وجهة نظر l ماوراء الأخبار الزائفة.. أو لماذا تلجأ الحكومات إلى الكذب؟
1. جميع الحكومات تكذب
صاحب هذه الفكرة الأول هو الصحافي الأمريكي الذي تخصص في صحافة التحقيق في خمسينيات القرن العشرين إيزيدور فاينشتاين سطون STONE المعروف بلقب إيزي Izzy ويبدو أنه لم يخطئ حينما قالها لأن إطلاق الأخبار المزيفة ظل عبر التاريخ ولا يزال سلاحا في يد الحكام في العالم كله خاصة عندما يكونون في حاجة إلى أعذار وتبريرات لإطلاق عدوان عسكري.
أما وسائل الإعلام التقليدية فهي في كثير من الأحيان تصطف إلى جانب السلطة الحاكمة وتدافع عن قراراتها. على سبيل المثال ، في عام 2003 احتاجت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى مبررات من أجل غزو العراق فأكدت أن الرئيس صدام حسين كان متواطئا في هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة وأضافت أن العراق كان يخفي أسلحة الدمار الشامل. وعلى الرغم من الأدلة المختلفة على زيف هذه الادعاءات والتي أصبحت متاحة للجميع فإن وسائل الإعلام الرئيسية الأمريكية سارعت إلى مجاراة الرئيس بوش و ترديد اتهاماته الزائفة للعراق. بعد خمسة عشر عاما عن هذه الأحداث لا زالت الولايات المتحدة غارقة في المستنقع العراقي.
في شهر غشت من عام 1964 خدعت إدارة الرئيس ليندون جونسون الكونغرس الأمريكي عندما انتزعت منه تفويضا على شكل شيك على بياض يسمح له بتصعيد الحرب على فيتنام وذلك عندما لجأ هذا الرئيس إلى اختلاق قصة زائفة مفادها أن سفينتين من القوات البحرية الفيتنامية الشمالية هاجمت البواخر الحربية الأمريكية في “خليج تونكين”. كان هذا القرار الذي صوت عليه النواب الأمريكيون هو الأساس القانوني لحرب مدمرة دامت أحد عشر عاما سقط خلالها ملايين الضحايا المدنيين من الفيتنام الشمالي والجنوبي. قبل هذا التصويت لم ينتفض إلا عضوان اثنان من مجلس الشيوخ،وبعض الصحافيين ومنهم صاحبنا سطون هذا، لطرح السؤال حول مصداقية الرواية الرئاسية عن الهجوم المزعوم هذا لاثني فقط من أعضاء مجلس الشيوخ، والكتاب مثل الحجارة إذا شكك أخبار وهمية.
لم يكن “الهجوم” الفيتنامي الشمالي المفترض إلا مناوشة بسيطة مع الباخرة المدمرة الأمريكية “مادوكس” التي اقتربت من خط الحدود البحري مع الفيتنام نتج عنه إطلاق النار من طرف السفينة الأمريكية على القاربيْن الفيتنامييْن الذين ربما ردّا بالمثل علما أنه لم يعثر الجيش الأمريكي على جسم السفينة مادوكس إلا على ثقب واحد, وبما أن هذا الحادث لم يُحدِث ما كان متوقعا منه من هستيريا كافية لإعلان الحرب، أقدم الرئيس ليندون جونسون على خطوة عدوانية أخرى اعترف الوزير السابق ماك نامارا أنها كانت مبنية على معطيات وهمية ولكنها أدت مهمتها التضليلية.
هناك نموذج آخر من الأخبار الزائفة وهو المعروف تاريخيا بتليغرام EMS الذي يعود إلى شهر يوليو 1870 عندما أفلح المستشار الألماني السابق أوتو فون بسمارك في خداع الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث ودفعه إلى إعلان الحرب على بروسيا عندما سرّب إلى الصحافة برقية استفزازية مهينة موجهة إلى الإمبراطور الفرنسي. كانت بروسيا مستعدة للقتال من قبل ولم يكن الفرنسيون مستعدين على الإطلاق؛ وهو ما انتهى بانهزام فرنسا والقبض على نابليون الثالث ثم إعلان الجمهورية الثالثة الفرنسية.
المفارقة في الوضع الحالي هو أن دونالد ترامب،الذي يستحق لقب أكبر كذاب في العالم أصبح يشتكي من الأخبار الزائفة التي تنشرها حسب زعمه صحيفة نيويورك تايمز وغيرها من وسائل الإعلام المرموقة. وحتى إعلان هذه الحرب على الإعلام من طرف ترامب كانت نيويورك تايمز تساند أكاذيب الحكومة الأمريكية، بما في ذلك خرافة أسلحة الدمار الشامل على عهد الرئيس بوش والهجوم الذي أطلقه الرئيس كينيدي على كوبا في أزمة خليج الخنازير في عقد ستينيات القرن الماضي وأكاذيب الرئيس جونسون عن هجوم خليج تونكين الوهمي والتي تبعتها الحرب على الفيتنام. منذ أن أعلن الرئيس ترامب أن وسائل الإعلام “أعداء الشعب”، أصبحت هذه الوسائل تبذل جهدا أكبر في التأكد من مصداقية التصريحات الرسمية وقد منحها الرئيس ترامب عدة فرص للتشكيك فيما يقوله. ففيما يتعلق بإدارته، توقفت وسائل الإعلام عن لعب دور الكلب الوفي وأصبحت تفضل دورا آخر، على الأقل حول قضايا مثل “الدفاع الوطني”. وهو دور من يثير الانتباه للقضايا الحساسة ويقرع جرس الإنذار. أما جمهور القراء ، فقد انتبه من مدة إلى تحيّز الصحف النخبوية لمصالح الشركات الكبرى ولرجال السياسة حتى أن كثيرا من القراء اعتبر أن تهجمات ترامب عليها واتهاماته لها بتلفيق الأخبار الزائفة اتهامات معقولة.
ومن أجل إضافة جرعة من الارتباك، أقدمت حكومات أجنبية مثل حكومة الرئيس بوتين في روسيا بنشر أخبار زائفة أخرى بهدف نشر البلبلة وتشويه سمعة الحزب الديمقراطي ومساعدة دونا لد ترامب للفوز بانتخابات عام 2016. كما تمكنت آلة الدعاية في الكرملين من خداع قسم كبير من اليسار الغربي لكي يدعم العدوان الروسي في أوكرانيا وسوريا مثل تقديم المتطوعين “ذوي الخوذات البيضاء” في سوريا على أساس أنهم عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتلميع صورة الرئيس بشار الأسد كزعيم تقدمي يقاوم الإمبريالية. وسط كل هذه البلبلة، ما هي الرواية التي تستحق الثقة ؟ لقد اعتقد الكثير من اليساريين الناشطين على الإنترنيت وبكل سذاجة أنه إذا كان الإمبرياليون الأمريكيون يكذبون فلا شك أن الرواية الروسية للأحداث هي الحقيقة. لقد دفعهم السخط المتنامي إزاء العدوان الأميركي المتكرر إلى الاستسلام للمغالطة القائلة “إن عدو عدوي هو بالضرورة صديقي”.
لقد كان سطون على صواب عندما أكد أن “كل الحكومات تكذب”. في عام 2016، أغرقت روسيا شبكات التواصل الاجتماعي الأمريكية بالرسائل والتدوينات الهدامة الرامية إلى تشويه سمعة النظام السياسي الأمريكي ومساعدة ترامب من أجل الفوز في الانتخابات. هذه جولة من معركة طويلة وقديمة. لنتتذكر أنه في عام 2014، كانت الولايات المتحدة تحت رئاسة باراك أوباما قد تدخلت على نطاق واسع خلال الثورة في أوكرانيا من أجل فرض مرشحين موالين لها لرئاسة الحكومة المقبلة. ما هو الجديد إذن؟ عشرون عاماً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عادت روسيا وأمريكا إلى لعبة الحرب الباردة. في تلك الحقبة كانت أمريكا تمول وترعى “إذاعة أوروبا الحرة” وكانت وكالة المخابرات الأمريكية تمول الأنشطة الفكرية والإعلامية المناهضة للشيوعية، بينما كان وكلاء ستالين يسهرون على تمويل صحيفة ” The Daily Worker” ومساندة جيل كامل من الكتاب بما فيهم إرنست همنغواي. خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين كان هتلر يتوفر على أنصار في جميع أنحاء الولايات المتحدة بينما الحكومة الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني تنفق الملايين على شراء الصحف الفرنسية وتغرقها بالدعاية الإيطالية بهدف التلاعب بالرأي العام الفرنسي في أفق الهجوم القادم.
واليوم، يتلاعب السيد بوتين وأعوانه بوسائل التواصل الاجتماعية وبالمدونات في إطار صفقة كبيرة. كم هو عدد الأميركيين الذين يثقون بالتدوينات الأوتوماتيكية والمليئة بالأخطاء النحوية والتي صرف عليها الكريملين بضعة مليونات من الدولارات خلال الحملة الانتخابية الأخيرة بينما أصحاب المليارات في الولايات المتحدة يلجؤون لخدمات شركات العلاقات العامة الكبرى؟ ليس هناك إلا قلة قليلة تعتقد اليوم أن الروس نجحوا فعلا في التأثير على نتائج الانتخابات.
وكانت الفضيحة الحقيقية هي إفراج الروس عن رسائل البريد الإلكتروني السرية التي تبادلها أفراد “اللجنة الوطنية الديمقراطية” والتي قدمت الدليل أن حملة هيلاري كلينتون كانت تدمّر في السر الحملة التمهيدية للسناتور بيرني ساندرزBernie Sanders ذو التوجه الاشتراكي وذو الشعبية الكبيرة لأنه يهدد هيمنة القوى النيوليبرالية. في نهاية المطاف، ساهمت تحركات اللجنة الوطنية الديموقراطية من أجل التدخل في مسار العملية الانتخابية الأمريكية في إنجاح المرشح دونالد ترامب أكثر مما ساهمت التدخلات الروسية. والسؤال هو كم عدد الناخبين الذين ساندوا بيرني ساندرز في المرحلة التمهيدية ثم صوتوا في النهاية لفائدة ترامب ؟
عندما يلجأ الرئيس ترامب لهذه الاتهامات بصنع الأخبار الزائفة فهو يستعمل تقنية شعوبية ديماغوجية معروفة وكلاسيكية، فيسخر من منتقديه ويتهمهم بالكذب والانخراط في مؤامرة نخبوية. بإعلانه الحرب على الصحف الرئيسية (التي ما زالت تابعة للمؤسسة السياسية الرأسمالية وباسمها تنتقد تجاوزات ترامب) وبإثارته مسألة “الأخبار الزائفة”، ربما يكون دونالد ترامب قد أسدى دون وعي خدمة جليلة للرأي العام الأمريكي.
هل “السخرية” من الحكومات (التي تكذب كلها) ومن وسائل الإعلام (التي كثيرا ما تدعمها) فعل سلبي ؟ ربما سيشرع الجمهور في تقبل ما يقول له الخبراء على شاشات التلفزة بنَفَس نقدي، وهم بالمناسبة نفس الخبراء في كل المواضيع ؟ وربما سيأخذ على محمل الجد التحذيرات الصادرة عن المخبرين عن فضائح الفساد مثل تشلسي مانينغ (الجندية الأمريكية التي سربت إلى موقع ويكيليكس 750 ألف وثيقة ومكثت بسبب ذلك سبع سنوات في السجن) أو الصحافي سطون الذي أصبحت مقالاته وتحقيقاته نموذجا يدرس في المعاهد أو الخبير في اللسانيات نعوم تشومسكي عندما يكتب مقالا بعنوان: مجلس الأمن القومي الأمريكي لا علاقة له بمفهوم الأمن.
رغم كل هذا لابد من الاحتفاظ بالأمل.على سبيل المثال، نأمل أنه في المرة القادمة عندما تنخرط إدارة أمريكية في حرب جديدة بذريعة زائفة حول أسلحة الدمار الشامل الوهمية أو هجمات وهمية، سوف يبدأ الناس في طرح الأسئلة الوجيهة قبل فوات الأوان. وإذا ما انكشفت الحقيقة قبل تدفق الدماء، ربما سيعود الفضل إلى شبكة الإنترنت ومواقع مثل ويكيليكس.
2. الأخبار الزائفة والإنترنيت
كثيرا ما تصب الأقلام النقدية في وسائل الإعلام وابلا من الانتقاد على شبكة الإنترنت لأنها تسمح بانتشار هذا الوباء المسمى “أخبارا زائفة ” والتي تدمر ديمقراطيتنا. والحقيقة فما هذه إلا كما رأينا، نوع من “الطنجرة التي تهاجم إبريق الشاي لأنه أسود”. من ناحية أخرى، فالخوارزميات المعلوماتية التي تتحكم في تدفق المعلومات على شبكات التواصل الاجتماعي تدفع في اتجاه الترويج للإثارة قبل الخبر والمبالغة في أهمية الأطراف المتطرفة من الطيف السياسي.
لننظر إلى أحد الأمثلة الفاضحة للأخبار المزيفة المتعلقة بالناجين من إطلاق النار على التلاميذ في مدينة باركلاند عام 2018، يوم عيد الحب. حيث عبر الكثير منهم عن رغبتهم في سنّ قوانين للحد من بيع الأسلحة النارية. في يوم 20 فبراير ، حصل شريط فيديو على أكثر من 200 ألف مشاهدة في ليلة واحدة ويظهر فيه David Hogg ديفيد هوغ الذي نجا من حادث إطلاق النار والذي اتهمته بعض الأطراف بأنه يتلقى المال من عند النشطاء اليساريين من أجل افتعال أزمة ومهاجمة اللوبي المدافع عن بيع الأسلحة من أجل الدفع باعتماد تشريعات لا تصب في مصالح تجار السلاح، بل إن هناك من زعم أن حادث إطلاق النار كله مفتعل من طرف أولئك النشطاء للضغط على الحكومة والكونجرس. في هذا الإطار قال روش ليمبوث صاحب محطة راديو من اليمين المتطرف إن كل ما يفعله أولئك النشطاء صادر عن الحزب الديمقراطي الذي يعتبر تجار الأسلحة وجمعيتهم NRA من بين أعدائه.
صحيح أن شبكات التواصل الاجتماعي تعتمد على عدد النقرات وتعرف هيمنة للأخبار الوهمية ونظريات المؤامرة اللامتناهية ولكنها تستعمل أيضا من طرف رموز اليمين المتطرف الذين لهم تمويلات جيدة وآلات للدعاية عالية التنظيم وتساندهم بعض معاهد التفكير الاستراتيجي مثل أميريكان إنتربرايز وبعض قنوات التلفزة النافذة مثل فوكس نيوز، فضلا عن القنوات الإذاعية و الجرائد ذات نفس التوجه.
لقد تم الكشف مؤخرا عن كون الملياردير الجمهوري ستيف بانون وصديقه روبرت ميرسر منحا 15 مليون دولار إلى شركة كامبريدج أناليتيكا التي تعمل على التأثير على الناخبين واستعمال البيانات المسجلة على شبكة الفيسبوك، وبذلك تستجمع المعطيات الشخصية عن سلوك 50 مليون مستعمل دون إذن منهم. كانت فكرتهم أن حملة ترامب يمكنها أن ترسل رسائل معينة لكل ناخب حسب تصرفه على الفيسبوك.
لست متأكدا أن هذه الطريقة استقطبت الكثير من الناخبين لفائدة ترامب ولكنها تعلمنا أن الفيسبوك يغتني ببيع مساحات إعلانية لأي شخص له المال والقدرة على الدفع. على حد تعبير “نيويورك تايمز”: “فيسبوك يربح المال عن طريق تنميط المستعملين وتسجيل ملامحهم وسلوكهم في سجلات شخصية عن كل واحد ثم بيع قاعدة البيانات تلك إلى المعلنين والجهات السياسية الفاعلة. هؤلاء هم الزبناء الحقيقيون لفيسبوك.” الغريب في هذا النموذج الاقتصادي هو أنه خلافا للصحافة ووسائط الإعلام التي يجب أن تدفع رواتب الصحفيين مقابل ما يكتبونه من مقالات فإننا نحن مستعملي الفيسبوك نزود هذه لشركة مجانا بالمعطيات الشخصية التي ستبيعها هي بدورها لفاعلين آخرين..
إلى أي مدى يصدِّق الأخبارَ الزائفةَ مئاتُ الآلاف ممن ينقرون على حاسوبهم ليقرؤوا تلك الأخبار ؟ من المستحيل الجزم بجواب عن هذا السؤال. ما تعكسه تلك النقرات هو مدى اكتساح الشبكات الاجتماعية لمختلف المجموعات – سواء كانوا من مؤيدي بيع الأسلحة أو العنصريين أو مناهضي الإمبريالية أو أنصار بوتين. كلها مجموعات تلعب دور غرفة الصدى عن مدى استعمال الأنترنيت ولكن الدراسات الأخيرة تشير إلى أن المعطيات التي تسمح بمعرفة سلوك شخص وميولاته ومن ثم التأثير على خياراته هي التي تنبني على تحليل محتوى نقاشاته مع أقربائه و جيرانه وأصدقائه وزملائه في العمل.
3.الأخبار الزائفة والأكذوبة الكبرى
لقد أعلن هتلر زعيم النازيين : “إذا قمتَ بترديد كذبة كبيرة مرارا عديدة سوف يصدقها الجمهور، وكلما كانت كبيرة جدا كلما سارع إلى تصديقها”
“إن الجماهير العريضة من الشعب، وهي في حالة من البساطة والسذاجة البدائية لدرجة أن عقولهم مجبولة على تصديق الأكذوبات الكبرى أسرع من الصغرى نظراً لأنهم هم أنفسهم كثيرا ما يلجأون للأكاذيب الصغرى في المواضيع التافهة ويخجلون من قول الأكاذيب الضخمة. على الرغم من أن الوقائع التي تثبت هذا الأمر قد تكون مبسوطة أمامهم ولكنهم سيظلون متشبثين بالشك ويستمرون في الاعتقاد أنه قد توجد بعض التفسيرات الأخرى. والكذبة الصارخة دائماً تترك آثارا وراءها حتى إذا تم دحضها وتفنيدها بالبراهين والحجج وهي الظاهرة التي يعرفها كل الكذابين الكبار في العالم وكل الخبراء في فن التضليل.إنه يدركون دائما كيف يجب استعمال الكذب وتوظيف الأباطيل للوصول إلى أهدافهم.” (كتاب كفاحي، 1925).
عندما كان يتحدث هيتلر عن “هؤلاء الناس” فهو كان يعني اليهود. والمفارقة هي أن أول وأكبر أكذوبة أطلقها هتلر هي أن هناك “مؤامرة يهودية” مسؤولة عن جميع المشاكل في ألمانيا، بما في ذلك الهزيمة العسكرية في الحرب العالمية الأولى. عندما تتفوه بكذبة كبيرة، فإنها تساعدك إذا كنت تتهم خصمك بممارسة نفس الفعل، وعلى سبيل المثال فقد اتهم الزعم الروسي السابق ستالين منافِسه تروتسكي بالتآمر مع النازيين في الوقت نفسه الذي كان فيه هو بنفسه يستعد لتوقيع “معاهدة 1939” الشهيرة بين هتلر وستالين. في عصرنا الحاضر، عندما بدأ ترامب يقول إن الرئيس باراك أوباما رجل من كينيا وأن مشكلة الاحتباس الحراري ما هي إلا “خدعة صينية”، دأب على استعمال تقنية التغريدات لإعادة إرسال جميع أنواع الأخبار الزائفة وفي نفس الوقت كان يسعي لسحب المصداقية من الذين يحاولون التدقيق في المعطيات ويتهمهم دون تردد بنشر “أخبار زائفة.”
إن تقنية الأكذوبة الكبرى تنجح بشكل أفضل عند “الكذابين الكبار” الذين لهم القدرة على تطويع وسائل الإعلام وتساندهم عصابات الفتوات والبلطجية في الشوارع والأحياء كما فعل هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي. أما اليوم فهؤلاء البلطجية ينتشرون على صفحات الشبكات الاجتماعية لتهديد المستعملين الآخرين وتخويفهم و كذلك تضخيم الأخبار حول من يُسخِّرهم. عندما يتهم ترامب وسائل الإعلام بنشر الأخبار الزائفة فهو يستعمل تكتيك البلطجة الذي يهدف إلى تشويه كل خطاب معقول والإساءة لكل من يحاول إبراز الحقائق والوقائع التي تفضح أكاذيب الحاكمين الكبيرة كما يحاول إضفاء المصداقية على جميع أنواع نظريات المؤامرة. ولكن في الحقيقة توجد مؤامرات قوية، وفي أغلب الأحيان تظل مختفية في الظلام.
لنأخذ مثالا واحدا. ما هي أكبر أكذوبة انتشرت في منتصف القرن الماضي؟ إنها إنكار مشكل المناخ: لقد انتشرت أخبار زائفة عن عدم وجود مشكل الاحتباس الحراري وأخطاره و عن كونه مؤامرة تطبَخ من طرف الليبراليين وعلماء من اليسار المتطرف والسلطات الصينية. بطبيعة الحال لقد برزت في الفترة الأخيرة نتائج هذا الاحتباس (موجات الجفاف والفيضانات وحرائق الغابات وذوبان الجليد) ولا يمكن الاستمرار في إنكار الظاهرة ولكن لدينا السيد سكوت بروت Scott Pruitt رئيس وكالة حماية البيئة الذي عينه الرئيس ترامب، .والذي يعلن أن الاحترار العالمي شيء إيجابي لأنه يزيل الأنظمة البيئية الطبيعية، وبما أن الظاهرة أصبحت واقعا فعليا فالكذبة الجديدة هي أن النشاط البشري – وعلى وجه التحديد إحراق حرق الفحم والبترول من أجل الطاقة ليس له تأثير سلبي على المناخ، على الرغم من الشهادات المتتالية و على الرغم من شبه الإجماع من علماء المناخ حول توقع حدوث كارثة وشيكة إذا لم تقرر البشرية اتخاذ تدابير وقائية.
هذه مسألة حياة أو موت أي إنها مسألة وجودية بالنسبة لمستقبل الإنسانية ورغم ذلك لازال هناك من بين زعماء العالم من لا يثق في تحذيرات العلماء المستقلين ويواصل الدفاع عن استعمال مصادر الطاقة الأحفورية ويحاول عرقلة أضعف المحاولات للحد من سلبيات هذا الاحتباس (مثل اتفاقية باريس) وخوض حروب دامية لاستمرار هيمنة منتجي النفط ومنها الولايات الأمريكية الغنية بالنفط.
كل هذا يُذكرنا بما قاله هيتلر يوما : “إن الأكذوبة الكبيرة لا تمضي إلا بعد أن تترك بعض الآثار وراءها، حتى لو تم كنسها والتخلص منها”، وهو ما يعرفه جيدا كبار الخبراء في فن الكذب في هذا العالم وكل الذين يتآمرون ويتعاونون من أجل صناعة الكذب والترويج لها. أما اليوم فإن مؤامرة الكذب حول موضوع المناخ تضم الشركات النفطية الكبرى والحكومات وبعض وسائل الإعلام الكبرى االتي تساهم في نشر التضليل على الرغم من أن الوقائع تدحض ادعاءاتهم منذ ما يقرب من نصف قرن.
في السبعينيات من القرن الماضي ، كان العلماء العاملون في شركة النفط العملاقة “إكسون” يحذرون رؤساءهم من خلال مذكرات وتقارير مكتوبة من مخاطر كارثة المناخ الوشيكة ، كما كشفت عنه مؤخراً منظمة Inside Climate News : “إن الضرر الكبير هو أن الشركة اعتمدت نموذجا لمثيلاتها في نفس المجال. أما اليوم فعندما يدق علماء آخرون ناقوس الخطر فإن رجال الأعمال يسخرون منهم كما نراه عند قراءة افتتاحية لصحيفة وول ستريت جورنال لأن شركة إكسون ، بدلاً من تغييرمناهج عملها فضلت سبيل التضليل وإنكار الوقائع والتلكؤ في اتخاذ القرارات الحاسمة تماما كما فعلت شركات التبغ عندما تأكد علميا أن التدخين يؤدي إلى مرض السرطان. لكن اللوبي النفطي أثبت أنه أقوى بكثير من لوبي صناعة السجائر.
وكما كانت أباطيل هتلر حول اليهود، فأكذوبة إنكار مشكل المناخ كانت والا تزال مسنودة من طرف اللوبي البترولي الذي لا يتردد في تهديد وتخويف العلماء الذين ينبهون الناس إلى أخطار هذا المشكل ويقولون لهم الحقيقة العلمية. على سبيل المثال، فإن معاهد البحث الجيولوجي في الجامعات الكبيرة كلها تستفيد من التمويل من طرف شركات النفط، وحتى أساتذة الجامعات الذين يرغبون في الاحتفاظ بوظائفهم لا يتشجعون على قول الحقيقة علانية حول ضرورة التوقف عن استعمال الهيدروكربونات لتوليد الطاقة. أما وسائل الإعلام الرئيسية، وبما أنها تعتمد على مداخيل الإعلانات الإشهارية من شركات النفط والصناعات المرتبطة بها (كصناعة السيارات والطرق السريعة، والصناعات الغذائية والنقل البحري) فإنها بدورها تمنح الفرصةة للخبراء في الكذب لتمرير أباطيلهم حول عدم وجود مشكل مناخي.وعلى الرغم من أن نشرات أحوال الطقس تستأثر بما يزيد عن 20% من مدة البث الإذاعي في الولايات المتحدة، فكل خبراء الأرصاد الجوية يتجنبون بعناية استعمال العبارات المزعجة لهذا اللوبي مثل “ارتفاع معدل درجة الحرارة الشامل على صعيد كوكب الأرض” أو “ظاهرة الاحتباس الحراري ُeffet de serre” ولا يجدون أبدا الوقت لشرح الأسباب الكامنة وراء الفوضى المناخية التي نعيشها في السنوات الأخيرة رغم أنهم يسهبون في وصف نتائجها للجمهور .
بالنسبة للحكومة ، تهيمن الولايات النفطية على الكونجرس الأمريكي. والبيت الأبيض تحكّم فيه على مر التاريخ رجال النفط منذ الرئيس جونسون على الأقل، واليوم يوجد تيليرسون ، الرئيس التنفيذي السابق لشركة إكسون في منصب وزير خارجية ترامب، كما يوجد Edward Scott Pruittالذي يمثل اللوبي المدافع عن صناعة النفط في ولاية أكلاهوما على رأس “وكالة حماية البيئة” وقد أمضى شطرا من حياته المهنية في وظيفة خبير في نشر الأباطيل مدفوع الأجر من طرف اللوبي النفطي لينكر وجود شيء اسمه مشكل المناخ في العالم.
وبما أنه غبي فقد اقترح بسذاجة هذا الشهر “نقاشًا عامًا” حول الموضوع المحظور ولكن الفكرة تم إبطالها على الفور من طرف البيت الأبيض الذي اعتبر أن مثل هذا النقاش العام سيكون “مشهدًا سخيفا و سيثير الانتباه إلى الإجراءات التي اتخذتها الإدارة لتخفيف الالتزامات القوانين التي تحمي البيئة” كما أن نقاشا من هذا النوع سيثير الانتباه إلى الصناعات العسكرية التي تعتبر من أكبر مستهلكي البترول ، وهي التي كانت ولازالت مهمتها الأساسية منذ زمن طويل هي حماية و توسيع مجال المصالح البترولية الأمريكية في جميع أنحاء العالم والتي تنفق ميزانيتها الضخمة على خدمة المصالح العالمية للوبي النفطي.
4. ماذا عن النفط ؟
لماذا يتآمر هؤلاء الزعماء السياسيون الأقوياء وأصحاب المصالح المالية وبعض المؤسسات من أجل تدمير هذا الكوكب مستعملين كل الوسائل بما فيها ء الحروب والأخبار الزائفة ؟ للأسف هناك جواب واحد على هذا السؤل وهو الرغبة في الحفاظ على السلطة وعلى الثروات لتبقى في يد أقلية من أصحاب رؤوس الأموال لا تتجاوز نسبتها 1 في المائة من الناس وهي التي ترتبط ثروتها بما يوجد في باطن الأرض من معادن وبترول.
لماذا لا يقوم اليوم هؤلاء الأغنياء والمتنفذون بالتخلى عن فكرة إنكار مشكل المناخ التي روجوا لها منذ سنوات 1970 واستثمار رؤوس أموالهم في مصادر الطاقة المتجددة؟ الجواب هو أن ثرواتهم الهائلة تتخذ شكل المخزون تحت الأرض من هيدروكاربونات أحفورية التي لا تكتسب قيمتها إلا عندما يتم بيعها قبل إحراقها . في محطة البنزين يتراوح ثمن الغالون من الوقود بين دولارين وثلاثة دولارات بينما كلفة استخراجه من تحت الأرض أقل من ذلك بكثير.
وكما هو الحال مع الكثير من البضائع فسعر كل شحنة من الوقود ترتبط بما يسميه خبراء المال ” Futures” أو “العقود الآجلة” أي السعر المتوقع عندما تصل تلك الشحنة إلى السوق في وقت ما من المستقبل. إذا قررت الحكومات في العالم اتخاذ قرار لإنقاذ الكوكب عبر التوجه نحو الطاقات المتجددة قبل أن يفوت الأوان، فهذا “المستقبل” من مبيعات المواد الأحفورية لن يأتي أبدا ولن تكون هناك أرباح أبدا. وستتحول تلك المخزونات إلى ما يسميه الاقتصاديون “الممتلكات التي تقطعت بها السبل” وسوف تفقد قيمتها النقدية بسرعة وستنهار بعد ذلك قيمة أسهم الشركات النفطية العالمية النافذة والمتحكمة منذ عقود طويلة في رقاب الحكومات ومصير الشعوب.
وبطبيعة الحال فإن أصحاب هذه الشركات الكبرى والتي تهيمن على المجمع الصناعي العسكري لا يهتمون بمستقبل البشرية بل فقط بمستقبل أرباحهم خاصة أنهم أمام طريق مسدود لا يمكن التراجع فيه إلى الوراء وليس لهم خيار إلا الاستمرار في إنتاج البترول بكثرة و إلا فالأرباح ستتبخر فلا يهمهم أن تحدث كارثة مناخية ومن ثم فلن يكفوا عن ترديد نفس الأكذوبة حول إنكار الحقيقة العلمية البارزة للعيان وسيستمرون في الضغط من أجل إخراس كل الأصوات المزعجة التي تدق ناقوس الخطر وتثير انتباه البشرية إلى الخطر المحدق بها وبمستقبلها.
لذلك، وكما رأينا فإن وراء الهستيريا حول وباء الأخبار الوهمية المزعومة والتي يروج لها كبير الكذابين الرئيس دونالد ترامب مثلما يروج لنظرية “المؤامرة” توجد هناك مؤامرة رأسمالية حقيقية جداً وقوية جدا وتشتغل وفقاً للقانون ولكنها تختفي وراء الأضواء. ولكن بدلاً من التنديد بهذه المؤامرة فإن النقاد الأكثر ليبرالية يميلون إلى ترديد خرافة الأخبار الزائفة وتشجيع الجماهيرعلى الجهل بوجود شياطين وأشرار يحاولون التلاعب بهم من خلال الشبكات الاجتماعية التي يتهمونها بالرغبة في تدمير مصداقية الديمقراطية وكأنها لم تدمّر من قبل من طرف رؤساء الإدارات الديمقراطيين الذين لا يتحركون إلا تحت إمرة اللوبي البترولي المتنفذ.
إن الحملة التي يشنها اليوم الرئيس ترامب وإدارته على ما يزعم أنه أخبار زائفة ومصادرها ما هي إلا حملة الحزب الجمهوري الذي أصبح ينظم ما يمكن تسميته مسابقة التزييف والتضليل حيث يهاجم الصحافيين العاملين في صحيفة نيويورك تايمز وشبكة سي أن أن. وفي الوقت نفسه فالليبراليون في مجال الصحافة قد عميت أبصارهم عن رؤية الواقع كما هو فلا يحبذون إلا لوم الجمهور على تفضيله لأخبار الإثارة على غيرها من المواضيع.
5.عودة إلى الفضاء الرقمي
مرة أخرى، نلاحظ أن الإنترنت سلاح ذو حدين مع مزايا وعيوب لكل طرف من أطراف الصراع الطبقي : طرف ال 1% وطرف ال 99%.
من ناحية أولى إن شبكة الإنترنت فضاء شاسع يمكنك أن تجد فيه كل الآراء السياسية وكل الأفكار بما في ذلك كل المؤامرات المجنونة وهو فضاء يسهل على الأثرياء من اليمين المتطرف أن يتلاعبوا فيه بالبرامج والخوارزميات التي تتحكم في الشبكات الاجتماعية وذلك من أجل تحسين صورة هذا اليمين, إن ما يحدث اليوم ما هو إلا أمر ضئيل مقارنة مع مؤامرة الصمت التي امتدت عقودا طويلة بفضل التواطؤ بين الحكومات والشركات العالمية من أجل حجب المعلومات عن كارثة تغيير المناخ القادمة.ما هي الصفقة التي تحول بموجبها تلميذ في الثانوي اسمه دافيد هوغ في ظرف 24 ساعة إلى عامل أزمة في أحد المنعطفات المظلمة من فضاء الإنترنيت ؟ ولماذا يسارع الرئيس ترامب إلى إعادة نشر تغريدات قناة فوكس نيوز اليمينية في الساعات الأولى من الصباح الباكر في اليوم الموالي والتي لا يتردد فيها في إهانة منتقديه.
في سياق خَبري مُشابه لذلك الذي أنتج قصة التلميذ الذي تحوّل بقدرة قادر إلى مصدر أزمة بعد أن نجا من مجزرة إطلاق النار المأساوية في مدينية باركلاند، طفا على السطح خبر مجموعة من المعلمين من ولاية فرجينيا الغربية، يشتكون من أجورهم الزهيدة ومن كون القانون في تلك الولاية يحظر المفاوضات الجماعية بين الأجراء والمشغِّلين، حيث قاموا بإنشاء صفحة على الفيسبوك لتنظيم إضراب خلال ثمانية أيام والتواصل المباشر مع آباء وأمهات التلاميذ لكسب التعاطف معهم، وكسب التضامن من طرف موظفين آخرين مثل سائقي حافلات النقل المدرسي وحراس المدرسة، فانتشرت حركة الإضراب في أوساط المعلمين في الولايات المجاورة حتى اضطر البرلمان المحلي إلى الموافقة على منح زيادة قدرها 5% في أجور كل الموظفين و ليس فقط للمعلمين.
هذه صفحة رائعة من تاريخ النضال العمالي في الولايات المتحدة يبشر بالخير للمستقبل كما يذكرنا بقوة التأثير التي تتوفر عليها شبكات التواصل الاجتماعي لأنها تتجاوز العقبات الناجمة عن العزلة الجغرافية والافتقار إلى المعلومات، والمماطلة البيروقراطية والعراقيل المؤسسية. وهكذا، وبفضل صفحة على الفيسبوك، استطاع المعلمون المتفرقون في 55 جماعة محلية مختلفة أن يوحدوا جهودهم ويستجمعوا عن أكاذيب رجال السياسة القابعين في البرلمان المحلي ويرفضوا الاتفاقية التي أبرمتها باسمهم النقابات الكبرى ثم يتوجهوا بمطالبهم مباشرة إلى المشرِّعين المحليين الذين لا يفكرون اليوم إلا في إمكانية إعادة الفوز بمقاعدهم البرلمانية خلال الانتخابات المرتقبة في شهر نونبر المقبل.
أليست حكاية مذهلة ؟
*أستاذ سابق في جامعة برينستون الأمريكية
** الترجمة من الإنجليزية للعربية: أحمد ابن الصديق