كنت في الثانية والعشرين من عمري عام 1993 عندما تصافح إسحاق رابين وياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض للشروع رسميا في عملية السلام، وبموجبها كان يأمل كثيرون قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. ومنذ ذلك الحين وأنا أجادل من أجل حل الدولتين، أولا جلسات النقاش إلى غاية وقت متأخر من الليل، ثم المقالات والخطب.

كنت أؤمن بإسرائيل على أنها دولة يهودية لأنني نشأت في عائلة قفزت من قارة إلى أخرى حيث تفرقت الطوائف اليهودية في الشتات. شهدت تأثير إسرائيل على جدي وأبي، اللذين لم يكونا سعيدين أو آمنين، كما كان الحال حينما عزلا في مجتمع من اليهود. أدركت أيضا أن إسرائيل كانت مصدرا للراحة والفخر بالنسبة لملايين اليهود الآخرين، الذين عانت بعض عائلاتهم من صدمات أكبر من تلك التي اختبرتها.

ذات يوم من مرحلة الرشد المبكرة، تجولت عبر القدس وقرأت أسماء الشوارع التي تسرد التاريخ اليهودي، حينها اعتراني شعور بالراحة والفخر. كنت أعي أن إسرائيل مخطئة في حرمان الفلسطينيين من الجنسية في الضفة الغربية وضمان الحقوق وحرية الحركة بالإضافة إلى حق التصويت في البلد حيث يعيشون. لكن حلم حل الدولتين الذي يمنح الفلسطينيين دولة خاصة بهم، تركني مؤملا بالبقاء ليبراليا ومؤيدا للدولة اليهودية في نفس الوقت. لكن الأحداث أخمدت هذا الأمل.

حاليا يعيش حوالي 640 ألف مستوطن يهودي في القدس الشرقية والضفة الغربية، وقد قامت الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية بتجريد قيام الدولة الفلسطينية من أي معنى حقيقي. إذ تتصور خطة السلام التي صاغتها إدارة ترامب أرخبيلا من المدن الفلسطينية المتناثرة عبر 70 في المائة فقط من الضفة الغربية، تخضع للسيطرة الإسرائيلية، بل حتى الزعماء أحزب اليسار المعتدل الإسرائيلي لا يدعمون قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة تتوفر على مقومات الاستمرار. وللإشارة فإن الضفة الغربية تستضيف أحدث مدرسة إسرائيلية للطب.

تعهد بنيامين نتنياهو بفرض السيادة الاسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية، وإذا تحقق هذا، فإنه سيضفي طابعا رسميا على حقيقة دامت لعقود خلت: عمليا علمت إسرائيل منذ وقت طويل على ضم الضفة الغربية.

تملك إسرائيل كل شيء لكنها اتخذت قرارها: دولة واحدة تضم ملايين الفلسطينيين المجردين من حقوقهم الأساسية. والآن نحن الصهاينة الليبراليون يجب أن نتخذ قرارنا أيضا. لقد حان الوقت للتخلي عن حل الدولتين التقليدي وتبني هدف المساواة في الحقوق بين اليهود والفلسطينيين على حد سواء. حان الوقت لتصور وطن يهودي عوض دولة يهودية.

يمكن للمساواة أن تتحقق في شكل دولة واحدة تضم إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، كما اقترح كتاب مثل يوسف منير وإدوارد سعيد؛ أو يمكن أن تكون كونفدرالية تسمح بحرية الحركة بين بلدين مندمجين. وقد تكون عملية تحقيق المساواة طويلة وعسيرة، إذ من المرجح أن تواجه بمقاومة من المتعصبين الفلسطينيين واليهود.

هذا ليس محض أوهام، ذلك أن هدف المساواة أكثر واقعية من هدف الانفصال. والسبب هو أن تغيير الوضع الراهن يتطلب رؤية قوية كفاية لخلق حركة جماهيرية. وهذه الرؤية لا تتيحها الدولة الفلسطينية المجزأة تحت السيطرة الإسرائيلية. لكن المساواة يمكنها ذلك، حيث أن دولة واحدة متساوية ليست فقط امتيازا للشباب الفلسطينيين، بل هي أيضا امتياز للشباب الأمريكيين.

سيقول منتقدون إن دولة ثنائية القومية لن تنجح، لكن إسرائيل بالفعل دولة ثنائية القومية؛ حيث يعيش شعبان متساويان تقريبا في العدد تحت سيطرة مطلقة لحكومة واحدة. (حتى في غزة، لا يستطيع الفلسطينيون استيراد الحليب وتصدير الطماطم، أو السفر إلى الخارج دون الحصول على إذن من إسرائيل.) بالتالي فأدبيات العلوم السياسية واضحة: إذ تعيش المجتمعات المنفصلة في استقرار وسلمية أكثر عندما تمثل الحكومات جميع سكانها.

هذا هو الدرس المستخلص من تجربة أيرلندا الشمالية، عندما قام البروتستانتيون والحكومة البريطانية باستبعاد الكاثوليكيين، قتل الجيش الجمهوري الكل المقالاتأيرلندي ما يقدر بـ1750 شخصا بين عامي 1969 و 1994. لكن عندما أضحى الكاثوليكيون شركاء سياسيين متساوين، توقف العنف على نحو واسع. وذاك درس جنوب إفريقيا، حيث أيد نيلسون مانديلا الكفاح المسلح إلى أن فاز السود بحق التصويت.

ينطبق هذا الدرس على فلسطين وإسرائيل(…) ويثبت التاريخ أن العنف يتراجع عندما يحصل الناس على حريتهم. على حد تعبير مايكل ملكيور ، الحاخام الأرثوذكسي وعضو مجلس الوزراء الإسرائيلي السابق الذي قضى أكثر من عقد من الزمن في تشكيل علاقات مع قادة حماس: “لم أقابل حتى الآن شخصًا غير راغب في تحقيق السلام”.

أخبرني الحاخام ملكيور مؤخرا أنه لازال يؤيد حل الدولتين، لكن وجهة نظره تتجاوز أي تسوية سياسية معينة: وهي أن الفلسطينيين سيعيشون في سلام إلى جانب اليهود عندما يُمنحون الحقوق الأساسية.

أن يكونوا على بصيرة أمر صعب بالنسبة لكثير من اليهود بسبب ذكرى الهولوكوست. في عام 1988 كتب الباحث الإسرائيلي يهودا إلكانا، أحد الناجين من المحرقة، إن “ما يحفز جزء كبيرا من المجتمع الإسرائيلي في علاقتهم مع الفلسطينيين، ليس خيبة أملهم الشخصية، بل بالأحرى “الذعر” الوجودي العميق الذي يغذيه تأويل معين لدروس الهولوكوست.” بالتالي تدفع عدسة الهولوكوست العديد من اليهود إلى افتراض أن أي شيء عدا قيام الدولة اليهودية سيعني الانتحار اليهودي.

لكن قبل الهولوكوست، لم يؤمن بذلك الكثير من الرواد الصهاينة. لقد كتب مؤرخ الجامعة العبرية دميتري شومسكي في كتابه “ما بعد الدولة القومية”: “لم يكن التطلع إلى دولة قومية ضروريا لدى الحركة الصهيونية قبل أربعينيات القرن الماضي.” ثم أصبحت الدولة اليهودية الشكل المهيمن للصهيونية، لكنها ليست جوهر الصهيونية. بل جوهرها هو وطن يهودي في أرض إسرائيل، ومجتمع يهودي مزدهر قادر على توفير مأوى لليهود وضخ دماء جديدة في جميع أنحاء العالم.

هذا ما أحبه جدي ووالدي: ليس دولة يهودية ولكن مجتمع يهودي، وطن يهودي.

يمكن أن تكون إسرائيل وفلسطين وطنا يهوديا، ووطنا فلسطينيا على قدم المساواة أيضا. وبناء هذا الوطن يمكن أن يمنح الحرية، ليس للفلسطينيين فحسب، بل لنا أيضا.

• كاتب يهودي أمريكي وأحد أبرز وجوه الليبرالية الصهيونية
• المصدر: نيويورك تايمز