اشتُهر عن  الرئيس الفرنسي الأسبق ديغول أنه لمّا سُئل عن ما هو أسوأ يوم في تاريخ فرنسا، أجاب: هو اليوم الذي لا تصدر في جريدة “لوكنار أونشيني”، والمعروف أن هذه الجريدة الساخرة كنت متخصصة في السخرية من الجنرال ديغول، وتفرد له صفحات خاصة من أجل انتقاد سياساته، موظفة في ذلك فن الكاريكاتير، حتى قيل أن ديغول تصفّح يوما الجريدة، ولم يجد أي شيء ضده، فحمل سماعة الهاتف واتصل بهيئة التحرير متسائلا: ألم تجدوا هذا اليوم في أنفي اعوجاجا أو شيء من هذا القبيل لكي تكتبوا عنه؟

إن إيراد هذه القصة يهدف إلى إبراز  الدور الذي يؤديه الإعلام الحر والمستقل في بناء الديمقراطيات الحديثة، حيث ساهم الاعلام في توعية الرأي العام، وتوجيهه نحو الاهتام بقضايا الحقوق والحريات، وتسليط الضوء على مثالب السلط بكل أطيافها، إلى درجة أن الاعلام نال شرف تسمية السلطة الرابعة، وهي سلطة عزّزت السلط التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأصبحت حرية الاعلام وقوته دليل عافية المجتمعات وديمقراطيتها، فكلما اتّسعت حرية الإعلام وتكرّست استقلاليته، كلما ساد التسامح، وعمّت التعددية، بحث أضحى مبدأ حرية الاعلام بمثابة الشيء المقدّس الذي لا يمكن التنازل عنه أو التفريط فيه، وإلا فإن المرء يمسك المقص ويقطع لسانه بنفسه إن هو ساير التضييقات المفروضة على حرية التعبير التي تعتبر الصحافة والنشر إحدى أبرز تجلّياتها، ومن هنا جاءت التشريعات المحلية والدولية التي تدعو إلى حماية وسائل الاعلام وتمكينها من المعلومات المرجوة، والحفاظ لها على الوضع المتقدّم، سواء في القضايا الداخلية أو أثناء الصراعات الدولية.

تَخترِق الوسط الإعلامي مجموعة من الممارسات الحاطّة بوظيفة السلطة الرابعة، وذلك بتشجيع ومراقبة من السلطة المُهيمنة، وبدعم منها

هذا على مستوى المبدأ العام السائد في العديد من الدول الديمقراطية وبعض البلدان السائرة في طريق النمو، أما في البلدان التي يسودها الاستبداد والحكم المطلق، ولا صوت فيها يعلو على صوت “الزعيم”، فإن الصحافة تقترن بكل ما هو سيء، وتَخترِق الوسط الإعلامي مجموعة من الممارسات الحاطّة بوظيفة السلطة الرابعة، وذلك بتشجيع ومراقبة من السلطة المُهيمنة، وبدعم منها، إذ تنتشر وسائل الاعلام الناطقة باسم السلطة والتي تكرر نفسها في أكثر من عنوان، مستفيدة من الريع الذي توفرها لها “الأجهزة” والإكراميات التي يمن عليها بها أصحاب الرساميل، وهكذا تأتي النتيجة طبعا في غير صالح الحقيقة، ويتحول الجسم الاعلامي إلى أداة لإضفاء المشروعية على من لا يمتلكها، وتُزوّر الحقائق، ويتم التعيتم على ما يبنغي للرأي العام أن يعرفه، في الوقت الذي تُقصَف فيه عقول المواطنين بأخبار ثانوية أو تافهة، يُراد لها أن تكون في العناوين الرئيسية، حتى يحصل الالتفاف على القضايا الوازنة، ويتم تمرير السياسات المضرة بالمواطن.

أما إذا أرادت بعض الأوساط الإعلامية الانفكاك من هذا الجو الموبوء، ومحاولة سلك مسار الاعلام الحر والنزيه، على درب الصحافة العالمية، وتفعيل ما تُتيحه القوانين والمواثيق الدولية، ورفض الخضوع للإملاءات السلطوية، فإن مصيرها التضييق، وكيل الاتهامات العارية من أي مصداقية، وافتعال القضايا المفبركة، وتشويه السمعة، والحرمان من الدعم، وإثقال مهنة الصحافة بالقوانين الجائرة، وفتح السجون لحملة الأقلام، وغيرها من الأساليب الاستبدادية التي تكاد تنقرض في أغلب الدول الديمقراطية، إلا في البلدان التي يأبى حكامها السير على منهج العدل، في مقابل سيادة الحكم المطلق الذي يتحكم في المواطنين، ويحصي أنفاسهم، ويوريهم ما ينبغي أن يعرفوه، ويعلّمهم ما يراه مناسبا لهم حتى لا يفهموا ما الذي يحصل ولا ما الذي سيحصل، وذلك بالتحكم في كل الأدوات الأيديولوجية للدولة من إعلام ودين ومدرسة، والنتيجة المُحقّقة من كل هذا المسار الإستحواذي، فهي تحويل السلطة الرابعة إلى سلطة راكعة على حد تعبير  الكاتب المصر ي بهاء طاهر.

إن الثمن الذي تدفعه الشعوب والدول جرّاء حرمانها من إعلام حر ونزيه، وتسييد إعلام الدعاية الذي يُسبّح باسم السلطة التنفيذية، هو أن تغيب الحقائق، وينتشر الفساد، وتعمّ الفوضى، ويغيب الصوت المُنتقِد، ويسيطر الخطاب الواحد والصوت الفريد، ويتم تصوير الأشياء على غير حقيقتها، وهنا يقع المجتمع ضحية تجهيله، وتغييب وعيه، مما يساهم في إفلاسه ماديا وقيميّا واجتماعيا، فالشعوب التي أعلت من حرية الإعلام وبوّأتها المكانة العليا لم تفعل ذلك من أجل سواد عيون الاعلاميين ولا رغبة في تحصينهم أو جلعهم فوق القانون، وإنما من أجل حماية مهنة الصحافة، والحفاظ على الوسائط الضرورية للتعبير  عن الرأي بحرية، والاطلاع على ما يجري في دهاليز السلطة.

© حقوق النشر محفوظة لكم2. كوم(2015)