وجهة نظر: "حراك الريف": الأسباب.. عناصر القوة وسياسات الدولة
تعرف منطقة الريف شمال–شرق المغرب حراكا اجتماعيا منذ 7 أشهر ولايزال مستمرا، وذلك بعد مقتل بائع السمك “الشهيد محسن فكري” بمدينة الحسيمة، عبر طحنه في شاحنة الأزبال أمام مرأى ومسمع رجال السلطات المحلية، مما أثار غضب الساكنة وفئات عريضة من المجتمع المغربي، شملت أحزابا وجمعيات مدنية وحقوقية من مرجعيات مختلفة، إضافة إلى مواطنين لا لون سياسي لهم أو إيديولوجي. خرجوا مندفعين إلى الشوارع منددين ورافضين للظلم والاستبداد والفساد، ومطالبين بمحاسبة قتلة الشهيد، مما دفع الدولة المغربية إلى الإسراع من أجل احتواء الأوضاع، قامت الدولة بإرسال وزير الداخلية السابق أحمد حصاد إلى مدينة الحسيمة، يحمل معه برقية تعزية من العاهل المغربي. لكن رغم تلك المحاولة قوبلت زيارة الوزير برفض شعبي ولم تتفاعل معها ساكنة الريف رغم الوعود التي قطعتها الدولة، وزيارة بعض القيادات السياسية إلى عائلة الشهيد من أجل تطويق الأحداث ومحاصرة تمدد تلك الاحتجاجات، إلا أن تلك الوساطات استطاعت أن تقنع عائلة الشهيد بترك القضية إلى المؤسسة القضائية، ووعدت بتحقيق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن ذلك الحدث.
رافقت تلك الوعود إقالات بعض المسؤولين في وزارة الداخلية والصحة وقطاع الصيد البحري. كما انخفض ثمن السمك الذي نزل إلى أدنى مستوياته (7 دراهم بعدما كان ثمن كلغ 20 درهما) منذ 10 سنوات، رغم كون مدينة الحسيمة مدينة ساحلية وتتوفر على ثروة سمكية مهمة إلا أنها ليست من نصيب أهلها.
إن استمرار الحراك الشعبي وتمدده يطرح عدة تساؤلات على المتتبعين لهذا الحراك، والطريقة التي تتعامل بها الدولة المغربية من أجل احتواء الأوضاع. هل مقتل الشهيد محسن فكري والمسار الذي اتخذه الملف قضائيا هو سبب استمرار الحراك وتمدده؟ أم أن حدث استشهاد محسن فكري كان النقطة التي أفاضت الكأس وفجرت الأوضاع؟ هل يمكن اعتبار التهميش والإقصاء والاستبداد عاملا أساسيا في تغذية الفعل الاحتجاجي وتمدده؟ هل تماطل الدولة في الاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لساكنة الريف ونهجها لسياسة الترهيب والترغيب أفقدها المصداقية لدى ساكنة الريف؟ خاصة بعدما عرفت بنكث عهودها و“الأساتذة المتدربين” خير مثال على ذلك.
1) أسباب الحراك ودواعي الاستمرارية:
أعتقد أن هناك عدة عوامل متداخلة تقف وراء استمرار الحراك وتمدده، ويمكن إجمالها في عوامل اجتماعية، تاريخية ونفسية:
الأسباب الاجتماعية: الوضع الاجتماعي الذي تعيشه مختلف مناطق المغرب وواقع البطالة وغلاء الأسعار والإجراءات التي اتخذتها الحكومة المغربية السابقة ممثلة في ضرب للوظيفة العمومية والعمل بالتعاقد، وإقرار المجلس الأعلى للتعليم برفع مجانية التعليم، وغيرها من الإجراءات التي تجعل المغرب من بين أكثر الدول المرشحة لاحتجاجات في مختلف القطاعات والمناطق، وذلك نظرا لحجم التناقض بين الثروات التي يتوفر عليها المجتمع المغربي، “الفوسفاط، والثروة السمكية (3600 كلم واجهتين بحريتين)، ومناجم الذهب، والفضة..”، ومعدلات الفقر والبطالة التي تنذر بانفجار وشيك، لا يمكن التنبؤ بمآلاته والتحكم في مساره، فكل تلك الثروات تستفيد منها الأوليغارشية الحاكمة وعائلات نافذة، كل هذه الأعطاب والأمراض الاجتماعية كفيلة بأن تدفع الناس للخروج إلى الشارع مطالبين بحقهم في التعليم والصحة والشغل والتوزيع العادل للثروة إلغاء ظهير العسكرة.
وتعتبر هذه المطالب مشروعة وطبيعية في كل البلدان الديمقراطية التي تحترم مواطنيها. رغم كل هذه الاختلالات تقوم الدولة بضخ أموال إلى الخارج وتدشين مشاريع عملاقة في بلدان إفريقية (مشروع عاصمة جنوب السودان)، فأبناء هذا الوطن أولى بتلك الاستثمارات التي قد تفتح آفاقا للشباب وتحد من واقع البطالة واليأس، الذي يعتبر مصدر كل رذيلة في المجتمعات، لأن ضرب قيم المجتمع وتفككه، هي مصدر قوة الأنظمة الفاسدة. “إن النظام السياسي الفاسد يشتغل بقوة على منظومة (القيم) كي يحطمها عن ٱخرها، لأنها هي الكفيلة ببقائه وديمومته“[1]. لذلك تسعى الدولة إلى تخدير المجتمع عبر إقامة مهرجانات تنشر الرذيلة وتستهدف قيم المجتمع، منفقة على ذلك المليارات، في حين يفتقر الشعب المغربي إلى أبسط مقومات الحياة في عدة مناطق بالأطلس والريف.
الأسباب التاريخية: كل متتبع لحراك الريف يدرك أن هذا الحراك مختلف عن الاحتجاجات التي عرفها المجتمع المغربي في مختلف المناطق، خاصة بعد احتجاجات 20 فبراير، الأطباء، والأساتذة المتدربين، والاحتجاجات التي عرفتها مدينة طنجة ضد شركة الماء والكهرباء (أمانديس)، وذلك نظرا لتاريخ المنطقة.
إن المقاومة الريفية بقيادة عبد الكريم الخطابي ضد المحتل الإسباني والفرنسي، شكلت رصيدا معنويا ومصدر فخر لأبناء المنطقة، فنال بذلك شرف الوطنية والدفاع عن الشرف والعرض والأرض، بل أصبح مدرسة لحرب العصابات لدى الحركات التحررية في العالم. منذ الاستقلال خاصة بعد الأحداث التي عرفتها منطقة الريف، وإصدار ظهير شريف رقم 1.58.381 نونبر 1958. الذي بموجبه أصبح إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، كانت لتلك الإجراءات آثار اجتماعية ونفسية واقتصادية على سكان المنطقة، وتم بموجب تلك الإجراءات حرمان تلك المناطق من الاستثمارات الداخلية والأجنبية نتيجة خوف المستثمرين، إضافة إلى ضعف البنيات التحتية وافتقار المنطقة مقارنة مع بعض المدن الأخرى للمرافق العمومية “مدارس، وجامعات، ومستشفيات، ودور الشباب، ومعامل، وشبكة طرقية..”. كما تعرض سكان تلك المناطق للتهميش المتعمد دفع أغلب الشباب للهجرة إلى الخارج.
الأسباب النفسية: يشكل العامل النفسي أحد العناصر المهمة في نهضة الشعوب وحركتها، ومدخلا لفهم سلوك الأفراد والجماعات في علم النفس الاجتماعي. لقد تطرقت إلى ذلك عدة دراسات سوسيولوجية وسيكولوجية (“التخلف الاجتماعي؛ مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور” مصطفى حجازي، “سيكولوجيا الجماهير“ غوستاف لوبون). إن التبعات النفسية للأحداث التي عرفتها منطقة الريف منذ الاستقلال، ووصف الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، أبناء المنطقة “بالأوباش” بعد أحداث انتفاضة الريف، جعلت أبناء المنطقة يشعرون بالإقصاء وعنف رمزي مورس عليهم ولازال، سواء كان بطريقة متعمدة أو غير متعمدة من قبل النظام القائم. كما يمكننا اعتبار حرمان تلك المناطق من الأوراش الاقتصادية والاستثمارات وخلق فرص للشغل وغيرها من الإجراءات التي تعتبر طبيعية وحق مشروع لكافة أبناء الوطن الواحد، حتى تكون تنمية شاملة ومتوازنة بين مختلف الأقاليم والجهات والجماعات الترابية.
إن الظهير القاضي بجعل إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، لم تعد هناك أي مبررات لاستمراره. فمثل هكذا إجراءات تتخذها الدول التي تعرف حروبا أهلية. إننا لا نشهد حربا أهلية أو تهريبا للسلاح، فالشعب المغربي عرف عبر تاريخه بالتعايش السلمي بين مختلف مكوناته الثقافية والإثنية والدينية.
2) عناصر قوة الحراك الشعبي:
إن الاحتجاجات التي تعرفها منطقة الريف تملك عناصر مهمة يمكن اعتبارها مصدرا أساسيا لقوة الحراك واستمراره وهي كالآتي:
التضامن الشعبي: إن الشعور بالظلم والتهميش يدفع الناس أكثر إلى التلاحم والتضامن فيما بينهم، لذلك لم يكن محض صدفة أن تستجيب كل شرائح المنطقة للمشاركة في الاحتجاجات والإضراب العام. حيث أغلقت المحال التجارية والمقاهي وبعض المؤسسات الخاصة، كما قامت الحافلات بنقل المحتجين بالمجان من مختلف المناطق المجاورة، من أجل المشاركة في المسيرة المنددة بتصريحات وزير الداخلية وأحزاب الأغلبية. كل ذلك يجعلنا أمام معطيات مختلفة تماما عن تلك التي شاهدناها في حركة 20 فبراير 2011، وغيرها من الحركات الاحتجاجية التي عرفت تفاعل فئات بعينها تجمعها مصلحة مشتركة، لكن لم يشارك في تلك الاحتجاجات أصحاب المحلات التجارية وأصحاب المقاهي، إضافة إلى استعمال المواطنين لسياراتهم لنقل المحتجين إلى عين المكان. وهذا التكتل والمقاومة الشعبية هي التي أربكت حسابات الدولة المغربية؛ بحيث لم تستطع أن تقيم شرخا بين مكونات الحراك وفئاته، يمكنها من الاستفراد بكل طرف على حدة، وهو نفس الأسلوب الذي تلجأ إليه الأنظمة الفاسدة حسب تعبير جين شارب، “إن انهيار المقاومة الشعبية يزيل قوة التوازن التي قيدت سيطرة وهمجية النظام الدكتاتوري. من ثم يفتح المجال أمام الحكام الدكتاتوريون ليتحركوا ضد أي شخص يريدونه“[2]. إن الكفاح الاجتماعي ومقاومة الشارع هو الكفيل بانتزاع الحقوق وبناء شروط الحرية، وتحقيق الديمقراطية. “لا تحقق الديمقراطية الفوز حين يتغلب الفعل السياسي على الكفاح الاجتماعي“[3]. ويشكل الشارع ميدانا للكفاح الاجتماعي الذي يمارس ضغطا ورقابة من خارج المؤسسات. لأن “مصير الديمقراطية مرتبط بتكوين الحركات الشعبية المعبأة على نحو قوي“[4] وفق تعبير السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين.
النضال السلمي: يشكل كتاب جين شارب “من الديكتاتورية إلى الديمقراطية” مرجعا أساسا لعدة حركات اجتماعية في العالم ضد الأنظمة الدكتاتورية، وهو أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في دارتموث وقد أنشأ عام 1983 معهد ألبرت أينشتاين، وهو منظمة غير ربحية متخصصة في دارسة العمل السلمي وتعزيزه كوسيلة للدفاع عن الحقوق والتخلص من الظلم حول العالم، وقدم لنا دراسة سوسيوتاريخية للحركات الديمقراطية التي قادت عملية التغيير في العالم، وطبيعة صراعها مع الأنظمة الديكتاتورية. حيث شكلت سلمية تلك الحركات أهم عوامل القوة التي مكنتها من تقويض قوى الاستبداد، بل هو الخيار الوحيد والأسلم أمام الحركات الديمقراطية في العالم، “النضال اللاعنيف،(…) الأسلوب الأقوى المتوفر لدى هؤلاء الذين يناضلون من أجل الحرية“[5]، وهذا ما يدركه أبناء الريف، حيث أكد ناصر الزفزافي أحد قيادات الحراك الشعبي، أن قوة الحراك هي سلميته ووحدة أبناء الريف في وجه الإقصاء والتهميش والفساد، مذكرا المحتجين أن غاندي بمعية الشعب الهندي استطاع بسلميته أن يهزم إمبراطورية لا تغيب عن علمها الشمس، وهي “إنجلترا“.
رغم المحاولات المتكررة وحشد البلطجية من أجل جر المحتجين لخيار العنف، فشلت كل تلك المحاولات، مما جعل المنظمين لتلك المسيرات يفوتون على وزارة الداخلية والمتربصين بالحراك فرصة الانقضاض عليه؛ لأن اللجوء إلى خيار العنف و“وضع الثقة في أساليب العنف إنما يعني استخدام أسلوب للنضال يتميز الطغاة دائما فيه“[6] وفقا لنظرية جين شارب. تشبث المحتجين بمبدأ السلمية عنصر قوة، وتعبيرا منهم عن مشروعية مطالبهم بشكل حضاري سلمي ومنظم، مما جعل الدولة المغربية تفشل في تلفيق تهمة العنف والتخريب للمحتجين. وذلك نظرا لأن العنف يعتبر مبررا كافيا لإعطاء الدولة ضوء أخضر للإجهاز على المحتجين والزج بهم في غياهب السجون، بدعوى حفظ الأمن والاستقرار، وحماية الممتلكات العامة والخاصة. وهذا هو عنصر القوة بالنسبة للحركات الديمقراطية في العالم حسب “جين شارب“، ذلك نظرا لأن العنف مآلاته تكون مدمرة بالنسبة للشعوب، حتى في حالة انتصرت تلك الحركات على الأنظمة عن طريق العنف، فإنها تنتج لنا “نظام حكم أكثر دكتاتورية من النظام السابق الذي حاربوا ضده(…..) بسبب ضعف أو دمار مجموعات ومؤسسات المجتمع المستقلة – التي هي بمثابة العناصر الحيوية في إنشاء مجتمع ديمقراطي دائم– أثناء فترة النضال“[7]، فقوة الحراك في سلميته.
3) سياسة الترهيب ومحاولات الالتفاف:
لا تخرج أساليب تعاطي الدولة المغربية عبر تاريخها في التعاطي مع مختلف الحركات الاحتجاجية عن مقاربتين:
المقاربة الأولى: وهي مقاربة تنهجها كل الأنظمة الدكتاتورية وإن اختلفت شعاراتها ومسمياتها، قائمة على القمع والاعتقال وتلفيق التهم، إذ “ينشغل المستبد بإقامة العوائق الجزئية أكثر من انشغاله بحرية رعاياه“[8]. لذلك بدل التفاعل مع تلك المطالب والاستجابة لها، حشدت الدولة المغربية جحافل من قوى الأمن والدرك الحربي، وأقامت مستشفى عسكريا على مداخل مدينة الحسيمة، كما لو أنها أعلنت الحرب على عدو خارجي. لم يقتصر فعلها على ذلك، بل وظفت أحزاب الأغلبية للإدلاء بتصريحات تشيطن وتخون جزءا من أبناء الشعب المغربي، وهي نفس التهمة التي يواجه بها أي مستبد خصومه. قال أليكسيس دو توكفيل: “فما أيسر على المستبد أن يغفر لرعاياه عدم حبهم له إياه، ماداموا لا يحبون بعضهم بعضا؛ فهو لا يسألهم أن يعاونوه على النهوض بأعباء الدولة(…)، وإنه ليدمغ الدين يجمعون صفوفهم جهودهم ليتعاونوا على إسعاد البلاد، بأنهم متمردون، دعاة الاضطراب والفرقة، فنراه يحور معاني الألفاظ عن مواضعها فيمدح من لا يكترثون لأحد سوى أنفسهم فيسميهم بالمواطنين الصالحين“[9]، فالوطنية حسب معايير النظام المغربي هي عدم الالتفات للشأن العام، والخضوع المطلق لإرادة الحاكم. وهذا ما جسده تصريح أحزاب الأغلبية بعد اجتماعها بوزير الداخلية باتهامها للاحتجاجات بالنزعة الانفصالية وتلقي دعم من الخارج. إن اتهام الحراك بالعمالة والنزعة الانفصالية أسطوانة مشروخة، حيث أصبحت هذه التهمة ترفع في وجه كل من طالب بحقه في العيش الكريم، وتحقيق الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، وهذا ما فندته تصريحات الشباب الريفي وعبروا عنه في مسيرة الخميس 18/05/2017، رافضين تلك التهم ومطالبين بمحاكمة رئيس الحكومة الذي دعا في تصريحات سابقة مسجلة على موقع youtube إلى منح منطقة الريف حكما ذاتيا. وهي التهمة التي نفتها وسائل الإعلام الرسمية نفسها، حيث أدرجت القناة الأولى المغربية مسيرة الخميس 18/05/2017 ضمن نشرتها الإخبارية المسائية، معتبرة تلك المسيرة بأنها سلمية ومنظمة تنظيما محكما. وهذا يجعلنا نطرح عدة تساؤلات. هل حديث الإعلام الرسمي عن حراك الريف يمكن اعتباره نقطة انعطاف في التعاطي مع مطالب الحراك؟ أم أن الدولة دفعت أحزاب الأغلبية لتلك التصريحات من أجل ضرب مصداقيتها وإحراجها أمام منتخبيها وقواعدها؟ وهل يمكن اعتبار إصرار أبناء الريف على المشاركة بكثافة رغم الحصار والترهيب الذي مارسته أجهزة الدولة قلب المعادلة ودفع الدولة إلى التراجع عن الخيار الأمني مرحليا؟
المقاربة الثانية: يتميز النظام المغربي بخبرة طويلة في التعامل مع الأزمات والاحتجاجات، مما جعله أكثر ذكاء من غيره في التعامل معها، والانحناء للعاصفة حتى تضع الرياح أوزارها، مستعملا أسلوب الترغيب بدل الترهيب من أجل احتواء تلك الاحتجاجات عن طريق سلسلة من اللقاءات والمفاوضات التي تستهدف الحد من فاعلية الحراك، وفقدانه لعناصر القوة تدريجيا، وانتهاج سياسية التسويف والتماطل، نظرا لكون جل الحركات الاحتجاجية تفقد قوتها وزخمها عندما تطول مدة الحراك. إضافة إلى زعزعة الثقة بين مكونات الحراك وقياداته، ونشر الإشاعات وتشويه الحراك عبر الصحافة المأجورة. لكن هذه المرة وقع العكس فقد أدى تماطل الدولة في تلبية مطالب الحراك إلى تمدده وانتقاله إلى مدن جديدة، مطالبة بالتوزيع العادل للثروة وتحقيق الكرامة والحرية. رافضة كل أشكال التهميش والإقصاء والفساد المستشري في كل مفاصل الدولة، ناهيك عن التراجعات التي عرفتها الدولة المغربية على المستوى الحقوقي، ممثلة في التضييق على حرية الصحافة، واعتقالات في صفوف نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وإعفاءات لموظفين في قطاعات عمومية من وظائفهم دون سند قانوني، بسبب انتماءاتهم السياسية. لم تحترم الدولة في هذه الإجراءات المساطر القانونية المنظمة للوظيفة العمومية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
خلاصة:
فوتت الأنظمة العربية على نفسها فرصة الإصلاح والتغيير مرات عدة، ولاتزال لم تدرك أن قضية التغيير مسألة وقت فقط، كلما تم تأجيلها ستكون التكلفة باهظة الثمن، كما قال عالم المستقبليات المهدي المنجرة رحمه الله. ويشكل الاستبداد أهم عقبة أمام التغيير والتنمية في البلدان المتخلفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، “لأن العائق الأسوأ بالنسبة للحرية، وبالنسبة للتحديث أيضا هو الاستبداد السياسي، سواء كان من نمط إطلاقي تقليدي، أو من نمط كلياني أو من نمط سلطوي فقط”.[10] والخيار الذي أمام الشعوب، هو كسر حاجز الخوف، والمقاومة السلمية عبر الشارع لكل أشكال الهيمنة والتسلط، لأن الحقوق تنتزع ولا تعطى، والسبيل إلى النصر هو الاعتماد على النفس وتقوية حركات النضال في ربوع الوطن، وهذا ما دعا إليه تشارلز ستيوارت بارنل خلال إضراب في إيرلندا عن دفع الأجور عام 1879 وعام 1880: “لا يفيد الاعتماد على الحكومة… عليكم الاعتماد فقط على عزيمتكم… ساعدوا أنفسكم خلال وقوفكم معا…امنحوا ضعفائكم القوة… وتوحدوا ونظموا صفوفكم … لكي تنتصروا[11]. فقوة الشارع هي القادرة على تحقيق المطالب إن استمرت وتماسكت مكوناتها وتضامنت فيما بينها.
[8] جون إهزنبرغ: المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة، ص 283.