رحمان النوضة يكتب: لِمَاذَا اِنْهِيَّار إِسْرَائِيل حَتْمِيٌّ
هَل يُمكن حَـقًّا أن تَنْهَار إسرائيل ؟ هل اِنْهِيَّار إسرائيل هو مُجرّد رغبة ذاتية، أم أنه تُوجد عَوَامِل تُؤَدِّي مَوضوعيّا إلى هذه النـتيجة ؟
• لـماذا سَتَنْهَار إِسْراِئيل حَتْمِيًّـا
1) لِتَسْهِيل فَـهم اِحْتِمَال حُدُوث اِنهيّار إسرائيل في المُستـقبل، يُستحسن إعادة التـفـكير في نَمُوذَج اِنهيّار الاتحاد السّوفياتي سابـقًا. لأن الانهيّأر المُحتمل لإسرائيل سيكون، ليس بالضّرورة على شكل اِنْهِزَام عسكري، وإنما على شكل اِنْحِلَال مُجْتَمَـعِـي، مُشابه نِسبيًّا لِانْهِيَّار الاتحاد السُّوفياتي.
مَنْ مِنَّا، قبل سنة 1989، كان يَتَنَبَّأُ بانهيّار الاتحاد السُّوفياتي ؟ لا أحد في العالم كلّه. كنّا لا نُـفـكّـر في إِمْـكانيّة انهيّار الاتحاد السوفياتي، ولم نكن نـتصوّره، ولم نكن نـقدر على افتراض وُقوعه. وَلَوْ سُئِلْنَا، قبل سنة 1989، عن اِحْتِمَال وُقـوع هذا الانهيّار لَسَخَرْنَا مِن الشّخص الذي يَطرح هذا السُؤال. بل قد نـعتبر من طرح هذا السُّؤَال شبه أحمق. ثُمَّ إِنْهَارَ فِعْلًا الاتحاد السُّوفياتي بشكل مُفاجئ في قُرابة سنة 1990. وتحوّل ما كنّأ نظنّه مُستحيلًا، إلى واقع ثابت. نَـفس الشّيء، أو شَيْء مُشابه، سيحدث لإسرائيل.
واليوم، مُعظم العالم لا يتصوّر، ولو لحظة واحدة، أنّ إِنْهِيّار إسرائيل مُمكن. ولا أحد يقـول اليوم في العالم أن إسرائيل ستـنهار كُلِيًّا، وأنها سَتَزُولَ نهائيًّا. لكن غدًا، في مُستـقبل غير بعيد، سيصبح إنهيّار إسرائيل حدثًا مُسَلَّمًا به.
2) لَا يُمكن لأيّة قـوّة في العالم أن تَمْنَـع، بِلَا نِهاية، حُدُوث اِنْهِيَّار إسرائيل. ولماذا ؟ لِـعِدَّة اِعْتِبَارت. أَوَّلًا، لأن إسرائيل تُجَسِّد أكبر ظُلْم مُمَوَّه في تاريخنا الحديث (ضِدّ شعب فلسطين، وضدّ الشعوب المجاورة). وَثَانِيًّا، لأن إسرائيل تُناقض المَنطق البَشري. وَثَالِثًا، لأن إسرائيل اِسْتِـعْمَارِيَة، وعُنصريّة، وإِمْبِرْيَالِيَة، وعُدوانية، وَتَوَسُّـعِيَة. وهذه اِلْاِعْتِبارات هي كلّها أساسية، ولا يجوز الاستهانة بها. وذاك هو ما سَنُوَضِّحُه في هذا المقال.
3) حَسب قراءة مُوجَزَة لِتَطوّر الأحداث الأخيرة في العالم، فإن اِنهيّار إسرائيل، لَمْ يَـعُد فـقط تطوّرًا مُمكنا، بل أصبح أمرًا حتميًّا، في مُستـقبل غير بعيد. وَكَمْ سَيتطلّب ذلك من الوقت ؟ قد يحتاج إلى عام، أو خمسة أعوام، أو عشرة. لا أَدْرِي. لكن، دَعْم الدُّول الغربية لإسرائيل، لَنْ يستطيع إنـقاذها من مَصير الانهيّار؛ مثلما أن دَعْم الدّول الغربية لِجَنُوب إفريقـيا العُنصرية لم يستطع إنـقاذها من الانهيّار؛ ومثلما أن دَعم الدّول الغربية لِحَركات النَّازِيِّين في أُوكْرَانْيَا لم يـقدر على إنـقاذها من الانهيّار؛ ومثلما أنّ تَآمُر الولايات المُتّحدة الأمريكية والدّول الغربية، بِهَدف إسقاط الحُـكُومات التَـقَدُّمية أو اليسارية، في بلدان أمريكا الجنوبية، أو بِهَدف تَـعويضها بِحُـكُومات دُمْيَات، لم يَنْجَح طَوِيلًا. إلى آخره.
4) تُوجد عوامل أُخرى كثيرة تُساهم في إِنْضَاج حُدُوث اِنْهِيّار إسرائيل. ومنها خُصوصًا تَصاعد المُـقاومات الـفلسطينية، على مُختلـف المُستويات والجَبهات والمَحاور. ومنها أيضًا التَرَابُط الـقائم فيما بين التـناقُضات البَيْنِيَة التي تُحرّك مُجمل بلدان المنطقة (مثلا بين السعودية والإمارات وإيران). ومنها أيضًا تطوّر مَوَازِين الـقِوَى فيما بين دوّل الشّرق الأوسط التَـقَـدُّمِيَة وَدُوَلِه المُحافظة، أو الرِّجْـعـية، أو المُـفْـرِطَة في التَبَـعيَّة لِلْإِمْبِرْيَالِيَّات الغربية. وَتُساهم هذه العناصر كلّها في صيرورة إِنْضَاج شُروط اِنهيّار إسرائيل.
5) في الماضي، كانـت الحُروب بين إسرائيل والدّول العربية المجاورة تـدوم خلال بضعة أيّام. لأن «التَـفَـوُّق العسكري الاستـراتيجي المُطلق» الذي وَفَّرته، وضمنـته، الإمبرياليات الغربية لإسرائيل، كان يَسمح لها بحسم هذه المعارك العسكرية بِسُرعة لصالحها. لكن المُقاومات المحلّية المناهضة لإسرائيل تـعدّدت، وتنوّعت، وتـنامت، وتطوّرت، إلى درجة أن إسرائيل (والإمبرياليات الغربية) أصبحت اليوم عاجزة على حسم هذه الحروب في وقت وجيز. بل تَحوّل طُول الحرب إلى نُـقطة ضُعف قاتلة لدى إسرائيل. وَكُلَّمَا فَتحت إسرائيل اليومَ حربًا في جبهة مُعَيَّنَة (مثل غَزَّة في سنة 2023)، تَشْتَـعِـلُ فَوْرًا الحرب ضدّ إسرائيل على جبهات أُخريات (مثل جنوب لُبـنان، والضِـفَّة الغربية، والعراق، وسوريا، واليمن). وتحوّلت خُرافة «الجيش الإسرائيلي الذي لا يُـقـهر» إلى جيش مُهَدَّد بِالانهيّار، إذا لم تتـدخّل بِسُرعة جُيوش الدّول الغربية الإِمْبِرْيَالِية لِدَعْمِه بشكل مُباشر.
6) إذا كانـت المُقاومات الـفلسطينية، واللبـنانية، والسورية، والعراقية، واليمنية، وغيرها، قادرة (أو مُجبرة) على تحمّل ضَرَبَات إسرائيل المُدَمِّرَة، وَالمُتَـكَرِّرَة، والفَظيـعة، فإن نقطة ضعف إسرائيل هي أنها لا تـقدر على تحمل ضَربات مُوجعة، أو مُتَوَاصِلَة، خلال أَمَد طَويل. وإذا ما تـكاثرت وتواصلت الضربات المُوجعة المُوَجَّهَة إلى إسرائيل، فإن الكيّان الإسرائيلي يَتَآكَل من داخله، وَيَنْحَل، ثمّ يتهاوى، وقد ينهار كُلّيًا إذا طالت الحرب. وتجربة الحرب الحديثة بين “حِلْـف شَمال الأطلسي” (NATO) ورُوسيا في أُُوكْرَانْيَا (Ukraine)، تُبَيِّن بِوُضُوح أن دَعم الدّول الغربية لِأُوكْرَانْيَا (وكذلك دَعم الدّول الغربية لإسرائيل) يَتْـعَبُ بِسُرْعَة نِسبية، وَيَتَضَاءَل، وَيَنْضُبُ، ثمّ يتوقّف، مهما كانـت النـتائج كارثيّة بسبب تَوقّـف هذا الدّعم.
7) مثلا في حرب سنة 2023 الحالية في غَزَّة، وبعدما دخلت هذه الحرب في شَهرها الثّالث (أثناء كتابة هذا المقال)، ظَهَرَت تطوّرات مُتـعدّدة، وَغَيْر مُتَوَقَّـعَـة، بَل مُدَمِّرَة، داخل إسرائيل. منها مثلًا : الهِجْرَة المُضادّة (إلى خارج إسرائيل)، حيث تجاوزت أعداد هؤلاء المُهاجرين الإسرائيليّين (خلال بضعة أيّام) نِصْف مليون شخص إسرائيلي؛ وَمنها تَوَسُّـع عُجُوزَات (déficits) مِيزانيات مُختلـف مُؤسّـسات دولة إسرائيل؛ ومنها تَهَاوِي العُملة الإسرائيلية الشِيكَل؛ ومنها تَصَاعُد التَضَخُّم؛ ومنها أنّ عددًا مُتـزايدًا من الأنشطة الاقتصادية الإسرائيلية تَتَـعَرْقَل، أو تُصبح شِبه مَشْلُولة (مثلًا الـفلاحة، والصناعة، والخدمات، والتِكْنُولُوجِيَات، والتصدير، الخ)؛ ومنها بُرُوز وَتَـفَـاقُـم تَـنَـاقُضَات حَادَّة فيما بين مُختلـف الـفِئَات المُجتمـعية المُـكَوِّنَة لِلمُجتمع الإسرائيلي؛ ومنها فِرَار عدد مِن المُستوطنين (أكثر من 850 ألـف شخص) الذين تَـقـع مُستوطناتهم بالـقرب من مناطق الاشتباكات الحربية السّاخنة؛ ومنها اِنـتشار مُظاهرات مُساندة لِلشّـعب الفَلسطيني في العَدِيد من دُوّل العالم؛ ومنها تَـهَـاوِي أو زَوَال مَشْرُوعيّة وُجود إسرائيل لَدى سُـكَّان مناطق واسعة من العالم؛ ومنها أنّ الثِـقَـة القَدِيمة في الـقِيَم المُؤَسِّـسَة لإسرائيل تُصبح عُرْضَة لِلشَـكِّ، أو للمُراجعة، أو لِلنَّـقْد، أو لِلرَّفْض؛ ومنها تَضَاءُل استـعداد العساكر الإسرائيليّين للتضحية بحياتهم دفاعًا عن المشروع الصهيوني؛ ومنها تَصَاعُد غَضَب عائلات الجُنُود الإسرائيليّين المقتولين، وعائلات الجرحى، والمعطوبين، والأسرى، والمُختـفين؛ ومنها ظُهُور وانـتشار أَزَمَات نَـفْـسِيَّة شَدِيدَة لدى جُزء هامّ من الإسرائيليِّين: ومنها ظاهرة الاِسْتِهْلَاك المُـفْـرط لِلْمُخَدِّرَات؛ إلى آخره. وهذه التطوّرات تُؤَثِّر على بعضها بعضًا، وَيُمـكنها أن تَتَـفَاقَم بسرعة غير مُتوقّـعة.
8) رَغم أن الطائرات الإسرائيلية تُهَيْمِنُ وحدها في سَماء الحرب على غَزَّة، وتـطلق بسهولة مُتَـفَـجِّرات ثَـقِيلة وَمُدمّرة (نحو أَلْفَ طُنٍّ من المُتَـفَجِّرَات في اليوم) على المنازل، والمساكن، والعمارات، وعلى البُنَـى التَحْتِيَة؛ وَرَغم أن إسرائيل تُدمّر المساجد، والكنائس، والمدارس، والمُسْتَشْـفَِيَات، وَمُوَلِّدَات الكَهْرَبَاء، والأوراش، وكلّ شيء؛ وَرَغم أن الـفلسطينيّين يتـعرّضون لحرب تَهْجِيرِ وَإِبَادَة، في غَزّة، وفي الضِـفّـة الغربية؛ وَرَغم أن عدد الـقتلى الـفلسطينيّين تجاوز 24 ألـف قتيل، و 65 ألـف جريح، بعد مُرور قرابة 100 يومًا على بداية الهُجوم الإسرائيلي المُضاد؛ وَرَغم أن إسرائيل اِعتـقلت بِسُرعة (وبدون مُبرّر) في الضِـفَّة الغربية المُحتلّة أكثر من 5 ألـف أَسِير فلسطيني جديد؛ وَرَغْم أن إسرائيل قَتَلَت بالرّصاص أكثر من 350 فلسطيني مَدَنِي في الضِـفَّـة خلال هذه الـفَتْرَة الوَجِيزَة (100 يومًا)؛ وَرَغم أن إسرائيل لا تَـعْتَرِف سوى بِـ 155 قتيل وقرابة 5000 جريح من بين عساكرها (بينما المقاومة الـفلسطينية تُـقدّر عدد الـقتلى الإسرائيليين بما يـقرب من 2000 قتيل)؛ فإن أعدادًا مُتـزايدة من المُراقبين (من داخل إسرائيل، ومن خارجها) يُحِسُّون أن إسرائيل تظهر قريبة من الانهيّار الشّامل، بينما يَزْداد الـفلسطينيّون إصرارًا على المقاومة، وعلى التضحية، من أجل تَحرّرهم الوطني.
9) لَوْ لَمْ تَـكن إسرائيل قد شَـعُـرت (بعد هُجوم يوم 7 أكتوبر 2023) بِأَنّها بَدأت تَنْهار، لَمَا طَلبت نَجْدَةً مُستـعـجلة من حُلـفائها الدّول الغربية الإِمْبِرْيَالِية؛ وَلَمَا هَرَعَت بِسُرعة أقوى السُّـفُـن الحربية المتـنوّعة، الأمريكية، والإنجليزية، والـفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وغيرها، إلى شرق البَحر الأبيض المتوسّط؛ وَلَمَا نظّمت بِسُرعة الدّول الغربية قَنَاطِرَ جَوِّيَة ضَخمة وعاجلة لنـقل المُـقاتلين، والخُبراء، والكَوَادِر، وَمُختلـف مُستلزمات الحرب، من الدّول الغربية إلى إسرائيل.
10) عندما يُـفـكّـر بعض الأشخاص في احتمال حُدوث اِنهيّار إسرائيل، فإنهم لا يـقدرون على تصوّر هذا الانهيّار سِوَى على شكل هَزِيمة عسكرية، في معركة حربية كبرى. وهذا التصوّر تـنـقصه الرُّؤْيَة الجدلية. لأن اِنهيّار إسرائيل لَا يَنْتُج فـقط عن معارك حَربية، وإنما ينـتج أيضا عن أشياء أخرى غير مَرْئِيَة، أو غير مُـعـتادة، أو غير مُتَوَقَّـعَـة. ولأن إنهيّار إسرائيل ليس مشروطا بِـتَـفَـوُّق عسكري لدى المُقاومات الـفلسطينية. كما أنه ليس مشروطًا بِـقُـدْرَة هذه المقاومات الـفلسطينية على هَزْم إسرائيل عَسـكريًّا، في ميدان معركة حَربيّة كلاسيكية ضخمة. ولماذا ؟
أوّلًا، لأنّ حرب الـفلسطينيّين أو العرب ضدّ إسرائيل هي دائمًا حرب ضدّ تَحَالف الدّول الغربية الْإِمْبِرْيَالِيّة. ولأنّ كـفاح المقاومات الـفلسطينية، هو في عُمـقـه، كـفـاح ضدّ مُجمل مُـعَـسْـكر الدّول الغربية الإمبريالية.
وثانيًّا، لأن إسرائيل هي عَمَلِيًّا مُستـعمرة مُشتـركة لِمُجمل الدّول الغربية الإمبريالية.
وثالثًا، لأن اِستمرارية وُجود إسرائيل لا يَشتـرط فـقط تَـفَـوُّقَها عسكريًّا، وإنما يشتـرط أيضًا عناصر مُجتمعية أخرى كثيرة (يضيـق هنا المجال لتوضيح هذه العناصر المُجتمعية بالكامل).
وَرَابِـعًا، لأنه يُستحسن أن نَتصوّر اِنهيّار إسرائيل على شكل صَيْرُورَة مُجتمعية (سيّاسية، واقتصادية، وفـكـرية، وعسكرية، وثـقافية، وعالمية). وَيُستحسن أن نَتَخَيَّل اِنهيّار إسرائيل على شكل صَيْرُورَة مُشَابِهَة نسبيّا لذلك الانهيّار الذي حدث في الاتحاد السوفياتي. حيث أن إِنْهِيَّار الاتحاد السُّوفياتي، لم يَنْتُج عن مَـعركة عسكرية كُبرى مع الولايات المُتّحدة الأمريكية. وإنّما اِنْهَار الاتحاد السُّوفياتي بِهُدُوء، خلال عُـقُود، نَتِيجةً لِاخْتِمَار تَنَاقُضَات دَاخِليّة. أيْ أنّ اِنْهِيَّار إسرائيل سيكون هو أيضًا على شكل اِنْحِلَال مُجتمعي عَمِيـق، وَمُتواصل، على اِمْتِدَاد أَجَل مُتوسّط المَدَى. وبعبارة أخرى، فإن هذا الانهيّار، سيحدث داخل الكِيَّان الإسرائيلي على شكل صَيْرُورَة اِنْحِلَال داخلي، وَعلى شكل تَآكُل عَميـق، وَتَـفَـسّـخ مُتَسَارِع، في جميع الميادين، وعلى جميع الأصعدة المُجتمعية. وَمَـآل هذه الصّيرورة، حينما سَتُصبح ناضجة، هو أن كلّ شيء داخل إسرائيل سَيَتَوَقَّـف عن العمل، أو أنّ اِشْتِـغَـاله سَيَـغْدُو مُتَـعَـذِّرًا، بالمُقارنة مع ما كان عليه في الماضي. بل اِشْتِـغَال بعض المَرافِـق المُجتمعية داخل إسرائيل سَيُصْبِـح من شِبه المُستحيل.
وفي النهاية، أي أثناء نُضْجِ عَمليّة الانهيّار، سَيَحدث تَسارع في هذه الظّواهر المُجتمعية. وَسَيَهْرُب من الكيّان الإسرائيلي الأشخاص الذين يُـكَـوِّنُونَه، وذلك مثلما تهرب الـفِئْرَان من سـفـينة في حالة الغَرَق. وهكذا سَنَرَى أفواجًا من جماعات مُتوالية، وهي تهرب من إسرائيل، مثل جماعات الجُنود، والضُبّاط، والاستخباراتِيِّين، والسيّاسيّين، والكَوَادِر، والتِـقْـنِـيِّين، والمُسْتَثْمِرِين، والعاملين في المؤسّـسات البنكية، والباحثين، والمُستوطنين، والمُنـتجين، والإداريّين، والبوليس، والسَجَّانِين، والمُعَذِّبِين، والمُرْتَزِقَة، والانتهازيّين، وغيرهم.
وكلّ إسرائيلي هَارِب سَتـكون له مُبرّراته الخاصّة به. وَسَتُصبح جوازات السّـفـر الأجنـبية (أي غير الإسرائيلية)، هي وَرَقَة النَجَاة من جَهَنَّم الصهيونية. وَسَيَتَسَابَـقُ قُدماء الإسرائيليّين على اكتساب حقـوق المُواطنة في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأوستـراليا، وَنْيُو زِيلَنْدَا، وفي بعض بلدان أوروبّا الغربية، أو حتّى في روسيا، الخ. وسيغدو كثيرون من قُدماء الإسرائيليّين سَعِيدين بالعَودة إلى ما بَـقِـيَ من عائلاتهم، وإلى مُمتلكاتهم العقارية الـعَـتيـقـة، في بُلدان المَلجأ، وسيرجعون إلى حساباتهم البـنكية الـقديمة، وإلى أنشطتهم الاقتصادية الماضية، في البلدان الغربية (أو في روسيا).
ولن يبـقى في فلسطين سوى تلك الأقلية (من قُدماء الإسرائيليّين) التي اِكْتَشَـفَت زَيْـفَ الأَيْدِيُّولُوجِيَّة الصَّهْيُونية، وَقَبِلَت طَوْعِيًّا التَخَلُّص منها، وَقَبِلَت التَـعَايُشَ مع «أعدائهم» القُدامى الذين هم الفلسطينيّون. ولن تَبْـقَـى في فلسطين سوى تلك الأقلّية (من الإسرائيليّين) التي رَضِيَت بأن تكون حُقوق المُواطنة في فلسطين الجديدة المُحَرَّرَة (من البحر إلى النهر) مُتَساويّة بين كل المُواطنين، بغضّ النظر عن دِينهم، أو تَـعَـبّـدِهم، أو عِرْقِهِم، أو إِثْنِيَتِهِم، أو طائـفـتهم، أو لُـغَتهم، أو لَوْن بَشَرَتهم، أو مُعتـقداتهم.
11) ما دَام اليَهود المُتَصَهْيِنُون يَستـعملون مَناهج التَحايُل، والتَضْلِيل، والكَذب، والخِداع، تُجاه شعب فلسطين الضحية، وَتُجاه المُجتمع الدُولي العام، فإنهم سَيستـعملون بِالضّرورة نـفس المَناهج فيما بينهم. ونـتيجةً لِـذالك، سَتـكبر، وَسَتَتَـفَاقم، التَناقُضات الحادّة فيما بينهم. بَل إن تلك الصِّـفات الخُلُـقِـيَة السَّلْبِيَة المَنْبُوذَة، التي كانـت في الماضي تُـغَدِّي كَرَاهِيَة اليهود، أو التي كانـت تُبَرِّر اِضطهادهم، سَتصبح من جديد مَلحوظة، أو مُؤكَّدة، في سُلوكيّات كل فرد أو جماعة مُـكَـوِّنَـة لهذا الكيّان الإسرائيلي الصّهيوني. خاصّة وأنّ أفراد الجماعات اليَهودية يَمِيلون إلى التَصَرُّف بِـعَـقـلية الـقَـبِيلة، وَبِـعَـقْـلِيَة الْأَقَلِّيَة المُضطهدة أو المَنبوذة. وَيَتَصَرَّفُون كَحِزب سيّاسي سِرِّي. وَسَيزداد نُـفـور بعض الناس من اليهود المُتصهينين، بسبب إِفْرَاطِهِم في استـعمال مَناهج التَحايُل، أو التَضْلِيل، أو الكَذب، أو الخِداع. وَسَتـنـغـلق الدّائرة على نـفسها في مجال السُلوكيّات المَنبوذة. وكما قال المثل الشّـعـبي: «مِثْلَمَا تَـقْتُل، مِثْلَمَا تْـمُوت» (بِمَـعنى: «الوَسائل التي تستـعملها لِـقَـتل خُصومك، هي نـفس الوسائل التي سَتُـقْـتَـل بها أنـتَ بِنَـفْـسك»).
12) سنلاحظ أن اِنْهِيَّار إسرائيل من جهة أُولى، ومن جهة ثانية اِنْهيّار هيمنة الولايات المُتّحدة الأمريكية على العالم، هما شيئان مُترابطان. لأن التَسَارُع في نُضُوج كلّ واحد منهما يُسهّل نُضُوج الآخر. وقد يَكون اِنهزام أمريكا، والدّول الغربية الإمبريالية، في صراع فلسطين، مُدَوِّيًا، وَمُؤَثِّرًا، أكثر من انهزامهم في الحرب الجارية في أُوكْرَانْيَا (Ukraine)، بين “حِلْف شَمال الأطلسي” (NATO) وَرُوسْيَا. وفي الماضي، أَيْ في قُرابة سنوات 1950، لم يُؤَثِّر كثيرا أُفُول الْإِمْبْرَاطُورِيَة الْإِنْجْلِيزِية على حَليفها إسرائيل، لأن هُبوط هذه الإمبراطورية الْإِنْجْلِيزِية الحليـفة، كان يُوازِيه تَنَامِي الحَلِيـف الجديد الذي هو الإمبراطورية الأمريكية الصَّاعِدَة. أمّا اليوم (في سنة 2023)، فإن اِضْمِحْلَال هَيْمَنَة الولايات المُتّحدة الأَمْرِيكِيَة على العالم، لا يُمكن أن يُـعَوِّضَه سوى تَـعَاظُم قِيّادة نَـقِـضِهَا، أَيْ رُوسْيَا، والصِّين، ومجموعة «البْرِيكْسْ» (BRICS). الشيء الذي يَـفتح آفاقًا لِتَطوّرات غير مُتَوَقَّـعَـة.
13) كلّما اِنْهَزَمَت إسرائيل، في أيّة معركة مُـعَـيَّـنَـة، فإن هزيمتها هته ستـكون، في نـفس الوقت، هزيمة للولايات المُتّحدة الأمريكية (ولحلـف شمال الأطلسي NATO). كما أن أيّة هزيمة للولايات المُتّحدة الأَمْرِيكِيَة (أو لِحِلْـف النَاطُو) ستـكون، في نـفس الوقت، هزيمة لإسرائيل. كما أنّ اِنْهِيَّار إسرائيل، حينما سيحدث في المُستـقبل، سيكون كارثة كبيرة على الولايات المُتّحدة الأمريكية (وعلى حِلْف النَّاطُو). لكن حينما ستـنهار إسرائيل في المُستـقبل، ستكون الولايات المُتّحدة الأمريكية قد تَـقَـهْـقَـرَت نِسْبِيًّا في مجال هَيمنـتها على العالم.
14) مِن بين مَظاهر الجَدَلية الأخرى في الصّراع بين فلسطين وإسرائيل، يُوجد ما يَلِـي : لكي تُنْـقِد إسرائيل نـفسها من التآكل، ومن الضّرر، ومن الانهيّار، ليس لها من خيّار سوى سحق المقاومات الفلسطينية. لكن المقاومات الـفلسطينية مُنـغرسة داخل الشعب الـفلسطيني، ولا يُمكن فصلها عنه. وذلك إلى درجة أنه لا يُمكن سحق المقاومات الـفلسطينية دُون سحق الشّعب الـفلسطيني، أو تهجيره، أو إبادته. وكلّما حاولت إسرائيل سحق الشعب الـفلسطيني، كلّما تَنامى إصرار الـفلسطينيّين على المُقاومة. وكلّما أجهزت إسرائيل على الفلسطينيّين، تصاعدت مَوْجات عارمة من الاستـنكار والسُّخط عبر العالم، تُندّد بِإِجْرَام إسرائيل، وبالصّهيونية، وبجرائمها ضدّ الإنسانية. وتطالب هذه المُظاهرات الحاشدة عبر العالم بِمُـقَاطَـعَـة إسرائيل، أو بِطَردها من المُنـتظمات العالمية.
وهكذا، تَتَـكَاثَرُ مُبَرِّرَات تَجْرِيم إسرائيل، وَتَتَـعَاظم عَوَامِل اِنْهِيّار ها. وَسَتُدَعِّم قِوَى مُتـزايدة عبر العالم المُقاومات الـفلسطينية. وَسَتَـكْبُر قِـوَى هذه المُقاومات الـفلسطينية، وستتـزايد فعاليّات كـفاحها. فتحصل إسرائيل على عكس ما تطمح إليه. وفي هذه الجَدَلِيَّة، كل ما تَـفـعله إسرائيل، يُسَرِّع اِنْهِيَّارَهَا. وحتّى إذا لم تـفـعـل إسرائيل شيئًا، فإن عدم فـعـلها يُسَرِّع هو أيضًا اِنْهِيّارَهَا. وَلِكُلّ هذه الأسباب، سيكون المصير الحتمي لإسرائيل، ومهما طال الزمان، هو الإنهيّار والزوال.
15) لِإِدْرَاك كَيْف ظلّت تَـعمل دِعَايَة وَسائل إعلام الدّول الغربية، تخيّل الآن أنك مُواطن في بلد مُـعَـيَّـن (في “العالم الثالث”). وتخيّل أن بلادك تَـعَرَّضَت لِلـغزو أو للاستـعمار من طرف قِوَى أجنـبية تَتَوَفَّر على أسلحة عسكرية فَتَّاكَة. وتخيّل أنك اِخْتَرْتَ أن تُشارك في مُـقاومة الهَيْمَنَة الخارجيّة، أو الاستـعمار الأجنبي. وتخيّل أنك قُمْتَ بأفعال مُـقَاوِمَة لِلْاِسْتِـعْمار. وتخيّل أنك اِستـعملتَ الحِجَارة، أو العُنْـف، أو السِّلاح، أو المُتـفـجِّرَات، أو ما شابه ذلك. في هذه الحالة، ماذا ستـقـول عنك وسائل إعلام الدّولة المُسْتَـعْمِرَة، وَوَسائل إعلام عامّة الدّول الغربية الإمبريالية ؟ سيـقـولون عنك أنك «إِرْهَابِيًّا»، وأنك «فَاشِيًّا»، وأنّك «هَمَجِيًّا». وَسَيُبِيحُون اِغْتِيَّالَك، وسيـقـتـلونك، أنـتَ، وَأَهَالِيك، وشعبك. هذا ما فـعـلوه، وهذا ما سَيَـفْـعَـلونه دائمًا، تُجاه المُـقَاوِمِين في فلسطين المُحتلّة، وفي العراق، وفي سُورية، وفي لُبـنان، وفي ليبيا، وفي كلّ مكان آخر. وَيَلْجَأُ دائمًا الْإِمْبِرْيَالِيُّون إلى اِضْطهاد شُـعوب “العالم الثّالث”. وَيَلْجَأُ دائمًا المُسْتَـعْمِرُون إلى الحُـكْم على المُسْتَـعْمَر بِالتَهْجِير، أو التَطْهِير العِرْقِي، أو القَتْل، أو الْإِبَادَة. هذا ما جرى في كلّ المناطق المُسْتَـعْمَرَة، بما فيها فلسطين المُحتلّة. وَمُجمل المَـفَاهِيم التي تستـعملها الـقِـوَى الإمبريالية في لُـغَتِها، تَصِـف ضَحاياها بِكَونهم هم المُجرمون. وَتُحَوِّل المَظلوم إلى ظَالِم.
16) قَد يَـقـول البعض أنّ أُطروحة «حَتْمِيَّة اِنْهِيّار إسرائيل» هي أُطروحة مُنْحَازَة، أو مُبَالَغ فيها، وأنّ الإسرائيليّين لَنْ يتخلّوا أبدًا عن مشروع اِحتلال واستيطان فلسطين. لكن إذا نظرنا إلى ما يـفـعـله الإسرائيليّون في الواقع، سنجد أن هؤلاء الإسرائيليّين لَا يَـثِـقُـون هُم أَنْـفُـسُهُم في مُستـقـبـل إسرائيل. ولماذا ؟ لأنه بدلًا من أن تَـكون للإسرائيليّين جِنْسِيَة واحدة، هي جِنسية إسرائيل، نجد أنّ أكثر من 90 في المئة من الإسرائيليّين يُصِرُّون، وَبِـكُلّ الوسائل، على الحُصول على جِنْسِيَّات مُتَـعَـدِّدة، وعلى جوازات سَـفَـر مُتعدّدة. لأنّ كلّ إسرائيلي، وَبِمَهَارَته المَـعْـهُودة، يُـفَـكِّـر سِرًّا داخل نـفسه قَائِلًا : «مِن باب الْاِحْتِيَّاط، وفي حالة غَرَق السَّـفِينَة الإسرائيلية، مِن الأفضل أن تَـكون لدي عَجَلَة اِحْتِيَاطِيَة، لِكَيْ أَنْجُوَ بِنَـفْـسِـي». وهذه حُجَّة قاطعة على أن مُعظم الإسرائيليّين، وفي أَعْمَاق لَا وَعْيِهِم (inconscients)، لَا يَـثِـقُـون هُم أنـفـسهم في مُستـقـبل إسرائيل. ويشعرون أن المشروع الإسرائيلي غير قابل للحياة. وهم دائمًا على اِسْتِـعِْداد لِكَي يَُصبحوا مُواطنين في دُوّل أخرى غير إسرائيل، خاصّةً إذا كانـت هذه الدول قـويّة وغنيّة. إنهم يُـفـضِّلون التـرحال من بلد إلى آخر، بحثًا عن فرص الاغتـناء السّهل والسّريع.
17) اعتبارًا لِمُجمل تلك الـعَوَامِل التي سبق ذكرها، أُأَكِّـدُ أنّ العناصر التي ستؤدّي إلى انهيّار إسرائيل هي نوعان. نوع أوّل هو ذو طبيعة عسكرية، ويجري في ميادين المعارك الحربية المُباشرة، والمَرئية. ونوع ثان هو ذو طبيعة مُجتمعية عميـقة، ويجري على مُستويات غير مرئية، أو غير مَحسوسة، أو غير مُعتادة، أو غير مُتَوَقَّـعَـة. وتلك هي أهمّ أسباب الْاِنْهِيَّار الحَتْمِي لِإِسْرائيل.
• بُطْلَان مُبَرِّرَات إِنْشَاء إِسْرَائِيل
مُجمل المُبَرِّرات التي عَـلَّـلَ بها الصَّهَايِنَة إنشاء إسرائيل، هي مَـغلوطة، وَمُضَلِّلَة. وَلِـفَـهم ذلك، يكـفي أن نَـفْـحَصَ، وَلَوْ بِشَـكل مُوجَز، وَمِن مِنْظَار تاريخي، مع الحرص على احترام دقة العقلانية، كيـف بَـرَّرَت الحَرَكَة الصّهيونية (وكذلك الدّول الغربية) إِنْشَاء إسرائيل.
قَدِمًا في دُوّل أوروبّا، كان بعض المُواطنين الذين يَـعْتَنِـقُون لِلدِيَانَة اليَهُودية. ومنذ الـقُرُون الوُسطى وَحُرُوبها الدِّينية (بين الكَنِيسَة والدّولة)، كان هؤلاء المُواطنون اليهود يَتَـعَرَّضُون إلى درجة أو أُخْرَى من الاضطهاد، المُوجّه ضِدّهم بِصِـفَتِهم يَـهُود.
ولمّا وصلت الحركة النَازِيَة إلى السُّلطة السياسية في ألمانيا في سنة 1933، دَفَـعَهَا حماسها المُفرط في كلّ شيء إلى تحويل ذلك الاضطهاد الـقديم، المُعادي لليهود، إلى عَمَلِيَّة مُمَنْهَجَة لِلتَخَلّص من اليهود. ودخلت السُّلطة السيّاسية النَازِيَة في أَلْمَانْيَا في مُحاولة إبادة اليَهود. فَنَظَّم النازيّون الألمان مَحْرَقَة لِليَهود، (ولكن ليس مَحْرَقَة لليهود وَحْدَهُم، مثلما يَدَّعِي الصَهَايِنَة، بل مَحْرَقَة لكلّ أنواع الأشخاص الذين كان النَازِيُّون الْأَلْمَان يَـكْرَهُونَهُم، بما فيهم الشِيُّوعِيِّين، والاشتراكيّين، والغَجَرِيِّين، والمِثْلِيِّين، الخ).
وكان الأوروبيّون يُسَمُّون اِضطهاد اليَهود بِـعبارة «مُعاداة السَّامِيَة» (anti-sémitisme). وَسَمَّوْا مُحاولة إبادة جزء من اليهود من طَرَف النَازِيِّين الألمان بِـعبارة «المِحْرَقَة»، أو «الهُولُوكُوسْت» holocauste)، أو «الشُّووَا» (Shoah).
وبعدما اِنهزم النازيّون في «الحرب العالمية الثانية» في سنة 1945، قَامت حركة يَهودية صهيونية، وزَعَمَت أن «الحَلّ لِتَلَافِي اِضطهاد اليهود في المُستـقـبل، هو خَلـق وَطَن خاص باليهود في مُسْتَـعْـمَـرَة إنجليزية مُـعَـيَّـنَة» (فلسطين) من بين المُستَـعمرات التي كانت موجودة آنذاك في العالم. وساندت فورًا الْإِمْبِرْيَالِيّة المُهَيْمِنَة آنذاك على العَالَم (وهي الْإمْبْرَاطُورِيَة الْإِنْجْلِيزِية المُسْتَـعْمِرَة) هذا الحَلّ الصّهيوني.
لكن، لِنَتَسَاءَل الآن : مِن وُجْهَة نظر المَنطق العَـقْـلَانِـي، هل حقـيقةً «الحَلّ لِوَقْـف اضطهاد المُواطنين اليَهود في دُوّل أوروبّا هو خَلـق وَطَن خاص باليهود وحدهم في مُسْتَـعْـمرة مُـعَـيَّـنَة» ؟ لَا، هذا التَـفكير (المُبَرِّر لِخَلـق إسرائيل) كان خَاطِئًا في أَصْلِه، وَمُـعْـتَـلًّا في أُسُـسِه، وَمُذْنِبًا في مَضْمُونِه، وَفَاسِدًا في مَنْطِـقِـه. إنه تَـفْـكِير مَـغْـلُوط، بَل هو مُضَلِّل. ولماذا ؟ لأنّ العَـقْـل (والعَدْل) كان يستوجب أن يكون الحلّ (لِمُشكل اِضطهاد اليهود)، هو نِـضال هؤلاء اليهود، ونضال كلّ المُواطنين الآخرين غير اليهود، بهدف وَضْع وَتَنْـفِيذ قَـوانين تَضمن «الدِّيموقراطية»، وَتُحَـقِّـق «حُـقُوق الإنسان»، لِـفَائِدة كلّ المُواطنين، بِـغَـضِّ النَظَر عن دِِيَّاناتِهِم، أو إِثْنِيَّاتِهِم، أو طَائِـفَاتِهِم، أو مُـعْتَـقَـدَاتِهِم، أو لُـغَاتِهم، أو أَلْوَان بَشَرَاتِهِم، الخ. لأن وُجود مَظاهِر «اِضْطِهَاد اليَهُود»، أو «مُعاداة السَّامِيَة»، في بلدان أوروبّا، كان حَلُّـهُ المَنطقي، هو إقامة واحتـرام قـوانين تضمن «حُـقـوق الإنسان»، و«المساواة فيما بين كل المُواطنين»، دون أيّ تَمْيِيز على أساس الدِّين. ولم يكن مَـعْـقُولًا أن يكون الحَلّ لِمُشـكل اِضْطهاد اليَهود هو «خلـق وَطَن جديد خاص باليهود في مُسْتَـعْـمَـرَة إِنْجْلِيزِيَة مُـعَـيَّـنَـة» (فلسطين). مثلما أن الحَلّ لضمان حقـوق الغَجَر (gitans) في أوروبّا، أو الحَلّ لضمان حُقـوق السُّود في أمريكا، أو للسُكّان “الرُّوهِنْـجَا” في بِيرْمَانِيَا، أو الْوِيـغُور” في الصِّين، أو مَن شَابَهَهُم من المَجموعات، لم يكن هو «خَلْق وطن خاصّ بهم في إحدى المُسْتَـعْمَرَات». خاصّةً وأنّه، إذا كانـت الدّول الغربية قد وَعَتْ حَقِيـقَةً أَخْطَاءَهَا السّابـقة، المُتجلّية في اِضطهاد اليهود، وإذا ما اِلْتَزَمَت فِـعْـلِيًّا باحتـرام «حقـوق الإنسان»، فإن الْلُّجُوء إلى «خَلْق وَطَن جديد خاص باليَهُود وحدهم» يُصْبِح غَير مُبَرَّر.
هذا على مُستوى الدّول الأوروبّية. أمّا على مُستوى الأشخاص اليَهُود في دُول أوروبّا، فإن الحلّ المَنْطِـقِـي (الذي كان ينـبـغي أن يبرز في أدمغتهم) هو البَـقَـاء في أوطانهم الأوروبية الأصلية، وخوض النضالات السياسية، والدِّيموقراطية، بهدف فرض إقامة قـوانين تضمن «الدِيمُوقْرَاطية»، و«حقـوق الإنسان»، وتُـلْغِـي كلّ أشكال التَمْيِيز فيما بين المُواطنين على أساس الدِّين.
فإذا كُنْتَ تَـقبل بالفكرة (الصهيونية) القائلة (منذ العام 1945) إنه «لِتَجَنُّب اضطهاد اليهود في الدول الغربية، يجب أن يعيش هؤلاء اليهود في وطن (فلسطين) مُخَصَّص لليهود فقط”، فعليك بنـفس المنطق قَبُول أن يعيش المسيحيون منفردين فيما بينهم في وطن واحد أو أكثر مُخصّص للمسيحيّين فقط؛ ونفس الشيء بالنسبة للمسلمين؛ وَلِلسِّيخ؛ وَلِلْوَثَنِيِّين؛ وَلِلرُّوحِيِّين؛ وَلِغَيْر المُتديّنين؛ ولجميع أنواع الأديان الأخرى. فهل ترون الآن السيناريو الذي يقودنا إليه هذا المنطق (الصهيوني)؟ إنه فَصْل عالمي فيما بين الشُعوب على أساس الدِّين! إنه ليس أمرا فظيعا لا يطاق فحسب، بل إنه يقودنا مباشرة إلى الحروب الدينية، كما كان الحال في العُصور الوُسطى. لن يقبل أي شخص عاقل مثل هذا الاختيار. لأن العقل يـقتضي : الدَمَـقْرَطَة، والفَصل بين الدِّين والسياسة، وكذلك الـفصل بين الدِّين والدولة.
علاوة على ذلك، فإن الصهيونية، ومشروع بناء إسرائيل، يقومان على أساس الديانة اليهودية. وجميع الدول الإمبريالية الغربية تجد هذا أمرًا طبيعيًا. وهذا الخلط بين السياسة والدِّين مقبول عندهم. ولكن بمجرد أن يفعل الفلسطينيون الشيء نـفسه، أي بمجرد أن تَتَنَظَّمَ المقاومة الفلسطينية على أساس الدِّين الإسلامي (مثل حماس، أو الجهاد، الخ)، تهتـف جميع وسائل الإعلام الغربية على الـفور : «هؤلاء هم مُـقاومون فلسطينيُّون إسلاميُّون، أَيْ أَيْ أَيْ، الأمر خطير جداً ! إنهم فَاشِيُّون (fascistes)» ! لأن الإسلام يوقظ فيهم مخاوف دَفِينَة، أو كراهية قديمة، تعود إلى الحروب الصليبية في العصور الوسطى.
وعليه، إذا اختار يَهُود دُوّل أوروبّا، وإذا اِختارت كذلك دول أوروبّا، حَلَّ «خَلْـقِ وَطَن جديد خاص باليهود»، فهذا الاختيّار يعني : أَوَّلًا، أن يَهود دول أوروبّا لم يَـكُونوا يَثِـقُـون في إمكانية «دَمَـقْـرَطَة» (démocratisation) دول أوروبّا. وَلَم يَـكونوا يَـثِـقُـون في إمكانية اِلْتِزَام الدّول الغربية بعدم اِضطهاد اليهود في المُستـقبل. ويـعـنـي ثَانِيًّا ذلك الاختيّأر، أن دُول أوروبّا هي نـفسها لم تـكن تَتِـق في إمكانية اِلْتِزَامِهَا باحتـرام قـوانين «الديموقراطية»، و«حقـوق الإنسان»، تُجاه مُواطنيها اليهود. وَيَـعْـنِـي ثَالِثًا هذا الاختيّار، أنّ الدُّول الغربية كانـت هي أيضًا تُرِيد سِرًّا أن تَتَخَلَّص كُلِّيًا، أو نِهَائِيًّا، من اليهود المُتَوَاجِدِين داخل حُدودها، عَبْرَ جَمْعِهِم في «وَطَن خاصّ بهم»، بَـعِيدًا عن أَوْرُوبَّا. وَيَـعْـنِـي رَابِـعًـا هذا الاختيّار أنّه، ما دامت الدّول الغربية تُوافِـقُ على وُجُود «وَطَن خاصّ باليهود»، فهذه المُوافـقة هي حُجَّة على اِسْتِمْرَارِيَة وُجُود كَرَاهِيَة سِرِيَّة لَدَى الدُّول الغربية تُجاه الْيَهُود. لأنه، لَوْ كانـت الدّول الغربية تُحِبُّ فِـعْـلًا، أو تَلْتَزِم فِـعْـلًا، بِالمُساواة بين كلّ مُواطنيها، دون اِعْتِبَار لِدِيَّانَاتهم، أو لِإِثْنِيَّاتِهِم، أو لِطَوَائِـفِهِم، الخ، لَمَا قَبِلَت هذه الدول الغربية التَخَلُّص من مُواطنيها المُعْـتَـنِـقِين لِلدِِّيَانَة اليَهودية.
إنّ الحلّ الذي قَبله اليَهود المُتَصَهْيِنُون، وكذلك الدّول الغربية، يَدفـعـنـا إلى طَرح التَسَاؤُل التّالي : مَا عَلَاقة الـفَلسطينيّين بِاضطهاد اليهود في دُول أوروبّا ؟ إن كانـت الدّول الغربية تضطهد مُواطنيها اليهود، لماذا الحَلّ هو الانـتـقام من الـفلسطينيّين، واستـعمار وَطَنِهِم، وَتَهْجِيرِهِم، أو إِبَادَتِهِم ؟ ومن كان يجب عليه أن يُؤَدِّيَ ثَمَن اضطهاد اليهود في دُوّل أَوْرُوبّا، هل الـفلسطينيّون أم الدّول الأوروبية ؟ أَلَيْسَ هؤلاء اليَهود المُتَصَهْيِنِين جُبَنَاء، وانـتهازيّين، وَمُسْتَلَبِين (aliénés) ؟ حيث كان يجب عل هؤلاء اليهود المُتَصَهْيِنِين أن يُوَاجِهُوا مُواطني وَمُؤَسّـسات الدُول الأوروبية الذين كانـوا يَضْطَهِدُونهم. وكان يجب عليهم أن يُناضلوا من أجل إِقَامَة وَتَنْـفِيذ قَوَانِين «دِيمُوقْرَاطِيَة»، ومن أجل فرض احتـرام «حقـوق الإنسان» كاملة، وَلِـفَائِدَة كل المُواطنين، وَدُون تَمْيِيز. أمّا الهُجوم على الشعب الـفلسطيني البَـعِيد، وَالضَّعِيـف، والبريء من اضطهاد اليهود في أوروبّا، فهو عَمل جَبَان، وَمُخَادِع، وخارج عن الموضوع المَـعْـنِـي. ومثلما يقـول المَثَل الشّـعبي: «اِنْهَارَت صَوْمَـعَةُ المَسْجِد، فَشَنَـقُوا الحَلَّاق». وَيَـعْنَـي هذا المثل : لَا علاقة بين هذا وذاك.
وَاخْتِيّار «خَلْـق وَطَن جديد خاص باليهود»، في مُستـعمرة إِنْجْلِيزِيَة مُعَيَّنَة (فلسطين)، قد تَـكون له أهدافها أخرى سِرِّيَة، وغير مُـعْلَنَة، ومُخالِـفة لِلْمُبَرِّرَات التي قُدِّمَت عَلَنِيَّةً. ومن ضِمْنَ هذه الأهداف السِرِّيَة، خَلْق قَاعِدة عسكرية مُتَـقَدِّمَة في الشّرق الأوسط. والغاية من هذه الـقاعدة هي مُزَاحَمَة الدّول العربية في اِسْتِـغْـلَال آبَار النَـفْط والغَاز المَوجودة في منطقة الشّرق الأوسط، وَإِزَاحَة بعض هذه الدّول، وَتَـعْـوِيضها. وقد يَتَأَكَّـد هذا الهدف السِرِّي مِن خلال إِقْدَام إسرائيل (وأنصارها) مُؤَخَّرًا على مُحاولة اِسْتِـغْلَال حُـقُـول غَاز وَنَـفْـط موجودة في شَوَاطِئ فلسطين المُحتلّة. ويـقـول البعض أنّ مخزون هذه الحُـقُـول هَائِل.
ما معنى العناصر المَـعروضة سابـقًـا ؟ معناها أن كلّ مُبَرِّرَات خَلـق الكِيّان الإسرائيلي، هي مَـغْـلُوطَة، وَمُضَلِّلَة. وكل ما هو مَبْنِـي على أساس بَاطِل، فهو أيضًا بَاطل.
• بُـطْلَان أُسُـس الأيْدِيُّولُوجِيَة الصَّهْيُونِيَة
الأَساس الـفـكـري الذي بُـنِـيَّ عليه مَشروع إنشاء إسرائيل، هو الْأَيْدِيُولُوجِيَّة الصّهيونية. وَأُسُـس هذه الْأَيْدِيُولُوجِيَّة هي كلّها مَـغْلُوطَة. ولا تُوجد وَلَوْ ذُرَّة عَـقْـلَانِية واحدة في هذه الْأَيْدِيُولُوجِيَّة الصَّهْيُونِيَة. وتـتـكـوّن هذه الأيديّولوجية الصّهيونية من مُـعتـقـدات سَاذَجَة (naïves)، أبرزها ما يلي:
– أُطْرُوحَة «الشّعب اليهودي» : وهذا «الشّعب اليَهودي» المَزْعُوم، لَا يُوجد، وَلَا يُمكن أن يُوجد. مثلما أنه لَا يُوجد «الشّعب المَسيحي»، أو «الشعب المُسلم»، أو «الشعب الهندوسي»، أو غير ذلك. وكلّ شخص يستـعمل عبارة «الشّعب اليَهودي»، فهو تحت تأثير الدّعاية الصهيونية. وما يُوجد في بلدان العالم، هُم «مُواطنون يهود»، و«مُواطنون مَسيحيّون»، و«مُواطنون مُسلمون»، وَمُواطنون غير مُتَدَيِّنِين، الخ. وهذه الأصناف المُختلفة من المُواطنين، تُوجد وهي مُختلطة في 193 دولة (عُضوة في “منظمة الأمم المُتّحدة” ONU). ولماذا تُصِرُّ الحركة الصهيونية (ودولة إسرائيل) على الكلام عن «الشّعب اليهودي»، وعن «الدّولة اليهودية» ؟ لأنها تُريد اِحْتِـكَار تَمْثيل كلّ يَهود العالم. بينما لا يحـقّ لأية دولة في العالم، أن تَزْعُم أنها تُمثِّل مُـعْـتَنِـقِي أيّة دِيَّانَة مُحَدَّدة في العالم. ولماذا ؟ لأن مُختلـف أصناف المُواطنين المُتَدَيِّنِين (وغير المُتديّنين)، يُوجدون (وهم مُختلطين) في مُعظم دول العالم. وَلَمْ، وَلَنْ، يُـفَوِّض الأشخاصُ المُـعْـتَنِـقُون لِأَيِّ دِِين مُحَدّد، لِـأيّة دولة مُـعَـيَّنَة، أن تتحدّث باسمهم.
– أطروحة «الدولة اليهودية» : والكلام عن «الدولة اليَهودية» هو مَظهر مِن مَظاهر اِسْتِـغْلَال الدِّين في ميدان السياسة. بَيْنما تَختلـف «الدّولة» جَذْرِيًّا عن «الدِّين» (سواءً كان هذا الدِّين هو اليَهودية، أو المَسيحية، أو الإسلام، أو أيّ دِين آخر). بَلْ تَتَنَاقَـضُ «الدّولة» مع «الدِّين». و«الدّولة» هي مجرّد أجهزة، ومؤسّـسات، وعلاقات مُجتمعية، وعلاقات سِيَّادَة وَخُضُوع، الخ. أمّا «الدِّين» فهو مُـعتـقدات، وَمُقَدَّسَات، وَعبادات، وَطُـقُوس، وعادات، الخ. حيث لا يُمكن لِـ «الدّولة» أن تـكون «دولة يَهودية»، أو «دولة مسيحية»، أو «دولة مُسلمة». والإِصْرَار على تحويل «الدّولة» إلى «دولة دِينِيّة»، هو مُحاولة لِتَحْوِيل «الدّولة» إلى نَوْع من «الكَنِيسَة» الإجبارية، التي تُريد «الدّولة» فَرضها على كلّ المواطنين. وَتُريد إسرائيل أن تَـكون هي «المُمثّل الشّرعي والوحيد لكلّ يهود العالم»، وهذا الزَّعم هو اِفْتِرَاء جَائِر، ومرفوض. وأعداد مُتـزايدة من اليهود (غير المُتَصَهْيِنِين) في العالم يرفضون أن تَتَصَرَّف «دولة إسرائيل» باسمهم.
– أطروحة «الشعب اليهودي المُختار» أو «المُـفَـضَّـل» من طرف الإله : أي الشّعب الذي «يُفضّله» اَلْإِلَـهُ على كلّ شُعوب العالم. وهذه الأطروحة هي اِفْـتِـراء وَكَذِب على الإله، وعلى البَشر. لأنه لا يُـعْـقَـل أن يَنْحَطَّ الإله إلى مُستوى المُناورة بِمَجموعة بَشَرِيَة ضدّ مجموعات أخرى. ولأنه لا يُوجد أيّ مُبرّر عَـقْـلَانِي لِتَـفْـضِيل جماعة بشرية على أخرى، باستـثناء أَنَانِيَة، أو غُرُور، الأشخاص الذين يزعمون أنهم «مُـفَـضَّلِين» لدى الإلـه.
– أطروحة «الأرض المَوْعُودة من طرف الإله» : وهذا أيضا اِفْتِرَاء، وَكَذِب، على الإله، وعلى البشر. لأن الإله لا يتـدخّل في شُؤون البَشَر. ولا يُوجد ما يُثبت أنّ الإله يُمَيِّزُ فيما بين الجماعات البشرية. ولا يُوَزِّع الإله الهَدَايَا على جماعات بشرية على حِسَاب جماعات أخرى. ولا يَتَدَخَّل الإلـه في مجال التَحْكِيم، أو التَدْبِير، لِلْمِلْكِيَّات العَـقَـارَات المُتـنازع عليها فيما بين البَشَر.
– أُطروحة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» : وهي أيضا كذب وَقِـح. وهدفه هو تَبرير اِستـعمار فلسطين. حيث يزعم الصّهاينة أن الشعب الفلسطيني غير مَوجود، ويدّعون أن أرض فلسطين كانـت فارغة حينما اِحتلّها واستـعمرها اليهود الصّهاينة في سنوات 1948. إنهم يـنـفـون التاريخ، وينـكُرون وُجود المُـقاومات الـفلسطينية التي اِصطدموا بها. كأنّ هذا الشّعب الـفلسطيني سَقط من السّماء، فيما بعد، فَوْرَ اِنْتِهَاء اِحتلال واستعمار فلسطين. وهذا كذب مُعتاد عند المُستَـعْـمِرِين.
– أطروحة «الهُولُوكُسْت هي أكبر جريمة في تاريخ البشرية» : وهي كذبة لَا تُبرّرها سوى الْأَنَانِيَّة المُـفْرِطَة لليهود الصهاينة. لأن الجرائم الـفَظِيعَة المُرتـكبة في تاريخ البشرية هي كثيرة. ولا يـقدر أيّ بَشر على أن يُحدّد بشكل عَـقْـلَانِيّ مَن هي الجريمة الأكثر إِيلَامًا أو فَظَاعَةً في تاريخ البَشرية. لأن كلّ ضحية تـزعم أن الجريمة التي تَـعرّضت لها هي «أكبر جريمة في تاريخ الشرية». بينما الاضطهاد الذي يَـفرضه الصّهاينة على الـفلسطينيّين هو بِوُضوح أكبر من «الهُولُوكُسْت».
– إلى آخره.
وهذه الأَيْدِيُولُوجِيَّة الصَّهْيُونِيَة، هي مَنْظُومة فكرية اِستـعمارية، وَعُنصرية، وَإِمْبِرْيَالِيَة، وَبَسِيطَة، وَسَاذَجَة. بَلْ هي مُـفْرِطَة في الأنانية، وفي الانتهازية، وفي الغُرُور، إلى درجة أن الوَصْف الوحيد، الصّريح، والمُلائم لِنَـعْـتِـهَا، هو كَوْنُهَا «بَلِيدَة». وهذا الوَصْف ليس شَتْمًا، وإنما هو وَصْف سياسي موضوعي. وعلى عَـكس الخُرَافَة التي تَدَّعِـي أن «الشَّـعب اليهودي» هو «شَـعْبُ عَبَاقرَة»، وعلى عَـكس ما يَظُنُّه غَالِبِيَّة اليَهُود المُتَصَهْيِنِين حَوْل أنـفسهم، نَرَى أنّ هذه الْأَيْدِيُولُوجِيَّة الصَّهْيُونية هي سَخِيـفَة، وَمُضَلِّلَة، بَل غَبِيَة. وندرك أن الأشخاص الذين يتبنون هذه الأيديولوجية الصهيونية، هُم غير مَبدئيِّين، أو أنانيّين، أو متعجرفين، أو انـتهازيّين.
وكلّ إنسان سَلِيم في عَـقْلِه، إذا إِطَّلَع على مضمون هذه الأَيْدِيُولَوجِيَة الصّهيونية، سيقـول لك تِلـقائيّا أن المَآل المَحتوم لِلْأَشخاص الذين يُؤمنون بهذه الأَيْدِيُولَوجِيَة سيكون هو الـفشل، والإفلاس. وإذا أَجَبْتَ هذا الشّخص بأن إسرائيل هي واقع حـقيـقـي، وَمُسْتَـقِـر، وَمُسَيْطِر، وَقَاهِر، وَمَوْجُود على الأرض، قد يُجيبك هذا الشخص العاقل أنه، مهما كانت قوة إسرائيل المؤقتة، ومهما طالت قصتها، فإنّ مَآل هذا الكيّان الإسرائيلي المَحتوم، سيكون هو الانهيّار الشّامل. لأن ما بُنِيَ على بَاطِل، سَيكون هو نفسه بَاطِلًا.
• السِرُّ في سَيْطَرَة إسرائيل على الدّوَل الغربية
رغم تخلّف الْأَيْدِيُولُوجِيَّة الصَّهيونية، ورغم غَبَائِهَا السياسي، نُلاحظ بِانْدهاش أنّ الحركة الصَّهيونية اِستطاعت أن تُؤثِّر بِقُوّة، إلى حُدُود سَيْطَرة نِسبيّة، في وَسائل الإعلام، وفي الثـقافة، وفي المؤسّـسات المَالية، وفي الحُكومات، في الوِلَايَات المُتّحدة الأَمْرِيكِيَة، وفي المملكة المُتّحدة، وَبَلْجِيكَا، وَاسْوِيسْرَا، وكندا، وأستـراليا، وفي مُعظم دُوّل أوربّا.
وقد تَـقَـوَّى تَأثير المُخابرات الإسرائيلية إلى درجة أن أيّ مُشْتَـغِل في وسائل الإعلام في الدول الغربية، إذا ما اِنْتَـقَد إسرائيل، أو اِسْتَهْجَنَ الأطروحات الصَّهيونية، يَتـعـرّض حَتْمًا لِلتَّهْمِيش، أو العَزْل، أو الـفَصْل، أو الإبـعاد، أو الطّرد. بل أصبح من شِبْه المُستحيل على أيّ شخص مُرَشَّح لِمَنْصِب رِئَاسَة الحُكومة، أو لِمَنصب وزاري، أو لِـقِيّادة أيّة مؤسّـسة مهمّة، أن يَنْجَح في الانتخابات إذا لم يَـكن مُناصرًا لإسرائيل، أو إذا لم يَـكن مُساندًا لِلأطروحات الصَّهيونية.
وفي فرنسا مثلًا، أصبحت حالة المُمَثِّل الـفُـكَـاهِـي دْيُو دُونِـي امْبَالَا (Dieudonné M’bala) رَمْزًا مُـعـبّـرا عن قُوّة تَأْثِير الْلُّوبِي (lobby) الصَّهيوني. حيث حاربته الحَركة الصَّهيونية إلى أن صدرت قرارات قَضَائِيَة وَحُـكُومية تَمْنَعُه كُلِّيًا، وَنِهَائِيًّا، من الظهور في وسائل الإعلام، وفي المَسَارِح، والأفلام، وما شَابَهَهَا. والسّبب هو أن الفُـكَـاهِي دْيُو دُونِي اِنـتـقد إسرائيل والصَّهْيُونِيَة. وفي عدّة بلدان غربية، مثل فرنسا، واسْوِيسْرا، وبَلْجِيكَا، وكَنَدَا، أدانه قُضَاةٌ مُتَصَهْيِنُون بِتُهَم مثل: «التحريض على التمييز، أو على كراهية اليهود، أو التَحريض على العنف العنصري، أو الديني، أو الإهانة العنصرية، أو إِنْـكَار الهُولُوكُوسْتْ، أو الدّعوة إلى الإرهاب» ! لأن الصَهَايِنَة الإسرائيليّين يَـعتبرون نَـقْد سياسات إسرائيل مَظْهَرًا من مَظاهر «كراهية عنصرية ضد اليهود» ! بمعنى آخر، إمّا أن تتركوا الصهاينة يستعمرون كما يريدون، وإمّا أنهم سيتّهمونـكم بِـ «الكَراهية العُنصرية ضدَ اليَهود» !
وفي الولايات المُتّحدة الأمريكية، غَدَت العادة المُتـكرّرة والمُثِيرَة لِلسُّخْط، هي أن كل مرشّح للرئاسة يُصبح مُجبرا على الإفصاح عن وَلَائِـه لإسرائيل، وعن مُساندته للصَّهيونية، وإلَّا فإنّ دِعَايات وسائل الإعلام الـقَوِيَّة تَتَـكَـفَّـل بِمُحاربته، وَبِِـإِفْشَالِه في الحملات الانتخابيّة.
فَـكَيْف اِستطاعت الحركة الصهيونية أن تُلَوِّثَ عُـقُول العديد من مُواطِنِي العالم، وأن تُؤثّر في العالم كلّه، وبهذه الـقُوّة ؟
السِـرُّ المُـفَـسِّر لهذا التَأْثِير المُدهش، هو ما شرحه المناضل اليهودي، المُناهض لِلصّهيونية، جَاكُوب كُوهِين (Jacob Cohen)، في بعض كُتبه، ومُحاضراته (رغم الهجمات الإرهابية التي نَـفّذها ضدّه عملاء الموساد الإسرائيلي لإسكاته). حيث أوضح أن قُوّة المُخابرات الإسرائيلية مَبْنِيّة على أساس جيش واسع من «الصَيَانِيم». وفي اللّـغة العِبْرِيَة، كلمة «صَيَانِيم» هي جمع كلمة «صَيَان». والشّخص «الصَيَان» هو الذي يُـعِين، أو يُسَاعِـد، أو يُنَاصِر. وشرح جَاكُوب كُوهِين أن كلّ شخص يَهودي في العالم، ومهما كان البلد الذي يتواجد داخله، ومهما كانـت المُؤَسَّـسَة التي يَشتـغـل فيها، يَتحوّل تِلْـقَـائِيًّا، وَطَوعيّا، إلى «صَيَان»، أيْ إلى مُسَاعِد، أو عَمِيل سِرِّي، مُجَنَّد، وَمُنْضَبِط، لخدمة إسرائيل، وَلِتَنْـفِـيذ أَوامر مُؤسّـساتها المُخابراتية. وهذا يـفضح أن مُجمل اليهود الصهاينة يرفضون الاندماج في البلدان التي يعيشون فيها، ويظلون مخلصين قبل كل شيء لدولة إسرائيل. وَمُجمل الحركة الصَّهيونية تَخضع، وَتَنْضَبِط، لِتَوجيهات الأجهزة المُخابراتية الإسرائيلية (المُوسَاد [الخارجي]، والشِّينْ بِيتْ، أو الشَّبَاك [الداخلي]، والأَمَان [العسكري]، الخ). وكل مؤسّـسة في العالم يَتَوَاجَد فيها يَهُود مُتـعـاطفين مع إسرائيل، أو مع الصَّهْيُونِيَة، تُصبح المُخابرات الإسرائيلية قادرة على التَسَرُّب داخلها، وعلى التَأْثِير فيها، وعلى توظيـفها لِخدمة أهداف إسرائيل. وهكذا اِسْتَـطَاعَت إسرائيل أن تُجَنِّدَ مُجْمَل الأشخاص اليَهُود المُتَصَهْيِنِين في العالم، وأن تُحَوِّلَهُم إلى عُمَلَاء سِرِيِّين، وَمُنْضَبِطِين لِأَوَامِر الأجهزة الإسرائيلية المُخابراتية. وكلّ مُؤسّـسة تَمَّ التَحَـكُّم فيها، تُصبح هي نَـفـسها وَسِيلة لِلتَحَـكُّم في مُؤسّـسات أخرى. واستطاعت إسرائيل أن تُؤَثِّر سِرًّا في الكثير من المُؤسّـسات المُتـنوّعة الموجودة في العالم. وقليلون هم الأشخاص المَسْئُولُون في العالم الذين يَـقدرون على مُـعارضة إسرائيل، أو نَـقْـدِهَا، أو تَحَدِّيهَا.
• هَلْ تَحتاج حَـقًّا الدّول الإمبريالية إلى وُجُود إسرائيل؟
خلال تحليل وَنَـقد الْأَيْدِيُولُوجِيَّة الصَّهيونية، يَبْرُز فورًا في الذّهن السؤال التالي : إذا كان المشروع الصّهيوني إجراميًّا (أيْ فيه ظُلم ضدّ الشّعب الـفلسطيني المُسْتَـعْمَر)، وإذا كانـت الأَيْدِيُولَوجِيَة الصَّهيونية فعلًا أيديولوجية حَمقاء، فَـكَيْـف أَمْـكَن تَبَنّيها على نطاق واسع عبر العالم ؟ وكيـف أمكن الدِّفاع عنها ؟ وكيـف أمكن الإنـفـاق عليها بلا حساب، على امتـداد أكثر من 75 سنة، من طرف أقـوى الدّول الإِمْبِرْيَالِية في العالم ؟ ولماذا سقطت كلّ هذه الدّول الغَربيّة، المُدَعِّمَة لإسرائيل، في فَخّ المُشاركة في دَعْم مشروع إجرامي، وأحمق، ومحكوم عليه بإفلاس حَتْمِيّ ؟ هذا سُؤال بَالِـغ الأهمِّية.
والسِرّ في الجواب على هذا السؤال الجوهري، هو ما علّمه لنا كَارْل مَارْكَس، وَافْرِيدْريش إِنْجَلْس. وهو أن الحماقات التي يرتـكبها الرَّأْسَماليّون، والإمبرياليّون، لَا حُدود لها. بل من المُمكن أن يَـقُـود الإمبرياليّون، والرّأسماليون، العالمَ كلّه إلى مَجَازِر، وإلى كَوارِث شاملة، دون أن يستـفيق ضميرهم الإنساني.
لكن الغريب أيضا، وخلافًا لآراء منتشرة على نطاق واسع، هو أن الإمبرياليِّين، والرّأسماليِّين، لا يحتاجون إلى وُجود إسرائيل لِخِدْمَة مصالحهم المادّية الأساسية في الشّرق الأوسط، أو في مختلـف مناطق العالم. لأنّه أثناء عَمليّات تَصْدِير مَنْتُوجاتهم الصناعية، وخدماتهم والمالية، وَأثناء اسْتِـثْمَار رَسَامِيلهم في مختلـف بُلدان العالم، وَأثناء تَأْسِيس فُروع لِشَرِكَاتِهم فيها، وَأثناء اسْتِرْجَاع أرباحهم إلى أوطانهم الأصلية، فإن الرَّأْسَماليِّين والْإِمْبِرْيَالِيِّين لا يحتاجون إلى وُجود إسرائيل. كما أن هَيمنة الدّول الغربية الإمبريالية على الدُّوَيْلَات العربية النَـفطية في الشّرق الأوسط، والتَلَاعب بِبَعض حُكّامها، وَنَهْب ثرواتها، كان وما زال مُمكنا، بَل سَهْلًا، ولا يَحتاج بَتَاتًا إلى وُجود إسرائيل في الشّرق الأوسط.
بل قد يكون العكس هو الصحيح. أيْ أنّ اليَهُود الرَّأْسَماليِّين المُتَصَهْيِنِين، هم الذين يحتاجون إلى تَوْرِيط مُجمل الدّول الرَّأْسَماليِّة والْإِمْبِرْيَالِيّة الغَربيّة، في دَعْم شَامِل، وَلَا مَحْدُود، لمشروع تَأْسِيس هذا الكِيَّان الإسرائيلي. خاصّة وأنّ المُبَرِّر الأساسي لخلـق إسرائيل، كان في البداية هو «خلـق وَطَن خاص بِاليَهود، لِكَيْ لَا يَتَـعَرَّضُوا مرّةً أخرى لاضطهاد مُشابه لِلْاْضْطِهاد الذي عَانَوْا منه في بلدان أوروبّا».