
سايكس بيكو الجديدة أو إعادة تشكيل المنطقة بأدوات الداخل

تحتل منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا موقعا استرتيجيا، جعل منها عبر التاريخ محط اطماع القوى الاستعمارية؛ خاصة الحديثة منها. فبعد تمدد البورجوازية خارج حدودها القومية، شهدت هذه المنطقة موجات من التدخل الغربي؛ الذي اتخد اشكالا والوانا مختلفة ومتعددة ومعقدة. ومن ابرز تجليات هذا التدخل، تلك المعاهدة السرية التي هندسها كل من ممثل بريطانيا “مارك سايكس” وممثل فرنسا “جورج بيكو”، والتي عقدت يوم 16 ماي 1916، لاقتسام المشرق العربي، بعدما تهلهلت الامبراطورية التركية (العثمانية)، نتيجة انتشار الفساد في دواليب ادراتها وطغيان حكامها.
آراء أخرى
وبموجب هذه المعاهدة، تم تقسيم الشرق الاوسط، باستثناء شبه الجزيرة العربية، إلى خمس مناطق؛ ثلاث مناطق ساحلية، وتضم السواحل السورية واللبنانية(المنطقة الزرقاء) التي اعطيت لفرنسا. والمجال الممتد من السواحل العراقية إلى بغداد (المنطقة الحمراء) والتي اعطيت لبريطانيا. وفلسطين(المنطقة السمراء)، التي حددت المعاهدة بعض مجالاتها كمنطقة “دولية”، ليتم تفويتها فيما بعد للكيان الصهيوني، بموجب وعد جيمس بلفور يوم 02 فبراير 1917، ثم المنطقة الداخلية السورية، (مجال نفوذ فرنسي) والمنطقة الداخلية العراقية (مجال نفوذ بريطاني).
والمحلل لهذه المعاهدة، التي تضم 12 بندا، يتضح له انها وجدت لتكريس حدود الدم، على أسس طائفية واثنية؛ رغم المواجهة الشرسة التي لقتها من طرف رموز الثورة السورية الكبرى انذاك، تحت شعار: الدين لله والوطن للجميع؛ إلى السلاح إلى السلاح أيها العرب السوريون(سلطان باشا الاطرش). لكن رغم ذلك بقيت بذور الفتنة مشتعلة، نتيجة استبداد حركات التحرر بعد وصولها إلى سدة الحكم، نتيجة “تخشبها” على كراسي السلطة، “وبهذه الطريقة يكون قد تم تقديم الثورة، مكبلة اليدين والقدمين، قُربان على مذبح البرجوازية الجديدة”(ا.ن)، التي شكلت أنظمة سياسية قائمة على “الاستبداد عبر الاستفراد بالسلطة، وبالثروة، وبالمنابر الإعلامية والثقافية، وبالحقيقة”(ط.ت)، مهادنة وتابعة للغرب، من جهة وصعود الايديولوجيات فوق الوطنية، الباكية على عنجهية الاتراك وتسلطهم، من جهة ثانية.
عامل “الداخل” هذا، جعل من المنطقة عرضة لتحكم “الخارج”. وما التوصية التي أصدرتها المنظمة الصهيونية العالمية في القدس سنة 1982 والتي نشرتها مجلة “كيفونيم” ، إلا دليل واضح على خطط “الخارج” وذراعه القذرة في المنطقة، لإعادة تشكيل “الداخل” بواسطة جماعات التطرف وطغاة النظام الامني.
جلي اليوم مشهد التقسيم الناشيء، عبر خط مراكش- البحرين، لمن لم يتكلس لبه، فبوصلة الأحداث الحالكة ترشح بالعبث وكل انواع الشرور. لكم أن تتأملوا قليلا ما سطره بني صهيون لعلكم تعقلون: “إن مصر كجسد مركزي أصبح جثة هامدة، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الصراع الذي يزداد حدة بين المسلمين والمسيحيين، وتقسيمها إلى مقاطعات جغرافية مختلفة يجب أن يصبح هدفنا السياسي في التسعينات على الجبهة الغربية. وبمجرد تفكيك مصر وحرمانها من السلطة المركزية، ستعرف دول مثل ليبيا والسودان، ودول أخرى نائية نفس المصير. إن إنشاء دولة قبطية في مصر العليا وخلق كيانات جهوية ضعيفة الأهمية. يعتبر مفتاحا لتطوير تاريخي تأخر في الوقت الراهن، بسبب اتفاقية السلام، ولكنه آت حتما على المدى البعيد.
ورغم ما يظهر، فإن الجبهة الغربية تمثل مشاكل أقل من تلك التي تمثلها الجبهة الشرقية. ثم تقسيم لبنان إلى خمسة مقاطعات يعد تجسيدا مسبقا لما سيحدث في العالم العربي برمته. كما إن تفجير سوريا والعراق إلى مناطق على أساس عرقي أو ديني، يجب أن يصبح على المدى البعيد هدفا أوليا بالنسبة لإسرائيل. والمرحلة الأولى لذلك هي تحطيم القدرة العسكرية لهذه الدول.
إن البنيات العرقية لسوريا تعرضها لتفكيك قد يؤدي إلى إنشاء دولة شيعية على طول الساحل وإلى قيام دولة سنية في منطقة حلب ودولة أخرى في دمشق. وكيان درزي قد يتمنى تكوين دولة خاصة به- ربما فوق منطقتنا (الجولان)- وعلى كل حال مع حوران وشمال الأردن… إن مثل هذه الدولة على المدى البعيد، قد تكون ضمانة للسلم والأمن في المنطقة إنه هدف في متناولنا.
إن العراق كدولة غنية بالبترول وعرضة لمواجهات داخلية توجد على خط التسديد الإسرائيلي، ذلك أن تفكيكها يعتبر أكثر أهمية من تفكيك سوريا، لأن العراق تمثل على المدى القصير التهديد الأكثر جدية بالنسبة لإسرائيل”.
يبدو أن هذه التوصية، عرفت طريق التنفيذ، منذ احتلال العراق سنة 2003 وتكريس الطرح الطائفي- الإثني على مستواه السياسي، وهذا الامر لا يحتاج لكثير من التحليل أو التدبر. لكن بعد الانتفاضات ذات المثل الثورية، التي سرقت وحرفت عن مسارها الانساني؛ الديوقراطي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، تأكد بالملموس أن المنطقة تجر نحو تقسيم قذر. وهذا ما نشرته صحيفة “نيوزويك” الأمريكية مؤخرا، حيث تنبأت بتقسيم 5 دول عربية هي :”سوريا والعراق واليمن وليبيا والمملكة العربية السعودية”، إلى 14 دولة، بسبب النزاعات الطائفية والسياسية الدائرة حالياً.
وتُظهر الخريطة التي علقت عليها المحللة السياسية بمعهد “ويدرو ويلسون”؛ رايت روبن، تقسيم سوريا إلى 3 دول هي: دولة “علوية”، ترى الباحثة أنها حكمت لعقود طويلة وينتمي إليها الرئيس بشار الأسد، وستمتد على سواحل سوريا. ودولة “كردستان سوريا”، التى من الممكن أن تندمج فى نهاية المطاف مع دولة “الأكراد” فى العراق، ولما لا في ايران ايضا، وأخيراً دولة “سنّية” في حلب ودمشق والرقة ودير الزور …الخ، قد تتوحد مع معاقل السنة التى ستنفصل عن العراق في الأنبار. وفيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، ترى “رايت” أنها تواجه تحديات كثيرة اقتصادية وانقسامات داخلية مكبوتة، وخلافات بين السنة والشيعة وصراعاً بين أجيال الأمراء يهدد وحدة المملكة. وأوضحت “رايت” أن هذه التحديات من الممكن أن تظهر في وقت ما، ليتم تقسيم السعودية إلى 5 دويلات هي: دولة فى الشمال، ودولة ثانية فى الشرق، وثالثة فى الغرب، ورابعة فى الجنوب، وأجزاء أخرى مقتطعة تشكل ما وصفته بـ”الدولة الوهابية”.
أما العراق، فمن المحتمل أن يتحول إلى 3 دول: واحدة للأكراد من الممكن أن تتوحد مع أكراد سوريا، ودولة سنية فى الوسط من الممكن أن تتوحد مع سنة سوريا، ودولة شيعية فى الجنوب، وإن كان هذا ليس بشكل واضح الآن وفقا لـ”رايت”. وبالنسبة لدولة اليمن، فتظهر الخريطة تقسيمها إلى دولتين: الجنوب والشمال، فتطور الاحتجاجات الشعبية فى الجنوب والمنادية باستعادة دولة الجنوب(اليمن الديموقراطي سابقا) والانفصال عن الشمال، الذى توحد معه سنة 1990، يدفع نحو تأسيس دولة قوية في الجنوب، من الممكن لها أن تصبح منفذاً دولياً، من خلاله يمكن للسعودية أن تمرر أنبوب نفط ضخم لبيع نفطها على شاطئ بحر العرب دون مخاوف من إغلاق “إيران” لمضيق هرمز. وفيما يتعلق بليبيا، فمن المحتمل أن تتفكك إلى 3 دول هي: طرابلس وبرقة وفزان، نتيجة النزاعات القبلية والإقليمية.
لابد من حوار واسع، بين كل الذوات السياسية الوطنية الرسمية والمعارضة، يسائل هذه الأوضاع بمنظار الوحدة الوطنية والتنمية والإستقلال الوطني، يفضي إلى إشراك كل الفاعلين في تدبير المشترك العام المعاش وتوزيع عادل وملموس للثروة
في ذات السياق، سياق التقسيم القذر؛ على أسس طائفية ومذهبية ودينية واثنية وقبلية…إلخ، أكدت وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلينتون في کتاب مذکراتها، الذي صدر في أميرکا مؤخرا قائلة: “دخلنا الحرب العراقية والليبية والسورية وکل شيء کان على ما يرام وجيد جدا، وفجأة قامت ثورة 30 يونيو و03 يوليوز 2013، في مصر وکل شيء تغير خلال 72 ساعة”.
وأضافت: تم الاتفاق على إعلان الدولة الإسلامية يوم05 يوليوز2013 وکنا ننتظر الإعلان لکي نعترف نحن وأوروبا بها فورا”. وتابعت تقول: “کنت قد زرت 112 دولة في العالم.. وتم الاتفاق مع بعض الأصدقاء بالاعتراف بـ”الدولة الإسلامية” حال إعلانها فورا وفجأة تحطم کل شيء”. وقالت: “کل شيء کسر أمام أعيننا بدون سابق إنذار، شيء مهول حدث!!، فکرنا في استخدام القوة ولکن مصر ليست سورية أو ليبيا، فجيش مصر قوي للغاية وشعب مصر لن يترك جيشه وحده أبدا”.
وأضافت: “وعندما تحرکنا بعدد من قطع الأسطول الأميرکي ناحية الإسکندرية تم رصدنا من قبل سرب غواصات حديثة جدا يطلق عليها ذئاب البحر 21 وهي مجهزة بأحدث الأسلحة والرصد والتتبع وعندما حاولنا الاقتراب من قبالة البحر الأحمر فوجئنا بسرب طائرات ميغ 21 الروسية القديمة، ولکن الأغرب أن راداراتنا لم تکتشفها من أين أتت وأين ذهبت بعد ذلك، ففضلنا الرجوع، مرة أخرى ازداد التفاف الشعب المصري مع جيشه وتحرکت الصين وروسيا رافضين هذا الوضع وتم رجوع قطع الأسطول والى الآن لانعرف کيف نتعامل مع مصر وجيشها”.
وتقول هيلاري: “إذا استخدمنا القوة ضد مصر خسرنا، وإذا ترکنا مصر خسرنا شيئا في غاية الصعوبة، مصر هي قلب العالم العربي والإسلامي ومن خلال سيطرتنا عليها عبر الإخوان عن طريق مايسمى بـ”الدولة الإسلامية” وتقسيمها، کان بعد ذلك التوجه لدول الخليج، وکانت أول دولة مهيأة هي الکويت عن طريق أعواننا هناك الإخوان، فالسعودية ثم الإمارات والبحرين وعُمان، وبعد ذلك يعاد تقسيم المنطقة العربية بالکامل بما تشمله بقية الدول العربية ودول المغرب العربي وتصبح السيطرة لنا بالکامل خاصة على منابع النفط والمنافذ البحرية وإذا کان هناك بعض الاختلاف بينهم فالوضع يتغير”!!.
بناء على التوصية السالفة الذكر وعلى ما ورد في صحيفة “نيوزويك”- وما نقلته بعض وسائل الإعلام عن كتاب هيلاري كلنتون- يتضح أن العراق فكك عمليا، بعدما تم تدمير بنيته العسكرية والاقتصادية وتكريس السيادة الطائفية والإثنية على مستواه السياسي، وهذا قد أدخل البلاد في تطاحن داخلي مدمر وسيكون طويل الأمد. لذلك يبقى العراق أمام خياران: إما أن تتوحد القوى الوطنية بعد إجراء مصالحة سياسية تشمل حزب البعث العربي الإشتراكي وتنبذ الطرح الطائفي- الإثني من جهة وتصون الإستقلال الوطني من جهة ثانية وتؤسس للتداول السياسي الديموقراطي المدني، من جهة ثالثة وإما أن ينجح نهج التقسيم، الذي يتناغم مع سايكس بيكو الجديدة، والذي من أهم تجلياتها: دولة كردية في شمال العراق وشرق سوريا، وهو ما يؤسس له اليوم بشكل عملي. ودولة شيعية في الجنوب ودولة سنية في الانبار وأجزاء من صلاح الدين ونينوى، ودير الزور والرقة بسوريا، يكون القاسم المشترك بين هذه المكونات هو الإقتتال والعداء الدائم على أساس تكريس حدود الدم / الثأر الدائم. ونفس المأساة تنتظر سوريا، ما لم تدخل الأطراف المتصارعة في حوار جاد ومسؤول، يفضي إلى حل سياسي بالموازاة مع مصالحة وطنية شاملة، تنبذ الإرهاب وتؤسس لنموذج ديموقراطي وطني، يلغي مشروع التفكيك الطائفي –الإثني، ويجهض حلم تقسيم سوريا الناشيء والهادف إلى تأسيس كيانين سنيين متناحرين: الدولة الاسلامية في العراق والشام في الرقة ودير الزور وحلب وجبهة النصرة في دمشق وجنوبها، والقصة الكاملة لهذا الموضوع، ذكرتها التوصية الصهيونية وما ورد مؤخرا في نيوزويك. وكل هذا لا يخرج عن المشروع الإستعماري الجديد، لإعادة توزيع ثروات هذه البلدان وحماية إسرائيل، بصفتها الذراع القاتلة للغرب في المنطقة.
وذات مؤشرات التقسيم القذر، يبدو أنها بدأت تدب (أحداث غرداية بالجزائر) في باقي مكونات الجسد السياسي للشعوب الممتدة على جغرافيا الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ذات التاريخ والتطلعات المشتركة، من جراء مواجع الطغيان التي توالت عليه لعقود، والتي افضت في الراهن إلى الثلاثي المشؤوم، الذي كان قد حذر منه المفكر السوري طيب تزيني: الطغاة والغزاة والغلاة. لذلك لابد من حوار واسع، بين كل الذوات السياسية الوطنية الرسمية والمعارضة، يسائل هذه الأوضاع بمنظار الوحدة الوطنية والتنمية والإستقلال الوطني، يفضي إلى إشراك كل الفاعلين في تدبير المشترك العام المعاش وتوزيع عادل وملموس للثروة، ونشر ثقافة التنوير والحوار والتواصل والتفاهم والمساواة بين الحكام والحكومين؛ على أساس المسؤولية والمحاسبة…إلخ، حتى تتمكن هذه الشعوب من تجاوز الأوضاع الحالية وتدخل في عصر الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. وإلا فإن مصيرا صعبا، بل مدمرا يتهدد شعوب المنطقة.