لماذا يستحوذ السياسيون على الكلام لحد الإدمان؟ لماذا يتكلمون بصيغة النحن و كأنهم ينوبون عن الوطن و عن المواطنين كلهم ؟ من أين أتوا بشرعية الكلام و التحدث باسم المواطنين حتى وإن لم يفُوضوا رسميا للقيام بذلك؟ لماذا يصبح احتكار الخطاب السياسي هدفا لذاته بدلا من أن يكون وسيلة للتواصل و الإقناع و المرافعة؟

إن الصراع الاجتماعي و السياسي على احتكار الخطاب يعد في حد ذاته صراعا لأجل احتكار السلطة السياسية ما دامت هذه الأخيرة تكثف في جوهرها قدرا كبيرا من الخطاب وفنونه. حيث أن الشخص أو الحزب أو الهيئة الذي يستطيع أن يحتكر الكلام يتمتع  بالحق في التعبير عن آرائه السياسية و كأنها الحقيقة عينها، ما دام حقه في الكلام يستتبع قانونيا وجوب سكوت الآخرين، بل و أيضا وجوب الإنصات له وعدم الرد على ما يقوله في حينه. هذا ما يفسر امتعاض الأحزاب المعارضة من احتكار أحزاب الأغلبية للكلام في المؤسسات التمثيلية كالبرلمان و وسائل الإعلام. 

غير أن هذا الامتعاض، وإن بدا معقولا من زاوية الأخلاق الديمقراطية، لكون الحصول على الأغلبية العددية في المؤسسات التمثيلية لا يعني بالضرورة وأد حقوق الأقلية في التعبير، فإنه يفتقد إلى عنصر أساسي يتعلق بحق الأغلبية المضمون قانونا في احتكار الخطاب ما دامت أغلبية. أي أن حقها في احتكار الخطاب السياسي يرتبط وثوقا بوضعيتها القانونية كأغلبية ينتهي بانتهائها٬ و من ثم فهو ظرفي و وظيفي في الأنساق السياسية الديمقراطية الحديثة. 

من هذا المنطلق تعد الانتخابات لحظة سياسية حاسمة يتم من خلالها توزيع و إعادة توزيع الحق في الكلام على الفاعلين السياسيين. حيث أن الأغلبية التي يتم فرزها من خلال تصويت المواطنين تحصل على تفويض قانوني يتيح لها التحدث باسمهم و احتكار الخطاب السياسي ومن ثم التفكير و العمل نيابة عنهم . قد يبدو ذلك غير معقول بالنظر إلى كون الانتخابات لا تخص إلا هؤلاء المواطنين الذين مارسوا حقهم بالتصويت،و من ثم فهي لا تعني الشعب برمته.

 مع ذلك فاللعبة السياسية الديمقراطية تظل حبيسة لمنطق مصادرة حق الأغلبية الصامتة، التي يفترض بصمتها و عدم مشاركتها أنها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما فقدان الحق في الكلام ما دامت لم تفوض من يتكلم بإسمها، أو تفويضها الضمني لحقها في الكلام للأغلبية التي أفرزتها الانتخابات مادام الصمت علامة على القبول أو على الأقل على عدم الرفض.

اللعبة السياسية الديمقراطية تظل حبيسة لمنطق مصادرة حق الأغلبية الصامتة، التي يفترض بصمتها و عدم مشاركتها أنها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما فقدان الحق في الكلام ما دامت لم تفوض من يتكلم بإسمها، أو تفويضها الضمني لحقها في الكلام للأغلبية التي أفرزتها الانتخابات مادام الصمت علامة على القبول أو على الأقل على عدم الرفض

بهذا يمكن اعتبار تصويت المواطنين لفائدة حزب معين أو مجموعة من الأحزاب كنوع من التعاقد السياسي يسمح بمقتضاه لهؤلاء احتكار الكلام و التحدث نيابة عن الشعب مدة الولاية التمثيلية. غير أن ذلك لا يعني بالضرورة أن أحزاب الأغلبية تمتلك بمقتضى هذا التعاقد الحقيقة أو أنها أفضل من أحزاب الأقلية، بالنظر إلى كون احتكار الخطاب السياسي لا يعكس بالضرورة أن من يحتكره يتمتع بمصداقية أكبر أو بأهلية أفضل لتسيير الشأن العام. بل يعكس في أغلب الأحوال ذلك التعاقد الذي يتيح للفاعلين السياسيين امتلاك الحق في الكلام على حساب الآخرين. 

ولعل التاريخ السياسي المعاصر غني بالقادة السياسيين الذين استخدموا هذا الحق  ( المكتسب ديمقراطيا أو عن طريق العنف و الإنقلاب) بشكل مكثف كنوع من تأكيد للذات أو كنوع من الإمعان في إذلال معارضيهم، خصوصا وأن حق هؤلاء في الخطاب يكون مصادرا بما يجعل استماعهم القسري للزعيم نوعا من العقاب. إذ أن صمت الآخرين كثيرا ما يدفع محتكروا الخطاب السياسي إلى الاعتقاد بأنهم يمتلكون الحقيقة السياسية المطلقة أو أنهم يحملون رسائل و مهام تاريخية تجاه شعوبهم أو تجاه الإنسانية، وهو الاعتقاد الذي قاد إلى الكثير من الكوارث السياسية والحروب. 

من هذه الزاوية يمكن تفسير إدمان العديد من قادة الأحزاب السياسة على الخطاب واعتقادهم أنهم يؤدون مهاما تاريخية تفوق في الكثير من الأحيان قدراتهم المعرفية الذاتية . حيث أن تحليل خطاباتهم يظهر اعتمادهم على الأحكام اليقينية الجاهزة وعلى  الوعظ و احتقار الخطابات السياسية المخالفة والحط من قدرات الفاعلين السياسيين المعارضين. ذلك أن هذا النوع من الخطاب يعتمد حصريا على ثنائية متعارضة بين تمجيد الذات و تبخيس قدرات الآخرين. 

مع ذلك ليس هذا ما يشكل جوهر المسألة، ما دام كل الفاعلين السياسيين يعتمدون على نفس الثنائية. بل أن جوهرها يكمن في اعتقاد الغالبية الصامتة أن المتحدث باسمهم يمتلك فعلا قدرات وسلطة تفوق تلك التي خولوها هم نفسهم له عبر صمتهم الذي أقروه حين صوتوا عليه أو حين قبلوا به كمتحدث باسمهم.

كما أن المشكلة تكمن أيضا في اعتقاد مقاولي الخطاب السياسي أنهم أذكياء او أنبياء حتى وإن لم يؤتوا المعرفة أو الرسالة، كما هو الحال بالنسبة للعديد من السياسيين الذين لا سلطة لهم إلا تلك التي حصلوا عليها من جاههم أو من نسبهم أو من وضعيتم كمريدين سابقين لشيوخ سياسيين أبعدهم الزمن أو الدسائس.