طارق ليساوي يكتب: هكذا تشتغل الديمقراطية بخصائص صينية..
مناسبة تناول هذا الموضوع والعودة مجددا إلى الشأن الصيني هي إعادة انتخاب الرئيس الصيني لولاية ثالثة، خاصة وأني تلقيت دعوة للمشاركة في برنامج حواري حول مخرجات المؤتمر 20 للحزب الشيوعي ودلالات إعادة انتخاب الرئيس الصيني “شي” مجددا، وخاصة بعد الجدل الذي أثاره مقطع فيديوتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام يظهر فيه الرئيس الصيني السابق “هوجينتاو”، وقد تم اقتياده من قبل شخصين بشكل غير مألوف، مما أثار التكهنات عن الأسباب التي لم توضحها بكين وقتها أووسائل الإعلام الرسمية…
ولعل هذا المشهد الذي كان عفويا وتم نقله على وسائل الإعلام الدولية، زحزح صورة الصين وديمقراطيتها الشعبية، ونموذجها السياسي الفريد والذي لا يصلح إلا للصين لا غيرها.. لكن في تحليلي هذا سأحاول نقل القارئ العربي باتجاه فهم الرؤية الصينية لبعض المفاهيم الكونية كالديمقراطية والحريات المدنية والسياسية، فعلى أرض الصين كل المفاهيم والقيم ينبغي أن تخضع للخصائص الصينية…
أولا – الديموقراطية بخصائص صينية..
وفي هذا الصدد لابد من التمييز جيدا بين الديمقراطية وفق المفاهيم الغربية وبين الديموقراطية بخصائص صينية، والتي يصطلح عليها في الصين بالديمقراطية الشعبية، وبحسب الفهم الصيني “فإن الديمقراطية الغربية تبالغ في التأكيد على الشكليات على حساب الجوهر والإجراءات على حساب النتائج، والديمقراطية الشعبية تمزج بي الديمقراطية الإجرائية والديمقراطية الموضوعية، والديمقراطية المباشرة مع الديمقراطية غير المباشرة. كما أنها تمزج بين الحقوق الديمقراطية للمواطنين مع إدارة الدولة الفعالة.. “ديمقراطية الشعب هي ديمقراطية تعمل على معالجة المشاكل العملية للناس “..
وبحسب الإحصائيات التي قدمها الحزب الشيوعي الصيني، يوجد في الصين أكثر من 2.62 مليون نائب في المجالس الشعبية على المستويات الوطنية والإقليمية والمدن والمقاطعات والبلدات، وجميعهم منتخبون من قبل الشعب، ويتم تمكين الشعب في الصين للمشاركة على نطاق واسع في شؤون الدولة، وخاصة الحكم على المستوى المحلي، لممارسة حقوقهم الدستورية.. ومنذ المؤتمر الوطني الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، تمت دعوة الجمهور للتعليق على 187 مشروع قانون. تم جمع حوالي 1.1 مليون تعليق، مع أكثر من 3 ملايين اقتراح، عند تجميع القانون المدني لجمهورية الصين الشعبية، طلبت الحكومة الصينية من الجمهور تقديم المشورة عشر مرات على الموقع الرسمي للمؤتمر الوطني لنواب الشعب، حيث تلقت أكثر من 1.02 مليون رأي واقتراح من 425000 شخص، قد تم تبني العديد منها في وقت لاحق.. وبهذه الطريقة، يتم استيعاب أصوات الصينيين بالكامل، وهم بذالك يصبحون حقًا أسياد البلاد.
وفي هذا الصدد أشار الرئيس شي جين بينغ إلى أن الديمقراطية ليست زخرفة تستخدم لأغراض التزيين. بدلاً من ذلك، تتعلق الديمقراطية بحل القضايا للناس…”إن الديمقراطية الصينية الشاملة للعملية الشعبية ليست استعراضًا أو وعدًا فارغًا، إنها حقًا تجعل الناس سعداء وتحسن رفاهيتهم.. في العقود الماضية، كان بإمكان الشعب الصيني المشاركة في الشؤون السياسية للدولة بشكل فعال وشامل في كل خطوة على الطريق.. يمكنهم التعبير عن مخاوفهم. من شيء صغير مثل الاحتياجات اليومية إلى شيء كبير مثل الإصلاح والتنمية الوطنيين، تنعكس إرادة الشعب الصيني إلى أقصى حد.. من خلال نظام ديمقراطي جيد التنسيق وفعال على مختلف المستويات “…
وتم اقتراح مفهوم “الديمقراطية الشعبية بعملياتها الكاملة” في نوفمبر عام 2019 وذلك خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لمركز قوبي المدني في شانغهاي، حيث اقترح شي ولأول مرة أن تتبع الصين “طريق التنمية السياسية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وأن الديمقراطية الشعبية هي نوع من الديمقراطية بعملياتها الكاملة”. وفي مارس عام 2021، تمت كتابة المفهوم السياسي الرئيسي لـ”الديمقراطية بعملياتها الكاملة” رسميا في القانون الأساسي للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، والذي أقره المجلس الوطني لنواب الشعب.
إن “الديمقراطية الشعبية بعملياتها الكاملة” تُمكّن الشعب من المشاركة في صنع القرار والقيام بشكل فعلي في توجيه الحكم في البلاد، حيث تتمتع الصين بميزة مختلفة عن بقية الدول التي تسعى إلى تحقيق هذا النوع من الديمقراطية، كونها تطبقها على 1.4 مليار نسمة بتنوع كبير يشمل 56 قومية، وتتميز بتماسك كبير بين أبناء هذه القوميات رغم اختلافهم، وذلك يعود إلى الحنكة في الإدارة الصينية في جعل كل القوميات تتمتع بتوجهها الخاص، وأيضا في طريقة الحكم في البلاد والتقسيم الإداري للمناطق منها مناطق ذات حكم ذاتي، وأخرى تقوم على مبدأ “دولة واحدة ونظامان”، وفي كل الأنظمة الداخلية للبلاد وتنوعها، يتمتع فيها الشعب بالنصيب الأهم ضمن مخططات وسياسات الدولة.
ثانيا- تحديث ورفع كفاءة وفعالية الحزب الشيوعي الصيني ..
لفهم الصين وصعودها الحالي لابد من التركيز على التحولات التي شهدها الحزب الشيوعي الصيني عبر حقب مختلفة بدأ من ثورة التحرير مرورا بسياسة القفزة الكبرى والثورة الثقافية تم مرحلة الإصلاح والانفتاح، واليوم تم إضافة مرحلة جديدة “مرحلة الرئيس شي”، ومن المؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني نجح في إخراج الصين من أزماتها المختلف وتمكن من توسيع خيارات الشعب الصيني، والمؤشرات الكمية تدل على ذلك، فقد نجح في تحقيق نمو اقتصادي سريع مع الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي طويل الأمد، وتم انتشال أكثر من 800 مليون صيني من براثن الفقر المدقع، مما يعني أن الصين نجحت في بناء مجتمع رغيد الحياة بشكل معتدل في جميع الجوانب وهي الآن في طريقها نحو الازدهار المشترك. أنشأت الصين أيضًا أكبر نظام ضمان اجتماعي ونظام رعاية صحية في العالم، بحيث يغطي أكثر من 1.3 مليار شخص، وتم إنشاء أكثر من 10 ملايين فرصة عمل جديدة كل عام لمدة 15 سنة متتالية، وهو رقم يعادل عدد سكان دولة متوسطة الحجم.. وبعد اندلاع كوفيد 19، وضعت الصين الناس وحياتهم في المقام الأول، وكانت الأولى في العالم للسيطرة على الفيروس…
وهذه الفعالية نتاج لعملية التحديث التي شهدها الحزب بعد وفاة “ماوتسي تونغ”، فالحزب غير خطابه السياسي وابتعد بالتدريج عن الخطابات الديماغوجية، مع التركيز على خطاب براغماتي يراعي مصالح الصين الداخلية والخارجية، ويطمئن الداخل كما الخارج على أن عجلة الإصلاح لن تتوقف. وهو ما يعني أن هناك إمكانية للتحول إلى مرحلة البناء الديمقراطي والتحديث السياسي، بعد أن يتم استكمال مسلسل التحديث الاقتصادي…
هذا إلى جانب أن الحزب حاول توسيع نفوذه بالداخل والخارج، عبر الاستثمار الكثيف في وسائل الإعلام والاتصال، فالحزب يتوفر اليوم على أكبر شبكة إعلامية في العالم تستقطب كفاءات إعلامية، لا تقل كفاءة عن ما هو موجود في باقي البلدان المتقدمة. ويحاول من خلال البنية التحتية الإعلامية أن يحسن صورته في الداخل والخارج، ويسوق صورة الصين باعتبار أن ما تحقق من انجازات هو نتاج لعبقرية الحزب … في نفس الوقت، فهو يعمل على مواجهة النقد الموجه له بتبني نظام صارم للمراقبة الالكترونية، والتحكم في الشبكات الاجتماعية …
وبتحليل انتماءات أعضاء الهيئات القيادية في الحزب المنبثقة منذ المؤتمر الوطني السادس عشر، يمكن القول بأن الحزب يعرف تعايش فصيلين في إطار ما يمكن تسميته بـ “كيان واحد، بفصيلين “.. الفصيل الأول هو”الائتلاف النخبوي” أو”زمرة شنغهاي” التي تضم بشكل رئيسي المسئولين المنحدرين من المناطق التي حققت ازدهارا اقتصاديا وخاصة المقاطعات الساحلية. والفصيل الثاني هو لائحة “الائتلاف الشعبي” أو”عصبة الشبيبة ” والتي تتكون أساسا من المسؤولين الذين صعدوا من المناطق الداخلية الريفية. وإذا كان الفصيل الأول ينحو باتجاه تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية، ويدعو إلى المزيد من الانفتاح. فان الفصيل الثاني يدعو الدولة إلى مزيد من التدخل، والى تبني سياسة تنموية أكثر توازنا، كما يدعو الحكومة إلى تخصيص المزيد من الموارد للنهوض بالمشاريع الاقتصادية والاجتماعية في الوقت الذي يدعو فيه الفصيل الأول إلى تقليص الإنفاق الحكومي…
ثالثا- الرئيس شي و”إعادة بعث الأمة الصينية”
الحزب الشيوعي الصيني سوف يتقوى أكثر مع صعود نجم الرئيس الحالي “شي” والذي طرح منذ صعوده للسلطة عام 2012 رؤيته عن مستقبل الصين والتي تحمل اسم “حلم الصين” في إطار مشروع “إعادة بعث الأمة الصينية”، وقد نجح في إجراء إصلاح اقتصادي ساهم في الحدّ من تراجع النمو الاقتصادي وتحجيم ملكية الدولة للصناعة ومكافحة التلوث وتنفيذ مشروع النقل البري العملاق “طريق الحرير”، وخلال عهده فرضت الصين سيطرتها على بحر الصين الجنوبي رغم المعارضة الدولية وعززت نفوذها على الصعيد العالمي عن طريق ضخ مليارات الدولارات في القارة الأفريقية والآسيوية، ترافق ذلك مع نمو المشاعر القومية التي حضت عليها وسائل الإعلام الحكومية مع التركيز على شخصية “جينبينغ” إلى درجة أن البعض اتهموه بأنه يقود حملة إعلامية لتأليهه أسوة بالزعيم الراحل “ماوتسي تونغ”…
ومن الصعب أن نصنف الزعيم الصيني الحالي ضمن هذا الفصيل أو ذاك، صحيح أن بداية صعود نجمه كان في شانغاي، لكن مواقفه التي أعلن عنها منذ صعوده للسلطة في العام 2012، أعطته شعبية واسعة في صفوف عامة الشعب، وقد استطاع الزعيم الصيني أن يعزز موقعه ويبسط سيطرته على الحزب الشيوعي وأصبحت أفكاره جزء من دستور البلاد، وهو ما لم يحظى به سوى “ماوتسي تونغ” و”دينغ شياوبينغ” وبالتالي فإن معارضته باتت بمثابة الوقوف ضد الحزب الشيوعي الحاكم، فلم يسبق أن ربطت أسماء الزعماء بأيديولوجياتهم إلا في حالتي “ماوتسي تونغ” و”دنغ شياوبينغ”، ولم تتم إضافة اسم “دنغ” إلى الدستور إلا بعد وفاته..
وبحسب أدبيات الحزب الشيوعي ووسائل الإعلام الصينية فإن الزعيم الصيني يقود المرحلة الثالثة من العصر الحديث، فالمرحلة الأولى التي تزعمها “ماو” كان هدفها توحيد البلاد عقب حرب أهلية طاحنة، أما المرحلة الثانية التي قادها دنغ فركزت على إثراء البلاد. وتتسم المرحلة الثالثة التي يقودها الرئيس “شي” بتعزيز الوحدة والثراء وجعل الصين أكثر انضباطا داخليا وخارجيا.
فقادة الحزب الشيوعى الصينى يدركون أن هناك مشاكل خطيرة تواجه الحزب فالفساد الذي يستشري بهياكل الإدارة التي يهمن عليها الحزب، أصبحت تفقده ثقة الشعب الصيني . وهو ما دفع قادة الحزب إلى مناقشة هذه القضية في جلسات مغلقة خلال الدورة الكاملة الرابعة للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر 2009، وخلصت هذه الجلسة إلى ضرورة أن يقدم المسئولين في الحزب والحكومة، لائحة تتضمن تفاصيل عن مقتنياتهم وممتلكاتهم خلال كل سنة، وذلك لتقليص من حدة النقد الذي أصبح يوجه إلى الأغنياء الجدد . كما أطلق الرئيس الحالي “شي” حملة لمحاربة الفساد وأطلق عليها اسم “النمور والذباب” وشملت أكثر من مليون شخص من كبار وصغار مسؤولي الحزب…
وعلى الرغم، من وابل الانتقادات التي توجه إلى هذا الحزب، إلا أن الأغلبية الساحقة من الصينيين يرون بأن الحزب شهد تحولات عميقة، باتجاه احترام حقوق الإنسان وتحسين معيشة الشعب الصيني. فمن المؤكد لدى الجميع أن الانتهاكات الحالية هي أقل بكثير مما وقع قبل عقود.
كما أن الحزب استطاع أن يحسن صورته الداخلية والخارجية، خاصة وان العديد من القادة الحاليين ليس فقط لا علاقة لهم بما جرى من انتهاكات في الماضي، بل إنهم كانوا ضحايا لتلك الحقبة.. كما أن الحزب أخد يستثمر نجاح سياساته في تحسين الأداء الاقتصادي لترسيخ نفوذه السياسي، لاسيما في أوساط الشباب .. فالواقع يؤكد، على أن أداء الحزب على مختلف المستويات كان أفضل من الأنظمة السابقة، وأفضل من أداء العديد من الحكومات التي تتبنى النهج الديمقراطي. كما أن الحزب يحاول منذ نحو عقدين استقطاب الأرياف من خلال اتخاذه لتدابير واسعة لاستعادة نفوذه بالريف الصيني .
بالإضافة إلى ذلك، فالصين لم تعمل وفقا لنظام ديمقراطي لا مركزي عبر تاريخها الطويل، وبالتالي فإن نمط الحكم الحالي، حتى وإن كان لا يرقى إلى معايير “الديمقراطية الغربية”، فهو يظل أفضل خيار ممكن إذا ما قورن بالبدائل المتاحة، فالانتقال المفاجئ إلى الديمقراطية، قد يؤدي إلى اضطرابات اقتصادية وسياسية كما حدث في الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي.
فالنظام السياسي الصيني يكرر في خطاباته عبارة الديموقراطية أكثر مما هو حاصل في أعرق الديموقراطيات، فمثلا في تصريح للرئيس الصيني “شي” أمام المؤتمر الوطني 20 للحزب الشيوعي الصيني قال ” تقدمنا بخطوات هامة في بناء الديمقراطية وحكم القانون، طورنا بنشاط السياسة الديمقراطية الاشتراكية، ودفعنا حكم الدولة وفقا للقانون على نحو شامل، وعززنا بشكل شامل بناء نظام التوحيد العضوي بين التمسك بقيادة الحزب وكون الشعب سيدا للدولة وحكم الدولة طبقا للقانون، وأكملنا نظام وآلية قيادة الحزب باطراد، وواصلنا تطوير الديمقراطية الاشتراكية، ووسعنا الديمقراطية داخل الحزب إلى حد أكبر، وطورنا الديمقراطية التشاورية الاشتراكية على نحو شامل…”
فهل الديموقراطية مجرد كلام أم ممارسة على الأرض؟ ممارسات الحزب الشيوعي والقيادة الصينية إبان أزمة كورونا وأسلوبها في التعامل مع مدينة “ووهان” وباقي المقاطعات الموبوءة، وممارسات الحزب الشيوعي ضد أقلية “الإيغور” المسلمة في إقليم شنجيانغ، تعطينا صورة واقعية عن الديموقراطية بخصائص صينية.. ولتفادي الإطالة سوف نخصص المقال الموالي إن شاء الله تعالى لتحليل ونقذ الديمقراطية بخصائص صينية.. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
ـ إعلامي أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..