الاغتيالات السياسية فكرة انتحار أخلاقي بدهية لا تحتاج لإدارة استخباراتية أو تآمر خارجي. إنها أفعال انتقامية قريبة من السيطرة العمياء على المعارضات والتنظيمات الأيديولوجية والفكرية والعداوات السياسية الكامنة وراء التقسيمات في الحكم والسلطة والقبلية والعصبيات المتخلفة.

    كل الاغتيالات التاريخية الشهيرة تؤكد هذه الرؤية، على الأقل في السياقات الكبرى التي تؤطر علاقة السلطة بالمعارضة، وحدود الاصطدام بينهما، بالإضافة لفواعل هذه العلاقة التي تندرج ضمن ما يسميه علماء السياسة بالعداوة القاطعة، من حيث كونها تشكل ثنائية يستحيل معها إعادة صياغة عقد سياسي متفاوض حوله.
    ما الذي يحدث القطيعة بين السلطة والمعارضة، للدرجة التي يصبح فيها العيش المشترك حلما بعيد المنال واعتراكا تبنيه علاقات اشتباك مستمر وانفلات في وجهات النظر باختلافات لا حدود لها ولا سقوف أو ضمانات؟ 
     هل هو عناد التخاطب وعنجهية التسلط الطغياني؟ أم سوء فهم الحوار الديمقراطي حسب التأويل الجديد للدولة المدنية؟ 
    هل تحتاج القطيعة بين السلطة والمعارضة لحالة تفكيك أنثروبولوجي، من حيث كون الأخير يجمع بين علم الإنسان الاجتماعي ومثيله الثقافي، وكلاهما يدرسان قيم ومعايير المجتمعات، حتى يتسنى فهم مناطق النفور بين النقيضين، ومحاولة فك الارتباط التثويري بينهما، بما يجعل القصد في الفهم الديمقراطي لسيرورتهما واضخا وشفافا، في سياق المفهوم العام للدولة المدنية، التي تعني من ضمن ما تعنيه ” القوة الاجتماعية المنظّمة المبنية على أسس ديمقراطية، حيث تتداول فيها السلطة بشكل سلمي يقوم على الانتخاب والتفويض، وتُمنح فيها الحقوق بناءً على المواطنة، بصرف النظر عن الملة، أو اللغة، أو أيٍ من عناصر التعصب الاجتماعية والثقافية والسياسية والقبلية ..”؟
   الذي يجلي هذا التحليل عن مكنوناته، في الإطار الذي اخترناه كمبدئية، هو حالات العنف السياسي التي أضحت ظاهرة كونية بليغة العواقب، تنجرف معها تراكمات الاحتقان والضغط الاجتماعي بمبررات لا تختلف عن الأبعاد التي لا نجد لها تأويلا غير ما ادرجته التفسيرات النظرية للعنف السياسي، كالثقافة المجتمعية والسلطة السياسية وعوامل الإحباط واللاجدوى ضمن ما يعرف بالعامل النفسي.
     والأخطر في كل هذا وذاك لجوء الأنظمة السياسية لما فوق العنف السياسي الرسمي؛ وهو ما يجسد وضعية الانفصام النفسي في المنظومة السياسية المتأهبة لكل خطر موجه، حيث يلجأ الحاكم للتصفية الجسدية أو ما يسمى في الأدبيات السياسية بالاغتيال الدموي.
من أجل تحقيق قاعدة الاستبداد المدبر ، بحسب تعبير فيليب بروا الذي يعتبر القتل السياسي جنونا استبداديا ناتجا عن اضطرابات عقلية لها علاقة بتركيبة الحاكم السيكوباتي الدموي؛ الذي لا يرى إلا نفسه ولا يؤمن بغيره ويعتبر كل من حوله متآمرا، فكيف بالمعارضين لطريقة حكمه؟!
    الإحالة على قضيتي الشهيد المهدي بن بركة والمغدور جمال خاشقجي، تدفع باتجاه تحليل الظاهرتين، على نحو يكشف زوايا النظر لتجربتين مختلفتين تماما. 
    تجربتان لا يمكن إخضاعهما لنفس الأدوات التحليلية. ولا يصح وضعهما على نفس القيمة التاريخية والسوسيولوجية أو حتى السياسية.
فالأحرى وضعهما في سلة واحدة، وبنفس أنساق ومعايير التحليل والتفسير الإعلامي والسياسي.
    ليس الأمر متصلا بطريقة تصريف حدثين تاريخيين استنفرا كل هذه الكمية الخارقة من العواطف البشرية وردود الأفعال المتباينة من شتى أنحاء العالم!

ولكنه أيضا يطرح أكثر من هاجس حول مدى تأثير الإعلام الرقمي في السياسات الدولية، ومدى قدرة الصناعات الاتصالاتية الجديدة على نقل المعلومات واختزالها وتوجيهها.

   وهذا بالتحديد ما التقطته الطفرات المتسارعة لخدمات الاتصال المستخدمة في سرعة ويسر وصول المعلومات والتواصل بين العالمين ومتابعة الأخبار الخاصة باغتيال المعارض جمال خاشقجي. الشيء الذي انعكس تماما على مستوى القابلية والتلقي للحدث واقترابه من نبض المجتمع الدولي.

    بخلاف تمايز هذه الخصيصة في مسألة اختطاف وقتل الزعيم السياسي المهدي بن بركة، حيث امتدت خيوط الكشف عن حقائق الحادث الأليم سنوات عديدة، مع ظهور روايات متضاربة أفشلت كل مساعي الوصول إلى نتيجة كاملة.

    يوم 29 أكتوبر الجاري ستحل الذكرى 52 لاغتيال المهدي بن بركة، وهي مناسبة تصادف استمرار الجدل الدولي في الكشف عن مدبري اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي بالقنصلية التركية. سيكون من الحتمي إعادة الاعتبار لكاشفة الزمن ضمن نسق يعيد صياغة مفهوم كوني للحقوق السياسية المهدورة بفعل الاستبداد والتسلط. سيكون من الواجب إعمال قيم وجود الاختلاف في كل مناحيه الاعتقادي والديني والسياسي. وهو مطلب كان المرحومان، مهما اختلفنا حول طريقة تقييمنا لموقعهما الفكري والسياسي، يمارسانه عن قناعة ورؤية نافذة، ويطمحان إلى تعميم السلوكيات المبنية على الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.

* [email protected]