محمد الشرقاوي يكتب: إلى أين تتجه قضية الصحراء بعد جلسة مجلس الأمن؟

هي حقبةٌ مفصليةٌ في تطوّر السياسة الدولية بفعل ثلاثة عوامل رئيسية: أوّلها، كثافةٌ قياسيةٌ في سير الأحداث والتقلبات السياسية بشكل شبه يومي إلى حدّ يصعب تتبّعها على صفحات الجرائد والقنوات التلفزيونية. ثانيا، نسقٌ متسارعٌ في تلاحق هذه الأحداث وتأثيرُها المتزايد سياسيا واقتصاديا وثقافيا على الدول العربية. وتتزايد حاليا وتيرةُ التطوّرات السياسية بفعل استراتيجيات الدول الكبرى وتحالفها أو تنافسها مع بعض القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران، فيما تقف دول الخليج والشرق الأوسط والمغرب الكبير تتأمل خياراتها للتعامل مع هذه التحديات الاستراتيجية. ثالثا، وهذا هو الأهم، التقاطعُ المتنامي بين ما هو إقليمي وما هو دولي، ومدى قابلية العواصم العربية للتأثر أو المجاراة مقابل السؤال الموازي: ما هو نصيبها أو ما هي قدرتُها الفعلية على التأثير في هذه الديناميات الجديدة في العلاقات الدولية، واستراتيجيات الدول العظمى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، والتحالفات الدولية كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وسط تعثر الأمم المتحدة في تسوية الصراعات المفتوحة من سوريا إلى تصعيد الموقف بين الجزئر والبوليساريو والمغرب حول مستقبل الصحراء.
في هذه المقالة، أتناول حصيلة جلسة مجلس الأمن في نيويورك في الحادي والعشرين من أبريل بشأن الجديد في إدارة صراع الصحراء، وسياق الديناميات الأخيرة بين المغرب وجبهة الوليساريو والجزائر، وكيف غطّت بظلالها على المناقشات بين المندوبين الخمسة عشر وموقف حكومة الرئيس بايدن، وما يمكن استشرافه خلال الأشهر السبعة المقبلة بانتظار عقد الجلسة السنوية في أواخر أكتوبر المقبل لتحديد مصير والمدة الزمنية لبعثة المينورسو، والتي تحوّلت بحكم الأمر الواقع من بعثة لتنظيم الاستفتاء إلى قوة دولية لمراقبة وقف إطلاق النار بين الطرفين.
سخونةٌ في الميدان.. وطرحٌ اعتياديٌ في المجلس!
شهدت جلسة مجلس الأمن الدولي سجالا محتدما بين موقفين أو بالأخرى بين خطابين: أقرّ الأوّل بأن هناك وضعا متأزما للغاية يثير الخشية من أعمال تصعيدية محتملة ومغبة دخول الأزمة مرحلة المواجهة. وقد عبرت عن هذا القلق مندوبة الولايات المتحدة ليندا توماس غرينفيلد التي اقترحت على المجلس نشر بيان يدعو ل”تجنب أعمال التصعيد”. لكن هذا الاقتراح الأمريكي شهد معارضة بعض الدول دائمة وغير دائمة العضوية، وبرّر مندوبو الصين والهند وكينيا ودول أفريقية أخرى مواقفهم بالخشية من أنه سيثير “مجموعة من التأويلات” بين أطراف الصراع، وقد يؤدي إلى “نتائج عكسية.”
أما الخطاب الثاني فانطوى على تعامل اعتيادي أو تقليدي من قبل مجلس الأمن على غرار السنوات السابقة، بينما ظهر منذ الثالث عشر من نوفمبر الماضي عنصر جديد وهو تحلل البوليساريو من الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار بعد ثلاثين عاما من التوصل إليه عام 1991، أي أنها حقبة تخرج عن مقومات الهدنة العسكرية والسياسية بين الأطراف. وقد تركزت رؤية المغرب والبوليساريو والجزائر بشكل منشطر بين التطورات الميدانية والمناورات الدبلوماسية: عينٌ على الجدار الرّملي على طول الحدود، وعينٌ أخرى على نيويورك مقرّ الأمم المتحدة منذ أزمة الگرگرات في نوفمبر والإعلان الرئاسي لدونالد ترمب بشأن الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء في العاشر من ديسمبر الماضي. وتطور الوضع في الصحراء من صراع خامد شبه مستقر لمدة ثلاثين عاما إلى ما يصنف بأنه Low-intensity conflict صراع منخفض الحدّة بفعل ثلاثة تحولات رئيسية: أوّلها، تزايد الزخم في التنافس السياسي ومستوى التسلّح بين الأطراف الثلاثة ومنها استخدام طائرة مسيّرة من قبل المغرب في استهداف رئيس جهاز الدرك في جبهة البوليساريو الداه البندير في الثامن من أبريل الجاري. ثانيا، تحّول التصعيد بين الجزائر والرباط إلى معركة وجود بالنسبة لكافة الأطراف. ثالثا، تغير ميزان القوة الذي كان شبه مستقر خاصة منذ نشر بعثة المينورسو في سبتمبر عام 1991. ويزداد القلق من أي عمل انتقامي على اغتيال الداه البندير واستخدام قذيفة صاروخية للمرة الأولى في الأعوام الثلاثين الماضية. وقد استعرض جوناثان همبل في صحيفة هآرتس الإسرائيلية في الحادي والعشرين من مارس كيف اقتنت القوات الجوية المغربية ثلاث طائرات بدون طيار من طراز Heron صنعتها شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية بتكلفة 50 مليون دولار، تمّ تسليمها إلى المغرب عبر وسيط في فرنسا في يناير الماضي. وقد طلب المغرب من حكومة الرئيس السابق ترمب صفقة بأربع طائرات مسيرة بقيمة مليار دولار.
اكتفى مجلس الأمن الدولي بإقرار بيان مقتضب بثلاث فقرات مركزة تنم عن المنطق الدولي الحالي في التعامل مع صراع الصحراء. فدعت الفقرة الأول للتعاون البناء مع بعثة المينورسو، وهي دعوة مباشرة إلى المغرب والبوليساريو للتعاون عن كثب مع هذه القوة الدولية كأولوية أساسية في هذه المرحلة. ودعت الفقرة الثانية للتعجيل باختيار ممثل شخصي للأمين العام للأمم المتحدة، فيما نصت الفقرة الثالثة على ضرورة استئناف المفاوضات المباشرة بين أطراف الصراع، وأهمية التفاعل الإيجابي. هكذا طرح مجلس الأمن استراتيجية الأمم المتحدة على الطاولة في هذه المرحلة. وقد ركز الموقف الأمريكي أكثر من غيره على الخشية من احتمال حدوث أعمال تصعيدية، لكنه لم يَرْقَ إلى مستوى توقعات أطراف الصراع، سواء بالنسبة للبوليساريو أو المغرب أو الجزائر.
يمكن القول إن من كان يعوّل على إعلان عدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار من قبل البوليساريو طمعا في أن يضع مجلس الأمن الدولي في أول جلسة تقييمية للوضع أمام واقع جديد، بمعنى أن غياب الهدنة من المنطقة سيحوّل اهتمام أعضاء مجلس الأمن وأنهم سيقرّرون اتخاذ قرارات جديدة، وهو أمر لم يحدث. في المقابل، لم يرق الموقف الأمريكي وإنْ دعا لتجنب أعمال التصعيد إلى توقعات المغرب بشأن تزكية قرار الرئيس السابق دونالد ترمب بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء قبل أكثر من خمسة أشهر. ولم تذكر السيدة غرينفيلد أي شيء عن قضية الاعتراف، فيما اكتفت بضرورة تجنب التصعيد، وأقرّت الفقرات الثلاث، وهي التعاون من المينورسو، وتعيين مبعوث جديد، واستئناف المفاوضات المباشرة. وهذا هو مآل الاستراتجيات المتنافسة التي اعتمدتها الأطراف بين نهاية حقبة الرئيس ترمب وبداية حقبة خلفه بايدن.
كيف تتنافس قضية الصحراء على انتباه البيت الأبيض؟
إذا ركزنا على تطور الموقف الأمريكي، وإلى أي حد تفرض قضية الصحراء ذاتها على السياسة الخارجية الأمريكية وبلورتها من قبل الرئيس بايدن ووزير الخارجية بلينكن ومستشار الأمن القومي سليفان، يمكن القول إن هناك اهتماما معتدلا إلى حد ما على أساس أنه هناك مبادرة أمريكية تسترعي الانتباه إلى الأعمال التصعيدية المحتملة، أو حدوث أعمال انتقامية وما شابهها. لكن صراع الصحراء ليس على قائمة الأولويات لدى البيت الأبيض إذا قارناه بموقف الرئيس بايدن من الأزمات الأخرى. هناك تركيزٌ معلنٌ في واشنطن على إنهاء الحرب في اليمن، والتفاوض مع الإيرانيين بشأن استئناف العمل بالاتفاق النووي، وتحقيق مصالحة سياسية شاملة بين طالبان وحكومة الرئيس غاني في أفغانستان، وتسوية الوضع في إقليم تيغيري في إثيوبيا وبقية القلاقل في القرن الأفريقي. فقرر الرئيس بايدن عقب دخوله البيت الأبيض تعيين مبعوثين أمريكيين إلى هذه الأزمات، ومنهم تيم ليندركينغ مبعوثا إلى حرب اليمن، وروبرت مالي مبعوثا إلى قضية إيران. وهناك حاليا احتمال قوي بتعيين جيفري فلتمان، الذي كان مدير الدائرة السياسية في الأمم المتحدة ومن قبل كان الرجل الثالث في وزارة الخارجية، مبعوثا إلى القرن الأفريقي. ليس هناك حديث بالأهمية ذاتها عن صراع الصحراء مقارنة بتلك الأزمات الأخرى التي تسعى حكومة بايدن لاحتوائها أو بلورة سياسة مغايرة بشأنها في هذه المرحلة.
من الجليّ أن حكومة بايدن ليست في عجلة من أمرها لإعلان موقفها بعد بشأن الاعلان الرئاسي لدونالد ترمب. ففي التاسع والعشرين من مارس الماضي، عقد وزير الخارجية أنثوني بلينكن والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش محادثات عن بعد حول عدة قضايا تعتبرها حكومة بايدن ذات الأولوية في المنظمة العالمية، وعلى رأسها تكريس معايير حقوق الإنسان، والتنسيق المكثف من أجل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في أفغانستان، وأهمية تحديد وتوسيع آليات إيصال المعونات إلى السوريين، والجهود الرامية لتأمين ممر المساعدات الإنسانية في إثيوبيا، وضرورة انسحاب القوات الإريترية من إقليم تيغري. وبخصوص صراع الصحراء، شدد بلينكن على تأييد الولايات المتحدة للمفاوضات السياسية بين الأطراف، وحث الأمين العام على التسريع بتعيين مبعوث شخصي له إلى هذا الصراع. ورحب بتشكيل حكومة انتقالية للوحدة الوطنية ومشروع إجراء الانتخابات في ليبيا في ديسمبر المقبل. وفي أحدث تعليق على قضية الصحراء في مارس الماضي، اكتفت المتحدثة باسم البيت الأبيض جينفير ساكي بالقول “نحن نراجع جميع – العديد من مواقف ترامب، بما فيها اتفاقيات أبراهام. لكن ليس لدي جديد اليوم للردّ على سؤالك اليوم” في إجابتها على سؤال أحد المراسلين.
قبل أسبوع من جلسة مجلس الأمن، نظم بعض أصدقاء المغرب ندوة في نيويورك لحث حكومة بايدن على تأييد الاقتراح المغربي بشأن منح الصحراء حكما ذاتيا موسّعا. وقال إيريك جونسون الرئيس الأسبق لبعثة المينورسو بين عامي1993 و 1998. وقال السيد جونسون إنّ إعلان الرئيس ترمب بشأن سيادة المغرب على الصّحراء “يعطي دفعة حتمية” لحلّ النزاع الإقليمي حول الصحراء الذي طال أمده، وذلك بجلب “جميع الأطراف المعنية لمواجهة الواقع”. ويقول إيلان بيرمان نائب رئيس مجلس السياسة الخارجية الأمريكية، وهو مركز أبحاث في واشنطن، بعد زيارته المغرب بدعوة من وزارة الخارجية في الرباط، في مقالة رأي نشرها في مجلة نيوزويك إن من شأن قلب الإعلان الرئاسي لترمب “أن يوفر ذخيرة سياسية قوية للقوى المحلية (بما فيها القوى الإسلامية) التي طالما جادلت ضد التطبيع، وعلى نطاق أوسع، ضد الشراكة مع الغرب.”
استشراف عن قرب
تتجه الأنظار حاليا إلى معاينة الوضع الميداني وترقب مواقف الدول الأعضاء في مجلس الأمن خلال الأشهر السبعة المقبلة التي تفصل عن موعد الجلسة في التاسع والعشرين من أكتوبر المقبل. ويمكن اختزال التحديات الراهنة في مسألة من شطرين يُكمّلان بعضهما بعضا: الشطرُ الأول هو التركيز على ما يقوم به أعضاء بعثة المينورسو في مراقبة الوضع في الصحراء. وبالمناسبة كان كولن ستيورات وهو رئيس البعثة بمثابة القائم بأعمال المبعوث الشخصي للأمين العام أنطونيو غوتيريش خلال العامين الماضيين عقب استقالة كوهلر. ومن المرتقب أن يغادر ستيورات منصبه الصيف المقبل، وبالتالي تكون مشاركته في اجتماع الحادي والعشرين من أبريل آخر مناسبة له لتقديم إحاطته إلى أعضاء المجلس، وبالتالي ينبغي تعيين خلف له في المنصب بعد أشهر قليلة.
أما الشطر الثاني، فهو ضرورة اختيار مبعوث دولي جديد ودون تأخيرلعدة اعتبارات. ويبدو أن هناك قناعة ترسخت لدى جل، إن لم نقل كافة أعضاء مجلس الأمن، وهي أنه لن يمكن تحريك مسار المفاوضات السياسية المباشرة بين المغرب والبوليسايو إلا بعد أن يتولى المبعوث الدولي الجديد مهامه عمليا. وهنا نقف أمام عقدة منشار جديدة. فمنذ استقالة المبعوث السابق هورست كوهلر لأسباب صحية في ماي 2019، مرّ عامان ومجلس الأمن والأمين العام يبحثان عن بديل. واعترض المغرب والبوليساريو بنسب مختلفة على ترشيح عشرة من الشخصيات التي تمّ ترشيحها للمنصب، وكان آخرها وزير الخارجية البرتعالي السابق لويس أمادوا، ووزير خارجية رومانيا السابق بيتري رومان. ولم يعد لهولاء حظ حقيقي في أن يتولوا دور المبعوث الشخصي للأمين العام باعتراض من البوليساريو أم من المغرب أومن كليهما.
ما يتبقى الآن في يد الأمم المتحدة هو مراقبة ميدانية موثّقة، وأن يتسم موقفا الطرفين بالحكمة والرزانة بعدم الدخول في أي مواجهات أو أعمال مسلحة في المستقبل بهدف الحفاظ على وضع مستقر، واستئناف المفاوضات السياسية، والتحرك نحو نهاية اكتوبر لتحديد مصير المينورسو. لكن السؤال الصعب حاليا هو من سيكون الشخص النموذجي أو المرشح المثالي الذي يمكن التفكير فيه دون أن يثير حفيظة أي من المغرب أو البوليساريو أو كليهما بالنظر إلى أن طرفي الصراع أصبحا يدققان في كل شادة وفاذة في التصريحات والمواقف السابقى لأي مرشح سواء خلال تولي مناصب وزارية في دولهم أو مناصب دبلوماسية على الصعيد الدولي. وهنا يكمن التحدي الأساسي: لن يمكن الحديث عن فكرة المفاوضات إلا بتعيين مبعوث جديد، ولا يمكن التوافق على أي مرشح جديد إلا إذا اكتملت المواصفات وخفت الاعتراضات من قبل المغرب والبوليساريو. ويظل هذا المسار رهينا بفرضية أن تظل الأوضاع الميدانية هادئة دون مفاجآت تصعيد ساخن. لكن إذا حدث ما لا يحمد عقباه، أو تم إطلاق النار من أي طرف صوب الطرف الآخر، ربما ستصبح الأوضاع خارجة عن السيطرة، ونعود إلى السيناريو الأول وهو احتمال واقعي بالبحث عن آليات تجنب التصعيد التي دعت لها المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة.
- أستاذ تسوية الصراعات الدولية وعضو لجنة خبراء الأمم المتحدة سابقا.