في المغرب، كما في باقي بلدان الجوار، لا يتعرض المرء للاستهداف بسبب موقفه السياسي المعارض فقط، فحتى لو هجر السياسة ولعنها، فإنه لا يأمن على نفسه من أذى الدولة وبطشها، ذلك أن متطلباتها لا تنحصر في لجم مواقف مواطنيها السياسية المعارضة أو المختلفة عن نسقها الرسمي فحسب لتتدخل في سائر شؤونهم العامة والخاصة وتشكلهم في قوالب جاهزة وتبرمجهم برمجة شاملة تتحكم فيهم عبرها عن بعد بسلطة معنوية لا تقل سوءا عن سلطتها المباشرة والتي تكفيها عناء الاستعانة بالعصا الغليظة في كل موقف.

ومن يرفض تلك القوالب المعدة سلفا ويحاول أن يبدو مختلفا فهو يشذ عن الإجماع ويخرج عن المألوف، مما يؤدي به ذلك إلى العزلة عن الإطار الذي ينتسب إليه الذي قد يتبرأ منه وينبذه. المسألة لا تقتصر على الكيانات السياسية والجمعوية التي تتعرض لإعادة تأهيل دائم ضمانا لولاء أشخاصها المطلق للسلطة، فيتم تحذيرهم من تجاوز خطوطها الحمراء بل وتوريطهم في مستنقع فسادها الآسن وذلك كي تظل خاتما طيعا في أصابعها.

الكيانات المهنية والفئوية بدورها تجتاز ذات المعمل المخزني الذي يحدد مواصفات كل منتوج يخرجه سواء كان حزبا أو فئة أو أي تجمع بشري في البلاد كي تبقى خادمة له متماهية مع كل سياساته. وما يزيد في أهمية استغلال هذه الفئات حاجة النظام الماسة لخلق حالة من الفرقة في أوساط المجتمع المغربي الموحد مذهبيا وطائفيا، وذلك من أجل القضاء على لحمته عبر صناعة هويات طارئة ذات بعد مهني ومصلحي، وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا لدرجة أصبحت تلك الولاءات الجديدة أقوى من الولاءات المناطقية في كثير من الأحيان.

صحيح أن حضور تلك الفئات في المجتمع هو أقوى من أن تخلقه السلطة، فهو تعبير موضوعي عن تغييرات حقيقية فرضتها ظرفية سياسية واقتصادية ذات بعد عالمي، غير أن المخزن حاول استثمار تواجدها وتوظيفها لصالحه وتحويلها إلى كيانات مغلقة أشبه ما تكون بالطوائف المتنافرة. فبدل أن تشكل التجمعات المهنية قيمة مضافة وتنوعا يخدم المجتمع بكفاءتها وتفانيها ورساليتها، وبدل أن تمثل حائط صد ضد أية ممارسات سلطوية بحقها وبحق عامة المجتمع آثرت أن تتقوقع حول ذاتها وتخضع للمعايير التي حددها لها النظام المغربي.

وهكذا تحكم النظام في زمام الأمور سواء بالنسبة لأولئك الذين ينتمون لدائرته المقربة من أمنيين وعسكريين أو بالنسبة لموظفي الدولة من رجال تعليم وصحة وغيرهم أو بالنسبة لموظفي وعمال القطاع الخاص أو حتى بالنسبة لباقي التجار والحرفيين ممن يحظون بقدر من الاستقلالية الظاهرة، الكل في دائرة سلطته والجميع خاضع لأساليب ضبطه، فكل فئة منهم قد صبغها بصباغته وربطها بمصالح داخلية تجعلها لا تعترف إلا بالفئة التي تنتمي إليها.

ولم يكتف بذلك فكلما بدا له احتمال ولو ضئيل لوحدة فئة من الفئات والخروج من الحدود المرسومة لها إلا ويسارع إلى تقسيمها وشرذمتها، فيمنع عن مجموعات منها حقوقها وقد يسوي ملفات حتى لو كانت غير مستحقة لمجموعات أخرى فيخلق بذلك حالة من الضغينة والتناحر العبثي بين أبناء الشريحة الواحدة.

ثم إنه يفتح المجال مشرعا أمام الريع لجميع فئات المجتمع المهنية فلكل نصيبه من كعكة الفساد، من المناصب الحساسة ذات الأجور السمينة والتعويضات الخيالية إلى رشاوى صغار الموظفين ومن احتكار كبار التجار إلى تجاوزات صغارهم، وحتى في الوظائف التي ينعدم فيها هذا الشكل من الريع فإن الفساد يتمثل في الخصم من مدة العمل ومن جودته في غياب أية محاسبة، فمن يفترض به حماية القانون هو من يحرس هذا الفساد صغيره وكبيره وتكفي فروض الولاء وطقوس التملق لضمان الإفلات من أية متابعة.

وهكذا يتورط الكل في مؤامرة الفساد ويصبح صوت النزاهة والشفافية صوتا مبحوحا يغرد صاحبه خارج السرب، وقد يتواطؤ كل من له مصلحة مهما كانت صغيرة في إخماده وفي التآمر على صاحبه والشواهد أكبر من أن تعد في هذا السياق.

النتيجة أن سيادة تلك الأمراض الوظيفية في نسيج الفئات المهنية يجعلها عاجزة عن استنكار فساد الدولة الأكبر ما دامت هي أيضا منغمسة في شكل من أشكال الفساد، فتفقد القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وحتى إن اتضحت لها الصورة فإن خوفها من ابتزاز الدولة لها ومن حرمانها من امتيازاتها غير المشروعة يشلها عن انخراطها في أي فعل احتجاجي ضد تجاوزات المخزن. وهو ما يريده النظام المغربي في النهاية أن ينسي المغاربة منطق الحقوق والواجبات ويرسخ منطقه الفاسد منطق الريع والامتيازات المشبوهة.