في ما أسلف ما يغني عن الشرح أو الاستفاضة في القول، فقد أوضح صاحب المقدمة المعنى وأدرك المقصد والغاية. لكن لا بد من توطئة تمهد لسياق آخر  غير ذاك السياق .

فقد أسالت سهرة جنيفير لوبيث وصويحباتها في مهرجان “موازين” مدادا كثيرا ، ورافق فيلم نبيل عيوش عن الدعارة “الزين اللي فيك” جدل صاخب لم ينقطع. إذ استنكر فريق من الناس مظاهر العري الفاضحة التي اقتحمت منازل المغاربة عبر شاشات التلفزيون العمومي فيما استهجن آخرون الإساءة لصورة المرأة في فيلم سينمائي انتقد كثر بناءه الدرامي الهش ولغته الساقطة. أبعد من هذا الجدل وسياقات تصريفه من قبل الفرقاء، ثمة في ظني، قراءة أخرى وجب الوقوف عندها وعدم الانصراف عنها بما حفلت به الساحة من تشويش ولغط.

في النازلة الأولى، انصب النقاش حول وجاهة نقل تلفزيون عمومي سهرة تنشطها فنانات شبه عاريات، وسرعان ما انزلق الى دعوة صريحة الى وجوب محاسبة القائمين على البث . وبدا أن الإسلاميين الذين يقودون الائتلاف الحكومي وجدوا في الجدل المتأجج فرصة للمطالبة برأس مدير القطب العمومي يدعمهم في ذلك موقف شعبي عريض ناقم على ما بُث من وصلات رقص خادشة للحياء. وتُرجم هذا التوجه عمليا بمطالبة رئيس الحكومة المغربي، عبد الإله بنكيران، بفتح تحقيق في نقل التلفزيون لحفل جنيفر لوبيث لما تضمنه من “مشاهد ذات إيحاءات جنسية .. مستفزة للقيم الدينية والأخلاقية وصادمة لشعور المشاهدين”، وأحال القضية الى الهيئة العليا للسمعي البصري – ذات الصبغة الاستشارية- تاركا لها صلاحية النظر في المسألة والبت فيها.

غني عن القول إن تفشي الظاهرة يقيم الحجة على فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة وعجزها عن تطويق الفقر والهشاشة وأحزمة البؤس.

كان حريا برئيس الحكومة، على الأقل من باب الانسجام مع مرجعيات حزبه، أن يمارس الصلاحيات الموكولة إليه بمقتضى الدستور ويحاسب المسؤولين عن هذه النازلة عقابا أو إقالة.

عوضا عن ذلك آثر بنكيران، وقد أقر بأن لا سلطة له على التلفزيون العمومي، استثمار “الحشد الشعبي” وتوظيف حالة الغضب العام التي ترتبت عن بث السهرة سياسيا ويتستر وراء مشاعر شريحة من المواطنين وينصب نفسه مدافعا عن قيمهم وأخلاقهم ليغطي على فشله في إزاحة موظفين يعطلون منذ عقد ونيف أي مسار للإصلاح في التلفزيون العمومي. هي حالة تدلل مرة أخرى على تفريط رئيس الحكومة المستمر في صلاحياته – ذلك دأبه منذ ثلاث سنوات ونصف – وتلافيه الاحتكاك أو الصِّدام مع كل ما من شأنه أن يجر عليه غضب المؤسسة الملكية. 

من الواضح أن المغاربة ليسوا كلهم على قلب رجل واحد تجاه “موازين” . بعضهم يرى فيه منبرا لنشر قيم الانفتاح والتلاقح مع الحضارات والبعض الآخر يرى فيه شرا مستطيرا يروج للفسق والفجور. وبين الرؤيتين حقيقة واحدة مفادها بأن المهرجان محصن ومنزّه ما دام الملك من يرعاه وفي ذلك فصل المقال، وما دون ذلك جعجعة بلا طحين. 

في النازلة الثانية، أبان المغاربة عن تجذر عميق للنفاق في سلوكهم الاجتماعي. فقد ساءهم أن يختار مخرج سينمائي ظاهرة الدعارة موضوعا لفيلمه السينمائي، فما ألفوا أن يروا نفسهم في مرآة عاكسة تعري نواقصهم وتفضح عيوبهم دونما مساحيق أو رتوشات. وبصرف النظر عن المسوغات التي ساقها مناهضو الفيلم سيما ما يتصل بلغة الحوار السوقية أو المشاهد الساخنة المبتذلة، فان اللغط الذي رافق ما تسرب من مشاهد الفيلم حجب الرؤية عن النقاش الحقيقي الذي يتجنبه الجميع. فليست الدعارة إلا مسكوت عنه لا نتعرض له إلا لماما وفي معظم الحالات تلميحا لا تصريحا. 

لا أحد سعى الى البحث عن أصول الظاهرة ومسبباتها وهي معلومة للكل غير مجهولة. والأهم من هذا وذاك أن لا أحد ساءل الدولة عن ما قامت به لاحتواء الدعارة أو الحد منها وقد نالت من سمعة المغرب وعرضه وحولته الى مرتع للمفسدين والعابثين. غني عن القول إن تفشي الظاهرة يقيم الحجة على فشل السياسات الاجتماعية والاقتصادية للدولة وعجزها عن تطويق الفقر والهشاشة وأحزمة البؤس. والأنكى أن ثمة جهات في الدولة غضت الطرف عن الدعارة وراهنت عليها للتنفيس عن الاحتقان الاجتماعي بجعلها مصدرا للدخل يعُول أسرا معوزة عديدة فيما يسرت جهات أخرى خروج آلاف المغربيات الى دول الخليج وأوربا وحتى في آسيا ومجاهل إفريقيا لبيع أجسادهن. هي مرة أخرى، أعراض الأزمة الأخلاقية التي أوردها ابن خلدون في باب بسطه لمسببات انهيار الدول والحضارات والتي صنفها ضمن مرحلة الانغماس بالترف والرخاء والتحلل الأخلاقي، وانزلاق العادات إلى المُنكر. وفي هذه المرحلة تدخل الدولة مرحلة الخطر الذي يُنذر بالاضمحلال والتدهور.  

© حقوق النشر محفوظة لكم2. كوم(2015)