
"جزيرة العرب لهم لا لغيرهم"
أولا: الجزيرة العربية بين محورية السعودية ومعيقات التغيير
آراء أخرى
لم أكن أريد أن أكتب في هذا الموضوع على هذا الشكل خشية أن أوصف بالقومية والتعصب للعرب دون غيرهم ،ولكن نظرا للمستجدات السياسية والتاريخية الحالية وكثرة هذا التهجم على الدول العربية ، والتخذيل بينها بكل الوسائل ودس رعاة الفتنة والتفرقة في ربوع الوطن العربي، فقد رأيت من الواجب أن أدلي برأيي في الموضوع ولو كان ما كان فيه من خطأ أو توهم بما يمكن أن أوصف به من سلبيات.
ولم أكن يوما أهتم بقضايا الدول العربية الداخلية،وخاصة الخليجية، غير بلادي المغرب ،لأنني كنت أنطلق دوما من مبدأ” أهل مكة أدرى بشعابها “على الرغم من أنني في فترة مبكرة من دراستي كنت قد أنجزت بحثا مهما جدا تحت عنوان “آفاق وحدود التغيير الاجتماعي عند الوهابية“ركزت فيه على حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودورها في التغيير الاجتماعي بالجزيرة العربية والدولة السعودية خصوصا.وقد تميز البحث بموضوعية تامة من غير تعصب استعرضت فيه ما بدا لي من إيجابيات وسلبيات في هذه الحركة ومعها الدولة السعودية في عهدها الأول والثاني.
ومن بين ما تضمنه بحثي هذا هو تناولي لبعض الحكام السعوديين بالدراسة وخاصة الملك الراحل فهد بن عبد العزيز باعتباره أول قائد سعودي عمل على فتح باب الانفتاح وإحداث التغير الاجتماعي بالدولة السعودية قد كان من بينها إضفاء لقب :خادم الحرمين الشريفين على نفسه ومن سيليه في الحكم ،ثم فتح باب تعليم المرأة وإدماجها في قاطرة التنمية والتطوير بالدولة السعودية ،وأيضا سعي بكل قوة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في باب الزراعة وتنويع أساليب الري وغيرها من منجزات.لكن ،ومع الأسف، فما حدث من ثورة الخميني وتوريطها للدول العربية في خلافات وشقاقات متداعية ابتداء من حرب الخليج الأولى ثم الثانية…قد حال دون ظهور ثمرات هذا التوجه بل عاد منطق التشدد الذي تمثله بعض الفئات من علماء السعودية إلى الحضور بقوة ،والذي سيضيق خناق الحرية والتغيير على الشعب والدولة معا.وهذا المسلك هو تقريبا نفسه ،فيما أرى، قد جدده الأمير محمد بن سلمان تحت رعاية والده وذلك باعتباره شابا وناشطا وأكثر قبولا لدى الأغلبية المناسبة لعمره وثقافته ،والتي هي في أمس الحاجة إلى هذا النوع من التوظيف السياسي الذي يؤلف بين جيل الشيوخ والشباب في عهد واحد وتحت قيادة واحدة.وهذا بطبيعة الحال قد لا يرضي الكثير من العلماء التقليديين وكذا رجال المال والأعمال الذين تعودوا أسلوبا متوارثا لا يستطيعون التخلص منه ،ومن ثم فهم يمثلون حجر عثرة في وجه التغيير والتطوير والتخفيف من وقع التشدد والتعصب المذهبي.
كل هذا سيأتي فضلا عن منطق التحرر والسيادة التي تبدو على ملامح هذا الأمير الشاب والذي كان قد أسس له قبله الملك البطل فيصل بن عبد العزيز رحمه الله،إذ أوقف أنفاس الغرب ودول العالم على شفا الاختناق حينما استعمل النفط كقوة ضغط في حرب أكتوبر 1973 ضد العدو الصهيوني الغاصب للقدس وأرض فلسطين،فكان تغيرا ما بعده من تغير وصدمة ما بعدها من صدمة ،ومعه كان عز الدولة السعودية وإبراز مكانتها وقوتها حينما تريد توظيف هذه القوة.
وأرى أنه منذ عهد الملك فيصل هذا ،ومن تبعه من ملوك ،وأعداء الأمة يجتهدون في محاولة إضعاف هذه الدولة ،واحتواء جزيرة العرب والدول المتاخمة لها ،بافتعال المؤامرات وتدبير أسباب الخلاف والشقاق بين الإخوة الأشقاء،سواء داخل البيت الحاكم وخارجه، لحد قيام حروب بينهم كما حدث بين العراق والكويت والسعودية ،وأيضا ما كان يقع من قبل في اليمن وافتعال التقسيم والطائفية .لكن التاريخ أثبت بأن الجزيرة العربية لن تكون سوى للعرب بغض النظر عن تعقد الصراع الظاهر بينهم،وذلك لما هو مستوثق بنفوسهم منذ القدم من :”انصر أخاك ظالما أو مظلوما“،في حين قد يقاتل هذا العربي أخاه لحد الإبادة والتدمير ثم بعد ذلك تتم المصالحة والدية والتحالف من جديد.
ثانيا: استهداف الجزيرة العربية واسترجاع التاريخ
لا أريد أن أستطرد في هذا التوصيف ولكن كان قصدي هو التعرض لما عليه الأمر حاليا من مواقف بعض الدول التي تدعي أنها ذات توجه إسلامي ،غير أنها ليست بعربية ،وترفع شعارات الدفاع عن القدس وحماية الحقوق الدينية والتاريخية للأمة ،وهي في الحقيقة ليست إلا فقاعات تلعب على عواطف الصبيان من سياسيي ومفكري العرب المستلبين و المعربجين في زمننا الفقاعي هذا.
هذه المواقف قد ابتدأت في الظهور بشدة منذ ثورة الخميني بإيران وتأججت عند ما يزعم بالربيع العربي الحارق حيث لمع نجم الإخوان وأردوغان بتركيا ،ومن ثم التقى الفرس مع الترك في لهف وشوق لإعادة عقارب التاريخ نحو الوراء والتذكير بظاهرة الشعوبية في الدولة العباسية حيث كان الانتصار للعنصر التركي والفارسي أيضا ضد العربي. ثم توالي هذا الصراع إلى حين إضعاف الدولة العباسية والتنكيل بها وبخلفائها خاصة ،بل ،نسبة أمور جد سيئة إلى أشخاصها سيكذبها بكل موضوعية وتحليل علمي المؤرخ ابن خلدون في كتابه الرائع:”المقدمة”.وهذا ما ساهم في سقوط الدولة كلية وفتح الباب سهلا لجنكيز خان حتى يفتك بالجميع ويسلب البلاد والعباد، ولم يسلم من بطشه سوى جزيرة العرب ومعها بلاد الحجاز حيث الحرمين الشريفين.
ولقد بلغت ذروة هذا التكالب وخرج للعيان بغير حياء ولا تحفظ عند هذه النقطة الطارئة التي حدثت بين أهل الدار فيما بينهم ،وهي قضية الصحفي خاشقجي وطريقة مقتله داخل حرم السفارة السعودية ،حيث توهم هؤلاء المتربصون بالعرب، والسعودية خاصة، أنهم قد أمسكوا بالعصا من رأسها أو وسطها للشروع في التهديم، فوظفوا أبواقا وقنوات تبدو عربية اللهجة ولكنها خارجة عن أخلاق العرب وهممهم وتضامنهم ،بل سلكوا مسلك أبي رغال في سعيه لإرشاد أبرهة حتى يتمكن من جزيرة العرب وهدم الحرم الشريف،وذلك بكيل التهم مباشرة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان،وهي تُهم لم تثبت بأي دليل ملموس، ولم يكن لديهم من مصدر سوى مزاعم وظنون واهية لا تمت إلى حكم العدالة والقضاء بشيء ،خاصة وأن المصادر إلكترونية محضة ولوحدها يمكن فبْركتها والتلاعب بها كيفما أراد المتلاعب أو تخيل،ولكن هيهات هيهات !فقد وقع المتربص في سوء نيته وكان تدميره في تدبيره.بحيث قد أدى هذا التركيز المفرط على الموضوع وخاصة في بعض القنوات شبه عربية وشبه جزيرية إلى تمييعه ،وتفطن المتتبعون له بأن طرحه على هذا الشكل غير بريء ،ولا علاقة له بمجرد خطأ سياسي أو أمني قد وقع ،وإنما الهدف منه النيل باستقرار العرب وتشتيت شملهم ونقل فيروس الدمار،كما حدث في العراق وسوريا، إلى بلادهم عنوة ومع سبق الإصرار، بحيث قد يصبح ضرر هذا الكيد أشد من قتل خاشقجي أضعافا مضاعفة !
ومن بين ما وقع فيه المروجون لهذه الشرائط وإنطاقها بما لا تحتويه عموما هو أنهم قد اخترقوا حرمة البيوت الخاصة، تجسسا وترصدا ،وهذا ليس من أخلاق السياسة ولا الدين،لأن القنصلية تعتبر وطنا وأرضا لمواطنيها في بلد أجنبي، وحرمة محصنة لا يجوز التجسس عليها ولا اقتحامها مهما كان الحال.ومن ثم فإنه من الناحية القانونية ينبغي أن يحاكم ويعاقب الجاسوس أولا على فعلته ثم بعد ذلك ينظر في صدق النازلة وكذبها ،وهذا يتطابق مع الحكم الشرعي الإسلامي أيضا كما ورد في قصة “عن عمر بن الخطاب إنه كان يعس ليلة فمر بدار سمع فيها صوتا فارتاب و تسور فرأى رجلا عند امرأة وزق خمر فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته ؟ فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين ! إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث: قال الله تعالى: ولا تجسسوا وقد تجسست، وقال: وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت، وقال: إذا دخلتم بيوتا فسلموا وما سلمت . فقال: هل عندك من خير إن عفوت عنك ؟ قال: نعم، والله لا أعود . فقال: إذهب فقد عفوت عنك “.
كما أن المعني بالأمر والمتهم زعما لدى هؤلاء المروجين قد أعلن صراحة براءته من دم المقتول ،والإنكار إقرار ،واليمين على من أنكر والبينة على المدعي . هذا هو حكم الشريعة والدين والقوانين لا ينبغي أن يكون غير هذا.
من جهة أخرى فإن المسؤول الأعلى في السلطة ليس بالضرورة أن يكون مسؤولا عن تجاوزات من نفذ العملية إن كان فيها قتل أو تعذيب وسجن ،فقد يأمر بشيء وينفذ على وجه مخالف له.وهذا الاقتران بين الأمر والتنفيذ لا يحتم تحميل كل المسؤولية للآمر وإنما يعود الأمر إلى المنفذ وتجاوزاته أو تقصيره.
وإليكم النموذج الشرعي الدال على هذا الحكم والاستنتاج وذلك في قصة خالد بن الوليد التي رواها البخاري في صحيحه”من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :” قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا ، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي ، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ “.
ومما قد يحز في نفسي أن أرى كثيرا ممن كانوا يحسبون على العلماء بفتاواهم ومقاصدهم الأصولية ونوازلهم الفقهية وهلم جرى من تخصصات وألقاب سرعان ما انساقوا مع الدعاية وهرعوا لتأليف الفتاوى والمواقف الموجهة والممولة في تصديق لما يروج من أكاذيب وألاعيب حول مقتل هذا الصحفي وغيره ،مع أنهم ليسوا بشاهدي عيان ولا مطلعين على مصادر موثوقة من عين المكان،هذا مع العلم بأن كثيرا منهم أيضا قد كانوا بالأمس القريب يصولون ويجولون في بلاد الحرمين الشريفين معززين مكرمين مادحين ومنافحين عن السعودية وملكلها ومذهبها وسياستها ،ثم فجأة انقلبوا مثل الهواء الخواء على كل فضل وتنكروا لكل جميل ،وهذا دأبهم على كل حال.
ثالثا:المراهنة على طي صفحة الخلافات واستدراك ما فات
لا أريد أن استرسل في الموضوع لأنه قد يطول بنا ونتخطى عتبات المقصود،كما أنني لست بصدد تبرئة أحد أو إدانته مهما علا أو دنا شأنه لأن هذا الموضوع من شأن القضاة لا غير ،ولكن ما أود إيصاله هو أنني شخصيا أرى ،مع احتمال الخطأ والصواب، بأن الأمر مفتعل وأن المستهدف هو الوطن العربي وخيراته ووحدته لا السعودية وحدها ،كما أن القضية المروج لها لحد الغثيان هي محاولة يائسة لهذا المدخل الصعب الاجتياز والاختراق كما عنونت المقال به وهو: الجزيرة للعرب لا لغيرهم.في حين ،وهذا ليس من مهامنا، أن علاقة كل دولة مع مواطنها قد يعتبر شأنا داخليا ولها الحرية في التصرف معه بحسب رأي الحاكم ومصلحة الأمة والضرر الذي قد يسببه لها،ولا توجد دولة من الدول في العالم إلا وقد اغتالت وعذبت واستنطقت واختطفت،وتلك هي مذاهب السياسة وأحكامها ولكن لا تتابع دول إذا كانت من جنس الكبار والمتقدمين ولكن يصب الزيت على النار في بلدان الصغار ومن ليس لهم نووي.
وهذه التصرفات إن وقعت فهي من تقدير الدولة نفسها لأنها هي المالكة لزمام المواطن وولية أمره وتعرف خباياه ودسائسه وهل خائن أم بائن،فإن ظلمت فهي ظالمة وإن طبقت الحد المناسب فهي أيضا ظالمة في نظر من وقعت عليه العقوبة ومن ينتهزها لكي يؤلب أو يحرض على التمرد وغيره.ولا يمكن أن يدخل بين الظفر واللحم إلا الوسخ كما يقول المثل المغربي الشهير.
ونقطة أخرى أنبه عليها وهو أن السعودية لها نوع تعظيم لا يمكن نكرانه لشعائر الله تعالى في الحرمين الشريفين ،وما تبذله من مجهودات قد يشهد به القاصي والداني ،ونخشى أن يهتز استقرارها فتضيع هذه البقاع المعظمة وتنتقص حرمتها فنصبح بدل مصيبة بيت المقدس في مصيبة أكبر وهي تدمير لكل حرم الإسلام والمسلمين ،لا قدر الله ، فيضيع معه الرأسمال المادي واللامادي معا!.
كما أدعو السعودية وكل البلدان العربية إلى إعادة اللحمة فيما بينهم وتصحيح أخطائهم الماضية والتي هي كثيرة ومثيرة عسى أن يحافظوا على وجودهم وحرمهم،وبالتالي أدعو ذوي المال والثروات إلى المساهمة في إعادة إعمار ما تم تدميره بالخطأ وسوء التقدير من بلدان مثل العراق ،وسوريا خاصة، وغيرهما من البلدان العربية الإسلامية عسى الله يؤلف بين قلوبهم ويذهب غيظهم وأحزانهم.
ومن هنا قد جاء دافع تدخلنا وتنبيهنا المتواضع في هذا المقال، الذي لا مصلحة ذاتية لدينا فيه بل لدينا وجهة نظر سياسية ومذهبية قد تخالف المذهب القائم هناك،ولم نطلب أو نستفد يوما ما بصفة شخصية من السعودية السخية ولا حتى قمنا بزيارة الحرمين الشريفين لحد الآن ،اللهم إلا ما تربط بلدنا وشعبنا ودولتنا المملكة المغربية بالدولة السعودية وشعبها وبقاعها من أواصر الأخوة والتعاون ورابطة الدين والعروبة ،حيث ستبقى جزيرة العرب للعرب إلى الأبد.والله ولي التوفيق
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الأول ،وجدة