هناك نقاش عمومي في المغرب بخصوص الحريات، إنه يتخذ من بعض الأحداث المتلاحقة مبررا من أجل الخروج بخلاصة مفادها أن هناك تضييقا على الحريات في المغرب، ويتم تحميل المسؤولية للحكومة التي يقودها حزب محافظ، مما يعطي الانطباع بأن هناك محاولة لأخونة الدولة والتراجع على مجموعة من المكتسبات التي حققها المغرب في مجال الحريات منذ مطلع الألفية الثالثة.

إن هذا النقاش يمثل صراعا بين تيارين داخل المجتمع المغربي، تيار محافظ وآخر ينشد الحداثة، وهو يعكس دينامية التحولات الاجتماعية والديمغرافية التي يشهدها المجتمع المغربي، لكنه في نفس الوقت يتم استغلاله سياسيا فيصبح مجرد مزايدات الهدف منها توريط الحزب الذي يقود الأغلبية الحكومية في بعض الأخطاء وتضخيمها من أجل إيهام الرأي العام بأن هناك مشروعا يستهدف أسلمة المجتمعإسوة بما حدث في بعض الدول المجاورة بعد موجة الربيع العربي، خصوصا ونحن على أبواب الاستحقاقات الانتخابية المحلية والجهوية.

وإذا عدنا إلى بعض هذه الأحداث وحللنا المواقف التي أفرزتها، فنحن نجد جناحا محافظا يعتبر بأن هناك مؤامرة تستهدف قيم المجتمع وهويته، وأن هناك جهات تتخذ من موضوع الحريات الفردية حصان طروادة من أجل تحرير الجسد، والقضاء على الأسرة، وتدمير أسس وثوابت الأمة المغربية من لغة ودين وأعراف وتقاليد، من أجل خدمة مصالح القوى الاستعمارية، وتهيئة المجتمع من أجل أن تسوده القيم الاستهلاكية، فيصبح خاضعا لمنطق السوق وسلطة الرأسمالية في صيغتها النيو-ليبرالية. مما يفتح المجال من أجل الاستغلال السياسي لهذا الموقف ، حيث تستغله بعض القوى السياسية من أجل جعل مشروعها السياسي يكتسب شرعية، خصوصا بعض حركات الإسلام السياسي التي لا تلقى تعاطفا واسعا من طرف مختلف فئات المجتمع، والتي لا تملك مشروعا اجتماعيا خارج إيديولوجية “الإسلام هو الحل”، فتعتبر نفسها وصيا على الأمن الروحي والأخلاقي للمجتمع، وتدعو إلى التضييق على الحريات الفردية. وقد تستغله أطراف منها توجد داخل السلطة من أجل الرفع من شعبيتها في بورصة الانتخابات السياسية من جهة، أو للتغطية على فشلها في إيجاد حلول لمعضلات اجتماعية من قبيل البطالة، والهشاشة الاجتماعية ومحاربة الفقر الذي يرزح تحت ثقله أزيد من ثمانية ملايين مغربي خصوصا في القرى والمناطق النائية.

إن الحداثة كل لا يقبل التجزئة، فمن يدافع عن قيم الحداثة يلزمه أن يدافع عن الحرية بجميع أشكالها، انطلاقا من حرية الاعتقاد، ثم حرية التعبير، والحريات السياسية، ثم الحريات الاجتماعية التي تعتبر الحريات الفردية جزءا منها

بالمقابل، نجد طرفا ثانيا ينصب نفسه مدافعا على قيم الحداثة، فيدافع عن تحرير الجسد، والحق في الاجهاض، والمثلية الجنسية، لكنه يلجم لسانه عندما يتعلق الأمر بالدفاع عن الحريات السياسية. كما تجد أنصار ذلك الطرف  يتبنونالحداثة بمفهومها الغربي، فيأخذون شكلها ومظاهرها والقوانين الناتجة عنها عوض الاستناد على الفكر الذي أنتجها، والذي يقوم أساسا على الحرية، الاستناد على  العقل، والحق في الاختلاف والإبداع. لذلك يسقطون في تناقضات عديدة فتجدهم يدافعون بكل شراسة عن تحرير الجسد بينما يتقاعسون عن تحرير المواطن ثقافيا، واقتصاديا وفكريا،ويحتقرون اللغة الوطنية كما يحتقرون العقائد ويعتبرونها تفكيرا مغلقا وشموليا، ضاربين عرض الحائط بالحق في الاختلاف الذي ينطلقون منه من أجل صياغة مشروع الحرية الفردية.أنهم يجزئون الحرية كما تجزئها حركة “فيمن” التي تختزلها في حق تحرير الجسد، الشيء الذي يخدم مصالح القوى الاقتصادية المهيمنة عالميا، لأنه كلما تحرر الجسد كلما برزت حاجات استهلاكية جديدة ستجعل الشركات الكبرى تشتغل من أجل إشباعها. 

ويمكننا أن نقدم مثالين من أجل توضيح هذا الأمر:

المثال الأول تمثل في منع فيلم “الزين اللي فيك” لنبيل عيوش، حيث انبرى أنصار الحرية الفردية للدفاع عن حرية الإبداع، لكنهم لجموا أنفسهم قبل ذلك حينما مُنِع الكوميدي الفرنسي “ديودوني” من تقديم عرضه الساخر بالمغرب، لأن هناك لوبيات فرنسية ضغطت على المغرب من أجل منع العرض. بالمقابل، فإن من اتخذ قرار المنع لم ينتظر تقديم المخرج لتأشيرة عرض الفيلم بالمغرب، حيث تم قرار المنع على أساس مجموعة من اللقطات التي تم تسريبها على اليوتوب، والتي خلقت ضجة كبرى وانقساما كبيرا في الرأي العام، كما خلقت صدمة أيضا لدى شريحة كبيرة من المجتمع المغربي المحافظ، والذي يعول عليه الحزب الذي يقود الائتلاف الحكومي كخزان انتخابي. لذلك، يعتبر منع الفيلم بمثابة دغدغة لعواطف الفئة الناخبة المحافظة، وتغطية على فشل السياسات الحكومية في المجال الاجتماعي.صحيح، أنه ثبت فيما بعد أن الفيلم يتضمن بعض اللقطات الإباحية وكان بإمكان لجنة الرقابة بالمركز السينمائي المغربي أن تطالب المخرج بحذفها من أجل السماح بعرض الفيلم بالمغرب، كما حدث مع الفيلم الأمريكي “الخروج…آ لهة وملوك”، والذي تم منعه بدعوى تجسيد الذات الإلهية، ثم بعد ذلك تم السماح بعض الفيلم بالمغرب بعد أن تعهد المنتج بحذف اللقطات موضوع الخلاف.

أما المثال الثاني فتمثل في النقل المباشر لوقائع حفل “جينيفير لوبيز” على قناة تلفزية عمومية يتضمن دفتر تحملاتها السهر على حماية الذوق العام وتجنب عرض ما من شأنه أن يخل بالحياء على شاشتها، حيث ارتدت المغنية الأمريكية لباسا شفافا ومثيرا كما تضمن عرضها الراقص الكثير من اللقطات ذات المضمون الإيحائي الجنسي، ولقد خلق هذا الأمر أزمة بين وزير الاتصال ومدير القطب العمومي المغربي الذي من المفترض أن يكون تحت وصايته. إن النقل المباشر لوقائع الحفل على شاشة قناة عمومية يعتبر خطأ مهنيا جسيما كان يستوجب استقالة المسؤول عنه، أو أن يبادر وزير الاتصال بإقالة المسؤول عن تدبير القناة، أو أن يستقيل من مهامه. لكن كل ذلك لم يقع، فوزير الاتصال رفع الأمر إلى الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري من أجل اتخاذ قرار في هذا الأمر، معطيا الانطباع بأن الأمر يتجاوزه وأن أطرافا خارج السلطة هي التي تتحكم في التلفزيون العمومي، ليظهر الحزب بمثابة الضحية على مشارف الانتخابات المحلية والجهوية. بالمقابل، على هامش ذلك نشأ نقاش مغلوط يعتبر بأن هناك تهديدا للحريات الفردية ، كما أن هناك أطرافا سياسية أرادت استغلال الموقف من أجل توريط الحزب الذي يقود الأغلبية الحكومية، فاعتبرت بأن ما تم نقله على شاشة التلفزة يشبه مشهدا منقولا من الشاطئ الذي يرتاده أغلب المغاربة، لذلك فالأمر لا يعتبر إخلالا بالحياء العام،وأن هناك رغبة في التضييق على الحريات الفردية والمكتسبات التي حققها المغرب الذي يعتبر بوابة العالم العربي نحو الحداثة، وهنا يتضح حجم البوليميك والتغليط الذي يمارسه أغلب الفرقاء السياسيين، لأن قرار الذهاب للشاطئ هو اختيار فردي، بينما نقل مشاهد مقربة لمغنية ترقص رقصا يتضمن إيحاءات جنسية بلباس أكثر إغراء وشفافية من ملابس السباحة على شاشة قناة عمومية تدخل كل البيوت بدون استئذان يمثل اعتداء على الحرية الفردية لمن يمثلون التيار المحافظ ، وهذا الاعتداء يمارس داخل قناة عمومية تمول من جيوب المواطنين. إن الأمر يمثل خطأ مهنيا كان بالإمكان احتواؤه، لكن الأطراف السياسية المتنازعة فضلت المزايدات السياسية واستغلاله من أجل تحقيق مكاسب داخل البورصة الانتخابية.

إن الحداثة كل لا يقبل التجزئة، فمن يدافع عن قيم الحداثة يلزمه أن يدافع عن الحرية بجميع أشكالها، انطلاقا من حرية الاعتقاد، ثم حرية التعبير، والحريات السياسية، ثم الحريات الاجتماعية التي تعتبر الحريات الفردية جزءا منها.كما أن المحافظة لا تعني مصادرة الحرية الفردية للآخرين باسم الحفاظ على الهوية، كما أنها لا تعني الجمود والاستكانة بشكل قطعي للثوابت، لأن الجمود إلغاء للتاريخ الذي يقوم على أساس مبدأ التطور والاستمرارية .لذلك لا يمكننا باسم المحافظة على الهوية أن نستمر في الانتصار لتقاليد السلف على حساب أسس العقل،ولا يلزم للمحافظة أن تجعلنا نتناقض مع المبادئ والقيم الكونية.