيف المتحدثة ” كلفة الحوار الاجتماعي للسنة الماضية باهظة على أكثر من مستوى، فحسب الحكومة قدرت المبلغ في 16 مليار درهم، وهو رقم مبالغ فيه، على اعتبار أن الكلفة التقريبية لم تتجاوز 9 ملايير درهم، وعلى اعتبار أن الحكومة تقول إن 10 مليار درهم تخص التخفيض من الضريبة على الدخل، و6 مليار درهم تخص الزيادة في الأجور، في حين أن حسابات النقابة أكدت أن نسبة الموظفين في الضريبة على الدخل هي 70 في المائة، وبالتالي فإن الكلفة هي 7 مليار درهم، والزيادات في الأجور ناهزت 2 مليار درهم. ينضاف لها تدني المستوى المعيشي للمواطن، مقابل فتات الإجراءات الحكومية، والإعفاءات الكبيرة التي تستفيد منه الباطرونا، وهذا يؤكد على التراجع الخطير على مستوى الحريات النقابية، عبر طرد الكثير من المنتمين للحقل النقابي واقتطاع أجور الموظفين وراء كل اضراب في قطاع التعليم والصحة والعدل ومؤسسات الدولة دون تساهل رغم التجاوزات القانونية”.

التهديدات الحكومية ولغة الاقتطاع

يرى يوضح محمد المستاوي، الباحث في القضايا السياسية والإجتماعية في حديثه لـ ” لكم” قائلا ” إن كلفة الصراع بين النقابات والحكومة باهظة التكاليف سواء على مستوى قيمة الوقت المهدر وتكلفة الإضرابات المالية والإقتصادية والمفاوضات المارطونية موضحا “أن المركزيات النقابية لها استقلاليتها الخاصة وهي غير تابعة ولا يمكن أن تتدخل الحكومة في شؤونها وفي برامجها النضالية، ودورها الرئيسي يكمن في الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة. هذه المحطات النضالية الأخيرة مع الأساتذة المتعاقدين أو مع ربابنة الطائرات أو المكفوفين أو مع جيوش المعطلين تأتي في إطار الاحتجاج على المقاربة الحكومية للمسألة الاجتماعية وفشل جولات الحوار الاجتماعي، وعدم الاستجابة للحد الأدنى من المطالب الأساسية للشغيلة المغربية، فضلا عن استمرار الزيادات في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية والخدماتية رغم الانخفاضات المهمة لأسعار المواد الأولية في السوق الدولية وتهديد الحكومة بالإقتطاع أيام الإضرابات وتعاملها ببرودة شديدة حيال الملفات الإجتماعية مثل الحراك في الحسيمة وجرادة… وبنوع من التغاضي والإنتقائية والبطء الشديد “.

يضيف المتحدث ” أن تشبث الحكومة بعدم مناقشة الزيادة في الأجور سوى لفئة من له دخل يقل عن 5500 درهم وهذا الوضع يفرز احتقانا اجتماعيا وإضرابات متتالية تشل حركة الإقتصاد الوطني مثل إضراب الشاحنات وبدورها الحكومة تهدد بالاقتطاعات المتكررة وبعدم التنازل. هذه الإستراتيجية الحكومية غير صائبة في مقاربتها للملف الاجتماعي ببعد أمني ولا تخلق السلم الاجتماعي وحالة الإستقرار وتنمية الإقتصاد الوطني الذي يعاني من الكثير المشاكل البنيوية العميقة “.

انفراد الحكومة بالملفات الحساسة

ترى حليمة بلقايد أن الحكومة دأبت على تمرير الملفات الحساسة والإستراتيجية في تحد كبير للحقل النقابي مؤخرا موضحة أن ” حكومة بنكيران وبعده سعد الدين العثماني قامتا بسابقة خطيرة في انفراد الجهاز التنفيذي بالملفات الإستراتيجية والحساسة مثل قرار الحكومة بتعديل قوانين التقاعد للرفع من السن إلى 63 عاما وتقليص المعاشات وقانون التعاقد… وهذا الإستفراد بهذه الطريقة له تداعيات كبيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وحقوقية وعلى التوجه النقابي داخل المغرب المتسم بالضعف في إطار تفكك النقابات وتناسلها لأكثر من 34 نقابة وضعف قاعدتها الجماهيرية ولجوء النقابات إلى لغة الشعارات بالتهديد بالإضراب العام.. وهذا خطاب متجاوز تفهمه الحكومة بشكل كبير”.

وأضافت الباحثة أن ” المركزيات النقابية لا تعارض الإصلاح من حيث المبدأ وتقر بالصعوبات المالية وبالأزمة الإقتصادية التي تمر بها الحكومة وبتراكم الديون وتخبطها مع صناديق التقاعد، لكنها تأخذ على رئيس الحكومة بعدم الأخذ برأيها ورأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي في التفاصيل، وسعيها لتحميل العمال والموظفين وحدهم كلفة إصلاح أنظمة التقاعد والصناديق الفارغة، لكن طريقة تفاوضها و قراراتها خاطئة في التواصل وسوء تدبير أوصلها إلى حافة الأزمة مع الجسم النقابي. بدورها تطالب النقابات بزيادة شاملة للأجور في القطاعين العام والخاص، لمواجهة ارتفاع تكلفة المعيشة التي رافقت رفع الدعم وتحرير الأسعار عن عدد من السلع والخدمات ومنها المحروقات وزيادة الضرائب على بعض المواد الأساس مثل الماء والكهرباء والنقل بالقطار والعقارات. كما تطالب بخفض 2 في المائة من الضريبة على الدخل لتحسين معاش المتقاعدين”.

وتختتم الباحثة ” أن الفعل النقابي المحلي يشوبه الكثير من التعقيدات وهو امتداد وانعكاس لسياقاته السياسية والإجتماعية والإقتصادية ويخضع لحجم الإكراهات على المستوى الوطني بحكم عمق الفعل النقابي الذي يرتكز عليها وبحكم التصور النقابي والمرجعيات الثقافية السائدة وطنيا لدى القيادات النقابية التي عمرت طويلا وترفض التغيير بل وفي ظل تناسل النقابات وضعفها على المستوى التعبئة الجماهيرية، بالإضافة إلى منزلقات ارتهان الفعل النقابي للسياسي . إذ الملموس من خلال الخطاب والممارسة النقابيين في المغرب يتضح بشكل جلي أن النقابي أصبح يؤدي وظيفة سياسية مناسباتية تتحدد بإيقاعات العمل السياسي الحزبي الذي يعرف الجميع حجم الأزمة التي يتخبط فيها خطابا وممارسة ومعها فشل المشاريع التنموية للحكومة”.

سؤال التكلفة

إن الزمن المهدر في النقاشات وفي المفاوضات وفي حجم الخسائر المالية جراء الإضرابات يطرح سؤال عن الكلفة الحقيقية للصراع بين المركزيات النقابية والحكومة وتنامي هذه الصراعات وتعقدها هو أن المواطن وحده من يؤدي الضريبة الباهظة والتكاليف المجحفة على حساب قوته اليومي ووضعيته الإجتماعية التي تتدهور يوما بعد يوم وبالتالي يطرح على ضوئها مراجعة الفعل النقابي في منطلقاته وفي مجمله على ضوء الوضعيات المجتمعية المتغيرة بشدة وبسرعة وعلى ضوء البرامج الحكومية التي أعلنت عن فشلها والتي تسعى أن يؤدي المواطن كل فواتيرها.