في النقاش الدائر اليوم حول لغات التدريس في منظومتنا التربوية، تتعالى أصوات المزايدة مرة أخرى، وتحاول الهيمنة على الساحة. ومرة أخرى يظهر أن الخلط للأمور يهدد مستقبل البلاد، وذلك بعد الخسائر التي ألحقها بالمنظومة التربوية منذ الاستقلال.

هذه الحالة الخطيرة تستدعي ملاحظات على أساسها يُمكن بناء رأي في مشكل لغات التدريس.

ملاحظات

1 – اللغة العربية في صيغتها العامية هي لغة الأم لغالبية المغاربة والمغربيات.

2 – اللغة العربية العامية تولدت من اللغة العربية المتداولة عبر العصور في صيغها الفصحى والعامية. وبنيات العامية المغربية سليلة بنيات صيغ العربية. ولا ينقص من ذلك كونها اغتنت كثيرا من الأمازيغية بمُفردات وتراكيب ونطق، إذ هي لغة حية قائمة بذاتها تنهل من الأمازيغية كما من الفرنسية والإسبانية؛ وها هي اليوم تنهل من الانجليزية. إنها كجميع اللغات تستوعب أشياء من خارجها وبصوغ تلك الأشياء في قوالبها.

3 – ولكون العربية العامية وليدة العربية الفصحى يرجع إحساس غالبية المغاربة والمغربيات، وعلى صواب، بأن اللغة العربية الفصحى كما هي متداولة اليوم هي لغتهم القومية.

4 – بناء على ما سبق، فإن مطلب التعريب مطلب قومي ومطلب استراتيجي.

5 -ليست العربية لغة دين فحسب. إنها أيضا لغة ثقافة بامتياز؛ لها رصيد أدبي استثنائي، ورصيد فكري وفلسفي؛ ولها رصيد في الفكر الشرعي والقانوني، ورصيد علمي كلاسيكي معترف به عالميا، ورصيد في العلوم الطبيعية والرياضيات الحديثة أنجز بفعل مجهودات التعريب، وسوف ينمو في المستقبل لا محالة.

واستيعابها للعلوم عن طريق التعريب يمثل انجازا محترما. وعلى كل حال، فلا محيد عن التعريب المستدام.

6 – هناك من يزعم أن للمغاربة لغتان هما العربية العامية والأمازيغية فقط. وهذا إما قول خطأ وإما مغالطة.

كذلك فإن هذه المزاعم تستبطن هدف التخلي عن الأرصدة الهائلة التي ذكرنا. ولن يتحقق ذلك يوما، لأن المغاربة يدركون أن برنامجا من هذا النوع هو برنامج تفقير مهول لحياتهم المعنوية والمادية.

7 – العربية والأمازيغية هما اللغتان الرسميتان للبلاد. لهذا وجب الاعتناء بهما سوية. ولا العربية ولا الأمازيغية لغتا دولة فقط، ذلك لأنهما لغتا ثقافة وتداول يومي.

المطلب الاستراتيجي والتدبير

الهدف الاستراتيجي هو أن تصبح العربية والأمازيغية هما لغتي التعليم والبحث العلمي، وعلى جميع المستويات. ومع هذا فلابد من تدبير المسيرة للوصول إلى الهدف.

وفي التدبير الضروري لتلك المسيرة تدخل عوامل واقعية لابُدّ من أخذها مأخذ جد واعتبار: فالواقع اليوم يتلخص في مركزية العربية، وبجانبها اللغة الأمازيغية التي لازال انتشارها محدودا في المنظومة التربوية.

والعربية المتمركزة هي الفصحى المكتوبة والمتداولة. صحيح بالنسبةللطفل المغربي والطفلة المغربية أن لغات الأم هي الدارجة أو الأمازيغية، حسب المناطق والظروف.

ولكن اللغة الأم بالنسبة للدارجة هي العربية الفصحى في صيغها التاريخية. أما فيما يخص الأمازيغية فإن صيغتها المعيارية الجديدة تحاول تبوأ مقام اللغة الأم، لكن لغة الأمهات هي أمازيغيات متداولة في مناطق مختلفة. وبما أن العربية هي اليوم لغة التعليم المركزية، فإن ما سيأتي سوف يناقشها من دون غيرها.

لا أظن أن هناك بونا شاسعا بين الفصحى والدارجة يمثل عقبة حقيقية بالنسبة للتحصيل. وتعليم الفصحى كان على الدوام يستعين بالدارجة. وهذا أمر مفهوم وليس فيه إشكال. والدارجة من حيث هي لغة الأم تعين على تحصيل الفصحى.وليس هناك مؤشرات تدل على العكس.وبالمقابل فإن أجيالا تعلمت العربية بشكل متقن والفرنسية كذلك. والمشكل في نظري يكمن في تراجع إتقان تعليم العربية منذ ما يزيد اليوم عن خمسين سنة: أي أن المشكل يكمن في البيداغوجية والإتقان وتكوين الأساتذة، وفي المنظومة التربوية على العموم.

والواقع الثاني يتلخص في ضعف رصيد العربية في ما يخص العلوم الطبيعية وعلوم التدبير والتسيير والاقتصاد والتكنولوجيا: أي في هذه المجموعة من العلوم الحديثة الحيوية التي لا تقدم ولا ازدهار، ولا تشغيل ولا رخاء بدونها.

لهذا الواقع نتائج حتمية في ما يتعلق بتدبير الطريق إلى التعريب الشامل: فالتدبير الناجع لتحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي يحتم شيئين: تعليم العربية بكيفية علمية سلمية، واعطاءها مكانة مهمة بين معايير النجاح والرسوب في الامتحانات، في مراحل الابتدائي والثانوي. وبالموازاة مع ذلك يتحتم تعليم العلوم الحديثة المشار إليها سابقا باللغة الفرنسية. وأخيرا النهوض بالبحث العلمي باللغة العربية.

الأفق الاستراتيجي يبقى هو التعريب، لكن مع مرحلة تستغرق جيلا على الأقل – يكون هذا البرنامج بمثابة الإعداد الجدي لذلك التعريب. وبشرط مهم هو الإمساك عن تعدد التجارب، واحدة تلو الأخرى، وتجنب فوضى التجارب التي تسببت في هدر الموارد والامكانيات: أي اختيار تجربة واحدة وتطبيقها بصرامة ونفس طويل.

هناك نقطتان لا بد من ذكرهما لاكتمال الموقف: يقال إنه بالإمكان تدريس الرياضيات باللغة العربية وبمستوى عال. هذا صحيح، لكن مبدأ التماسك يحتم تدريسها بنفس اللغة التي تدرس بها العلوم الحديثة. ويقال إن الإنجليزية هي اللغة العالمية اليوم وبدون منازع. وهذا أيضا صحيح. لكن الفرنسية هي اللغة الأولى في تسيير القطاعات التكنولوجية والاقتصادية ببلادنا. ولا يمكن تعويضها بالإنجليزية بين عشية وضحاها نظرا لعواقب ذلك التسرع. وعلى كل حال فلا مناص من تعلم اللغة الانجليزية إعدادا للمستقبل.

والأهم هو أن الهدف الاستراتيجي يبقى هو التداول والتعامل باللغة العربية واللغة الأمازيغية في جميع المجالات، مع ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية القوية.

والتدبير الاستراتيجي والواقعي يملي علينا في نظري تجنب المزايدات الحاضرة اليوم في الساحة الوطنية، من أجل تحقيق التعريب كمطلب قومي حسب تعبير الأستاذ النقيب بن عمر. وهذه المزايدات التي اندلعت نيرانها منذ أوائل الاستقلال هي من العوامل الأساسية التي أدت إلى فشل المنظومة التربوية المعترف بها من لدن الجميع. والمسؤولية تقع على كاهل الدولة، وعلى كاهل الحركة الوطنية كما وضح الأستاذ العروي أخيرا، والأحزاب المعروفة التي طبقت تعريبا مبتذلا وفي غياب إعداد معقول للعملية. والمؤسف هو أننا نرى رجوع تلك المزايدات من طرف أحزاب قديمة وأخرى جديدة مثل البيجيديوأذرعته الدعوية والبرلمانية.

24 أبريل 2019