
العدل والاحسان: مات البشيري ولم تمت البشيرية!
1- بحث في جذور الأزمة:
آراء أخرى
يغوص هذا المقال في جذور أزمة جماعة العدل والإحسان الحالية، وهو في الأصل ورقة من مشروع دراسة لم تكتمل بعد، تعالج مسار بعض الحركات الدينية في المغرب على امتداد العقود الستة الماضية، فرض تحريره النقاش المتجدد حول غياب نديّة ياسين عن المشهد منذ رحيل والدها نهاية 2012، والاستجابة لطلب بعض الأصدقاء توضيح بعض ما أوردناه في مقال سابق حول هويّة الجماعة.
نستأنس في بداية رحلتنا هذه بتصريح نديّة لإحدى وسائل الإعلام عقب وفاة الحسن الثاني، قائلة: « تمنيت لو عاش الحسن الثاني ومات النظام »، تقديرا منها لشخص ملك آذى نظامه والدها ودعوته أيما إذاية، ولعلها اليوم تتمنى لو عاش البشيري وماتت البشيرية، فمن يكون البشيري؟ وما الذي نعنيه بالبشيرية؟ وما علاقة ذلك بموضوع غيابها الطويل عن الساحة؟
2- البشيري: تسلّلٌ سلفي إلى “المنهاج النبوي”.
جاء محمد البشيري (ت. 1998)، إلى الجماعة في بداية تشكلها، حين كان عبد السلام ياسين يسعى لتوحيد الجماعات الإسلامية المغربية نهاية السبعينات في جماعة واحدة، دون اعتبار لهوياتها العقدية والفكرية، وهو ما عبر عنه البشيري نفسه في مقال له بالعدد الخامس من مجلة الجماعة ربيع 1980، لحظة لقائه ياسين بقوله: « حرصه على لم الشعث ورأب الصدع »، جاء الرجل من وسط سلفي خالص، ذلك أن السلفية كانت قد هيمنت على الحياة الدينية للمغاربة منذ فجر الاستقلال، واشتبكت مع الطرق الصوفية عقديا وسياسيا، اشتباك يجد له جذورا في فترة الاحتلال الفرنسي للبلد، واشتد مع فورة الوهابية المتمددة من نجد بفضل الأرباح المالية التي جنتها السعودية من أزمة البترول العالمية في 1973، تمدد جاء استجابة لطلب أمريكي لوقف المد الشيوعي بالمنطقة، ومن بعده مواجهة “الإسلام السياسي” بعد نجاح الثورة الإيرانية في 1979.
جاء الرجل مجيئ المحرج من لقاء ذلك “الصوفي المخرف”، الذي قضى سنوات في الزاوية البوتشيشية (1966-1972)، يصرح بذلك في ذات المقال فيقول: « وألح علي سؤال حرت به قد عشتَ في أحضان «الطريقة» أعواما، وخبرتَ عن كتب جلية حالهم وقد بدا واضحا في كتاباتك عنهم تقديرك الجم لهم، واعترافك بجميلهم وإعجابك بما أسميته بتربيتهم الروحية وصدقهم وشدة تقواهم وإخلاصهم… وشاهدت أنا بأم عيني من أفراد المجموعة [البوتشيشية] ما لم يرح بالي، ولم يطمئن خاطري، فكيف يكون لهؤلاء الناس فضل عليك كما تقول والحال أن سمعت منك ورأيت ما لا يمت إلى ما سمعت منهم ورأيت بصلة أو يكاد…؟ ».
جادل البشيريُّ ياسين طويلا في المسائل العقدية وفي مشروعه الدعوي والسياسي، الذي نظّر له في كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، وكان يجيب عن أسئلته باستفاضة مدركا طبيعة الرجل وخلفيته المذهبية، يوضح البشيري ذلك فيقول: « وطفق يفتح بصيرتي بعد بصري على ما كنت أجهله من حقيقة الصوفية النقية الطاهرة موضحا أن الاتباع من ذوي الضمائر المتعفنة قد أساؤوا إلى الصوفية أبلغ إساءة… وبدأت الوحشة تزول تدريجيا… ولم أسمع منه ما يندرج تحت وصف «الصوفي المخرف» التي ألصقت به بغير وجه حق. »
ورغم ذلك فقد بدا محرجا وهو يدافع عن رجل ذو ماضي صوفي، وخوفا من أن تلصق به التهم، راح يدافع عن نفسه قائلا: « ولست سنيا تصوف كما قد يخطر بأذهان البعض، كما أني لست صوفيا نبذ الصوفية ليتمسك بالسنة، وليس بين السني والصوفي أي فارق إلا ما كان من ذلك الركام من الأوهام والأضاليل ».
لم يكن محمد البشيري الوحيد الذي جاء من وسط سلفي/وهابي، فقد استقبلت الدعوة في سنواتها الأولى العشرات من الشباب ذي المرجعية السلفية، وخاصة القادمين من الشبيبة الإسلامية بعد أن أجهز عليها النظام مطلع الثمانينات، وكانت الشبيبة آنئذ قد تشبعت وهابية على يد الشيخ زحل، مسؤولها التربوي، وبتأثير معنوي مباشر من تقي الدين الهلالي.
جاء البشيري ورفاقه السلفيون في لحظة فاصلة من تاريخ الجماعة، لحظة انتقالها من مرحلة “جهاد الكلمة” التي كانت “رسالة الاسلام أو الطوفان” عنوانها الأبرز، إلى مرحلة “العمل المنظم” في إطار جمعيتي “الجماعة” و”الجمعية الخيرية” سنتي 1981 و1983، وهي المرحلة التي سيكون للبشيري دور هام فيها، ثم إنه لم يكن السلفي الوحيد الذي سيتولى لاحقا مسؤولية قيادية، فإلى جانبه كان فتح الله أرسلان القادم بدوره من جمعية سلفية بالرباط كان يؤطرها عبد الرحمن المغراوي شديد الارتباط بنظام آل سعود، والذي سيخلف الهلالي في حمل لواء الوهابية في المغرب، إثر صفقة بين نظام الحسن الثاني والملك فهد المتوجسان من مد ثوري شيعي تصدره إيران الخميني.
هكذا إذا؛ انطلقت سفينة العدل والإحسان وسط أمواج بحر الوهابية المتلاطم، وهكذا كانت اللوثة الأولى التي جنت عليها لعقود من الزمن، فقد غزت الوهابية بكتبها العقدية وأشرطتها ونمط لباسها وعطرها البترولي وأدبياتها وتعابيرها مجالس التنظيم في سنواته الأولى.
كانت الدعوة في بداياتها والجماعة الناشئة تتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، يومها؛ لم يكن التنظيم بالنسبة لمؤسسها غاية، بل وسيلة يبلغ من خلالها مشروعه الدعوي والسياسي، ولم يسعفه الوقت لتشذيب الصف مما علق به من أردان السلفية والحركية التنظيمية، فقد كان قرار النظام وضعه تحت الإقامة الجبرية نهاية 1989، ضربة موجعة للدعوة فرَقت الرأس عن الجسد.
في ظل الحصار؛ أصبح مجلس الإرشاد المدبر الميداني لشؤون الجماعة، وحينها برز اسم محمد البشيري ذي الرصيد الفقهي والبراعة في الخطاب، حيث كان يلقي دروسا وخطبا في أحد مساجد الدار البيضاء، العمق الديموغرافي والاقتصادي للبلد، وكان له دور محوري في التوسع التنظيمي للجماعة مطلع التسعينات، إذ كانت المئات من خطبه النارية المنتقدة للنظام، تجوب المغرب طولا وعرضا عبر الأشرطة المسموعة خاصة. لكنه وبعد خروجه من السجن رفقة أعضاء مجلس الإرشاد في 1991، أظهر ميلا نحو المشاركة السياسية، والتحول التدريجي نحو حزب سياسي، مع تحفظ شديد على “مركزية الصحبة” في مشروع الجماعة، معارضا بذلك المشروع السياسي والدعوي الذي خطه ياسين، تحفظ أظهر احتفاظه بنزعته السلفية خطابا وسلوكا. صوت واحد فقط كان يزعج البشيري ويعيق سيره في تحقيق مشروعه، لقد كان صوت ندية ابنة المرشد العام المحاصر يومها.
3- ندية ياسين: صوت أبيها خارج الأسوار.
مسار نادية ياسين مخالف جذريا لمسار البشيري، فقد حرص والدها مثل بقية أطر وزارة التربية الوطنية فجر الاستقلال، على تلقينها تعليما جيدا ومتينا، فكانت الوجهة مدارس البعثة الفرنسية؛ ديكارت في الرباط وهيغو في مراكش، ثم تعليما عاليا في العلوم السياسية في جامعة فاس. كانت أقرب الأبناء إليه، وإن صح المثل القائل: “البنت سر أبيها”، فستكون هي، إذ لم يمنعها تكوينها الفرنكوفوني من استيعاب مشروع والدها، الذي كان قد أعدها تربويا وفكريا لتصبح عالمة قادرة على تحمل شق منه، هو استعادة المرأة للدور الذي كانت تضطلع به زمن النبوة، وإشراكها في بناء مجتمع العمران الأخوي المنشود، لكن الفكرة لم تكن مستساغة لدى معظم أعضاء مجلس الإرشاد، ذلك أن قضية المرأة حينها؛ كانت غائبة عن اهتمام الحركات الاسلامية في المجمل، فالعمل الفكري الوحيد الذي تناول المسألة كان يتيمة المفكر المصري عبد الحليم أبو شقة: “تحرير المرأة في عصر الرسالة”، ولم تكن بيئة البلد التي شكلتها التحولات المحلية والاقليمية مشجعة على الانطلاق.
كان البشيري في مقدمة من عارضوا الفكرة، مصرا على أن يبقى تأطير أنشطة نساء الجماعة ضمن اختصاصات الرجال، الذين كانوا يقدمون لهن الدروس “من وراء حجاب”، وحدها ندية من تجرأ على إزالة تلك الأستار الفاصلة بين الجنسين، مطالبة أن يكون “عمل الأخوات” مستقلا ماليا وتنظيميا عن عمل الرجال، باعتبار خصوصية العمل واختلاف المهام المنوطة به، وقد وجدت الفكرة دعما من والدها، وكانت تلك إحدى نقاط الخلاف بينه والبشيري، خلاف انتهى بإقالته من الجماعة في 1995.
تزامنت الإقالة وانعقاد “المؤتمر العالمي الرابع للمرأة” في بيكين، الذي أقر فيما أقر مبدأ “مقاربة النوع”، وهو ما منح “عمل الأخوات” فرصة للانطلاق، وأفضى إلى إدماجه في الأجهزة التنظيمية للجماعة، تحت مسمى جديد هو “القطاع النسائي”، لحظة تأسيس الدائرة السياسية للجماعة سنة 1998، ليشرع القطاع بعدها في التنزيل العملي والواقعي لـ”تنوير المومنات”، كتاب ياسين المرجعي في المسألة الصادر في 1996، وأعد القطاع في سبيل ذلك العديد من الأوراق، فكان بذلك أول تجربة لعمل نسائي منظم في تاريخ الحركات الإسلامية يشتغل وفق مشروع.
تزامنت انطلاقة القطاع ووفاة محمد البشيري في عارض صحي مفاجئ، وقد مر اليوم عقدان من الزمن على رحيله، لكنه بقي حاضرا فكرا ونفسا، بل يمكن القول أن تيار “البشيرية” ممثلا في من كان يشاطره الرأي من أعضاء مجلس الإرشاد – أرسلان؛ العلمي؛ المتوكل؛ بارشي – وبعض تلامذته من قدماء الفصيل الطلابي ممن لهم اليوم مسؤوليات تنظيمية، هو من يدبر شؤون الجماعة بعد رحيل ياسين.
4. مقصلة «البناء الجديد» و«سكوت ندية».
حين خرج ياسين من الإقامة الجبرية في ماي 2000، كانت البشيرية قد تموقعت في مفاصل الجماعة تنظيما ودائرة، وكان القطاع النسائي بإشراف من «الأخوات الزائرات»، اللجنة التي عهد ياسين إلى نديّة بتأطيرها للإشراف على العمل النسائي، يتحرك بنشاط في تناغم مع القطاعين النقابي والشبابي، وأدى دورا معتبرا في عملية انفتاح الجماعة على المجتمع السياسي المغربي، حيث بادر في مطلع ماي 2003، إلى دعوة فعاليات نسائية وجمعوية إلى حوار حول قضية المرأة، لكن الدعوة جوبهت بمقاطعة شاملة من قوى اليسار بمختلف مكوناته، ومن جهة أخرى أصبح القطاع بوابة انفتاح الجماعة على الغرب، حيث أجرت ندية عدة حوارات مع وسائل إعلام غربية، وحاضرت في بعض المراكز العلمية والأكاديمية في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.
خروج ياسين من الحصار صحح وجهة الجماعة، وصالحها مع هويّتها التي تأسست عليها، حيث أعاد الاعتبار لـ”مركزية الصحبة”، وأزال عن المفهوم الغبش الذي اعتراه في فترة حصاره، خاصة في صفوف القطاع الطلابي الذي كانت البشيرية قد تعهّدته قبل وبعد رحيله، حتى انتقل المفهوم عنده من بُعده الروحي إلى إطاره التنظيمي (الصحبة في التنظيم)، ففي أحد اللقاءات مع طلبة باحثين منتصف 2001، نبه ياسين الحاضرين قائلا: « الإخوان والأخوات الذين انضموا إلى الجماعة عبر الفصيل الطلابي، ولجوا من النافذة وليس من الباب! ».
في تلك السنة؛ أعادت البشيرية طرح المسألة التنظيمية من جديد، وقدمت في شأنها ورقة سميت فيما بعد “البناء الجديد”، كان جوهرها مركزة القرار وجعل كافة قطاعات الجماعة، بما فيها “لجنة الزائرات”، تحت وصاية مجلس الإرشاد، وهو ما أثار حفيظة القطاع المتمسك بمطلبي “الاستقلالية والخصوصية”، وتأجل النقاش حول المسألة، قبل أن يعود بحدة بعد خروج ندية الإعلامي منتصف 2005، الذي صرحت فيه لصحيفة “الأسبوعية الجديدة” أنها تفضل النظام الجمهوري على النظام الملكي، تصريح جرها إلى القضاء، ورأت فيه البشيرية خطأ تنظيميا جرّ على الجماعة القمع والتضييق الأمنيين، فسعت في حسم المسألة من جديد، لكن وقوف ياسين في صف كريمته بالتزامن مع انطلاق مسلسل محاكمتها، أجل النقاش من جديد.
ثم جاءت هزة 2006، التي كانت أقسى ما عرض الجماعة من هزات، ولئن استطاعت تجاوزها بأقل الخسائر بفضل حضور ياسين الروحي والتنظيمي، فقد وسعت الهوة بين المؤسستين، إلى أن جاءت لحظة الطلاق يوم التنزيل الفجائي لـ”البناء الجديد” مطلع 2012، في وقت لم يعد لياسين أي مسؤولية تنظيمية، وفق ما صرح به ناطقها الرسمي، وقد ألغت الهيكلة الجديدة منصب المرشد العام واستبدلته بمنصب الأمين العام، مستجيبة بذلك لمطلب من مطالب البشيري التي رحل قبل تحقيقها.
منذ تنزيل الهيكل التنظيمي الجديد لاذت ندية بالصمت، وغابت تماما عن المشهد، فلم تظهر بعدها إلا في مناسبتين اثنتين أولهما حفل تأبين والدها نهاية 2012، وثانيهما في مقبرة الشهداء بالرباط يوم وفاة زوجته السيدة خديجة المالكي الشافعي نهاية مارس 2015، وقد أثار ذلك عديدة تساؤلات وقدم له قادة الجماعة تبريرات متضاربة، تهاوت كلها بعد مرور ست سنوات، بما فيها مبرر اعتكافها على ترجمة كتب والدها الذي قال به أمينها العام، فقد كان آخر ما أصدرت رواية خيالية صيف 2012، اختارت لها عنوان «سكوت شهرزاد»، عملت فيها على بعث تلك الشخصية الشهيرة في شكل أحفورة تخرج من أعماق الزمن لتخوض صراع الحضارات بعد تصالح مع الذات، وها قد مرت أكثر من ألف ليلة وليلة على «سكوت نديّة»، ولعلها بذلك اختارت الصمت أسلوب احتجاج وتغيير هادئ، عملا بالحكمة التي تقول: « لابد أحياناً من لزوم الصمت ليسمعنا الآخرون »، وقد وصلت الرسالة.
باحث في تاريخ المغرب