نظمت جمعية أعضاء المفتشية العامة للمالية بتعاون مع وزارة الاقتصاد والمالية “الملتقى الدولي الثاني حول إعادة النظر في النموذج التنموي لمواكبة التطورات التي يشهدها المغرب” في الفترة الممتدة ما بين 19 و20 أكتوبر الجاري.

وأكد المشاركون على أهمية تثمين الرأسمال البشري كمرتكز أساسي للنموذج التنموي، والتوجه نحو اقتصاد المعرفة، وتبسيط المساطر ومواكبة التحول الرقمي الذي يعرفه العالم، والأخذ بعين الاعتبار أنواع المهن المستقبلية وتطوير المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا.

ومساهمة في هذا النقاش الهام، حاولت تحديد أهم مقومات البناء التنموي، بعدما ذكرت بعض التحديات الاجتماعية التي يعيشها المغرب والذي يعتبر من البلدان النامية، ويتوفر على مجموعة من الظروف والإمكانيات التي تجعله في مقدمة الدول التي تسعى إلى إقلاع اقتصادي واجتماعي. وفي مقابل ذلك يواجه العديد من التحديات الاجتماعية في مجالات متعددة، عبرت عنها بوضوح موجة الاحتجاجات التي عمت الكثير من مناطقه. وهذا ما دفع العاهل المغربي إلى التصريح في إحدى خطبه الأخيرة [1]عن حاجة المغرب إلى بناء نموذج تنموي جديد.

فما هي أهم التحديات الاجتماعية التي تواجه المغرب في طريق إقلاعه الاقتصادي والاجتماعي؟ وماهي مقومات بناء نموذج تنموي جديد جدير برفع كل هذه التحديات ؟

التحديات الاجتماعية التي يعيشها المغرب

تفاقمت في المغرب مؤخرا العديد من المظاهر الاجتماعية التي تعبر عن عدم نجاعة البرامج التنموية السابقة في إخراج البلاد من مظاهر التخلف والهشاشة، وتجلى ذلك بوضوح في خروج العديد من المواطنين في مظاهرات احتجاجية يدعون فيها ألى الوقوف على مظاهر الخلل. وسنحاول في هذا المحذور التطرق إلى أهم التحديات الاجتماعية.

1)    التعليم : يعتبر التعليم  أهم رافعة من روافع التنمية في جميع البلدان، وتدل مختلف الاصلاحات والمقاربات التي عرفها هذا المجال منذ الاستقلال، إلى أن التحدي مازال مرفوعا، بالنظر لمستوى جودة التعليم ونسبة الهدر المدرسي، وكذا بالنظر إلى توفير كفاءات ماهرة يحتاجها سوق العمل. كما أنه لازال بعيدا عن متابعة التكنولوجيات الجديدة للمعلومات والثورة الرقمية الجارفة.

2)    الصحة : إن الاهتمام بصحة المواطنين يدفعهم إلى ان يكونوا مواطنين أصحاء يقومون بمختلف الواجبات التي تفرضها المواطنة، سواء كانوا من الفئة النشيطة أو الغير نشيطة. ومجال الصحة أيضا عرف إخفاقات عديدة، تجلت بعض مظاهرها في ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات، ونقص حاد في عدد الأطباء والممرضين مقابل عدد السكان، فضلا عن غياب التجهيزات الضرورية للعلاج أو تعطلها في الكثير من المراكز الصحية.

3)    الشغل : تخرج الجامعات المغربية ومؤسسات التكوين المهني الخاصة والعامة الآلاف من الشباب المغاربة، الذين يطمحون إلى عمل دائم يوفر لهم مصدر رزق شريف، فضلا عن الكثير من الشباب الذين لم تسمح لهم ظروفهم المخلفة من متابعة وإتمام دراستهم. وحينما لا يجد كل هؤلاء مصدر دخل مشروع فإنهم لا محالة يلتجئون إلى الانحراف والإجرام وتعاطي المخدرات وغيرها. وضروري في هذا السياق التذكير بأن نصف المهن الموجودة الآن ستختفي في غضون الخمسة عشر سنة القادمة.

4)    السكن : رغم العديد من المبادرات التي اتخذت لتوفير السكن اللائق لجميع المواطنين، لا زال العديد منهم يعاني من السكن العشوائي أو دور الصفيح أو التشرد في الشوارع. ويرجع ذلك إلى الكثير من الاختلالات، لعل أهمها شراهة ما يسمى إعلاميا ب“مافيا العقار” الذين يوفرون سكنا لا يرقى لإشباع حاجيات المواطنين بثمن لا يستطيع أغلبهم توفيره بسهولة.

5)    القضاء : يقال “العدل أساس الملك“، ولا تنمية بدون وجود قضاء قوي ومستقل يستخرج حقوق المواطنين وينصف ضعيفهم على قويهم، وفقيرهم على غنيهم. ومن أبرز مشاكل هذا المجال ، هو تأخر صدور الأحكام لشهور وربما لسنوات في الكثير من القضايا بسبب كثرة الإجراءات وهو ما يضر بمصالح المواطنين.

لعل هذه أبرز التحديات التي تواجه التنمية الاجتماعية في المغرب، وإلا فإن المجال لا يتسع لذكر التحديات الأخرى.

ومن أجل رفع كل هذه التحديات لا بد من بناء نموذج تنموي جديد.

مقومات بناء نموذج تنموي جديد

دعا الملك محمد السادس في إحدى خطبه الأخيرة الفرقاء السياسيين إلى التفكير في إبداع نموذج تنموي جديد تسير وفقه البلاد. وفي نظري لا بديل من أجل ذلك من اعتماد الثلاثية التالية : حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. وهي مقومات فلسفية وفكرية أكثر منها إجراءات عملية، ينبغي أن تستحضر عند إصدار القوانين وعند السهر على تطبيقها.

1)    الحرية : دعت مختلف الدساتير المغربية إلى توفير كل أشكال الحرية المشروعة للمواطنين، لكن الأمر جاء بشكل واضح وجلي في دستور 2011 الذي خصص فصولا متعددة للحديث عن الحريات الأساسية والسياسية، وهو ما يِؤكده قانون الحريات العامة والكثير من القوانين الأخرى. فلا بد من استحضار مبدأ الحرية في كل القوانين والإجراءات بل وفي كل المرافق العمومية من أجل دفع المواطنين إلى الإبداع في كل المجالات والمشاركة القوية والفاعلة في بناء المشروع التنموي.

2)    الكرامة : رفع التحديات التي ذكرناها سابقا هو ما يحافظ على كرامة المواطنين ويرفع لديهم الشعور بالانتماء والمواطنة، ما يدفعهم إلى بذل المزيد من الجهود في المحافظة على البلد وتراثه وثرواته ومقوماته ومقدساته.

ولعل تميز المغرب على المستوى الدولي في المجالات العلمية والاقتصادية وغيرها يزيد من رفع الشعور بالكرامة لدى المواطنين. 

3)    العدالة الاجتماعية : هو مطلب كل التيارات الاجتماعية والاقتصادية بمختلف توجهاتها. ومن مظاهرها العدالة بين جميع المواطنين وجعلهم سواسية أمام القانون بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية أو غيرها. ومن ذلك توفير العدالة بين جهات المغرب في فرص الشغل والتعليم والصحة، ودعم المبادرات والخصوصيات المحلية، فضلا عن توفيرها داخل الجهة الواحدة بين مختلف القطاعات الحكومية وغير الحكومية. ومن ذلك أيضا إنصاف المرأة وإيلاؤها المكانة التي تستحقها جنبا إلى جنب شقيقها الرجل، في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

إن رفع التحديات الاجتماعية التي يعرفها المغرب في مجالات متعددة، لا يستقيم إلا ببناء إطار نظري قابل للتطبيق أساسه الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهيكلة الإصلاحات المستنيرة والمتبصرة في ميادين التعليم والصحة والشغل والسكن والقضاء.

[1]  خطاب الملك محمد السادس في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية في 13 أكتوبر 2017