على عكس العمليات الانتخابية البلدية في التجارب الديمقراطية، فإن الانتخابات في المغرب لا تنتهي عند يوم الإعلان عن النتائج واكتشاف من تصدّر الانتخابات، بل إن المرحلة الأضعف هي الانتخابات التي يُباشرها المواطنون عبر الاقتراع العام، أما الحلقات الأقوى فهي لا تتم خارج العملية الانتخابية، وإنما من خلال التفاوض السياسي وغير السياسي الذي تقوم به الأحزاب السياسية أو ممثلوها أو الذين منحتهم التزكية للترشح باسمها داخل القرى والمدن والأقاليم والجهات، وهذا ما يطرح العديد من المفارقات التي قد تجعل نتائج الانتخابات المعلَن عنها معاكسة لما يحصل في الواقع، وهو ما يمكن أن نصنفه شكلا من المفارقات السياسية في المغرب، والتي يمكن إجمالها في الآتي:

المفارقة الأولى: تتجلى في أنه قد يحدثُ أن حزبا قد يفوز بالمرتبة الأولى في مدينة معينة ولا ينقصه إلا مقعد أو مقعدان لتشكيل المجلس الجماعي، لكن لعبة التحالفات تجري بما لا يشتهيه الناخب، فتؤول تركيبة المجلس لصالح تحالف أحزاب حصلت على رتب متدنّية، ولم يمنحها المواطنون أصواتهم بأغلبية، وهذا ما يمكن أن يصطلح عليه بـ “التحالفات الانقلابية”، التي تتحكم فيها لغة المال، وتهريب المنتخبين واختطافهم أو تهديدهم….وغيرها من الممارسات التي ارتبطت بالانتخابات الجماعية في المغرب، والتي ساهمت في إفساد العملية السياسية وتشويهها.

المفارقة الثانية:  أن العديد ممن رفض المواطنون منحهم أصواتهم في الانتخابات المحلية، إما بالتصويت عقابيا عليهم أو بالعزوف عن الذهاب للتصويت لهم، سيعودون إلى المجالس المسيرة، لكن هذه المرة على ظهر الماكينة الانتخابية لحزب حصل على الربتة الأولى بفارق كبير، وذلك من خلال مسلك التحالفات، فمثلا قد يعود شخص شارك في التسيير كنائب رئيس إلى منصب عمدة أو رئيس جهة رغم أن لائحته لم تحصد إلا المراتب المتأخرة، وهكذا يكون الحزب الذي احتل المرتبة الأولى قد جعل من شخص مرفوض شعبيا عمدة لمدينة أو رئيسا لجهة، ويكون الحزب الأول بهذا المسلك قد خدل رغبة ناخبيه. وهذا يدخل في إطار ما يمكن أن يُطلق عليه “عبث اللعبة السياسية” في المغرب.  فما الذي سيضر لو أن القانون تضمّن بندا ينص على أن الرئيس يجب أن يكون من الحزب الحائز على الأغلبية، حتى يتم القطع مع منطق المفاوضات التحكّمية؟ مع الإشارة إلى أن هذا البند كان ضمن مشروع القانون التنظيمي إلا أن الأغلبية الحكومية لم تستطع تمريره لأسباب أضحت معروفة للمهتمين.

فصل العمل البرلماني عن الانتخابات الجماعية، وإلغاء غرفة مجلس المستشارين لأنها تحد من تطور العملية الديمقراطية، وتُسهِم في إفساد اللعبة السياسية، لأنه لا يُعقل أن تتساوى ـ تقريبا ــ صلاحيات غرفة منتخبة مباشرة من طرف الشعب مع صلاحيات غرفة منتخبة بطريقة غير مباشرة وخضعت للمساومات وأعمال “الشنّاقة” وتهريب الناخبين

المفارقة الثالثة: تتمثل في أن عدد السكان في المجال القروي لا يشكل إلا أقل من 40 في المائة من عدد سكان المغرب، لكنه يساهم بأكثر من 70 في المائة من عدد الناخبين الكبار الذي يصوتون لتشكيل الجهات وغرفة المستشارين، وهكذا يتساوى منتخب فاز بمكتبه في دوار صغير بـ 100 صوت مع منتخب فاز بـ 1000 صوت في المدينة، وبهذا تكون الأصوات متساوية أثناء تشكيل مجلس الجهة أو خلال التصويت على المستشارين بالبرلمان، وهكذا يمكن لحزب أن يفوز بالمرتبة الأولى على الصعيد الوطني من حيث عدد الأصوات لكنه يأتي في الرتبة الثالثة من حيث عدد المقاعد، وربما الرتبة العاشرة في مجلس المستشارين، وقد لا يظفر برئاسة أية جهة إذا لم تجرِ التحالفات في صالحه، لأن عملية “ترييف” الانتخابات  ( تكثير عدد المنتخبين القادمين من المجال القروي) تحدُّ من إمكانية تحقيق أية مفاجآت، وهذا ما يسمى في لغة السياسة بـ “لعبة التحكم”، ومعناه أن تُغلَق اللعبة السياسية في وجه الفاعلين السياسيين، ويُلزمون بالخضوع لمنطق السلطة كي يستمروا في العمل السياسي، فقد يحدث مثلا أن حزبا فاز بأغلبية مطلقة في مجلس النواب وشكل الحكومة بمفرده، إلا أنه لا يحضى بأية قوة داخل غرفة مجلس المستشارين التي من شأنها ضبط التوازن الذي يقتضيه المنطق السلطوي.

ولذلك ترتفع مطالب المجتمع السياسي منذ عقود بالآتي:

أولا: انتخاب العمداء ورؤساء الجهات والجماعات بالانتخاب المباشر حتى لا تخضع اللعبة السياسية للتحالفات التي قد تكون “انقلابية” أحيانا، أو على الأقل انتخاب رئيس المجلس من الحزب الحائز على الأغلبية حتى تُحترَم رغبة الناخبين.

ثانيا: العمل على تناسبية الأصوات بين المجالين القروي والحضري، وذلك بأن يتم إدماج الدواوير القروية في دوائر كبيرة، من أجل تشكيل جماعات قوية من شأنها تأدية دورها بالشكل اللائق، بدل هذه الجماعة “الميكروسكوبية” التي لن تضيف الكثير إلى التنمية، وفي المقابل تؤدي إلى “ترييف” العملية السياسية، وتجعل المنتخبين القادمين من المجال القروي أضعاف نظرائهم في المجال الحضري، مما يضرب بعرض الحائط عنصر التناسبية الواجب في التمثيل السياسي.

ثالثا: فصل العمل البرلماني عن الانتخابات الجماعية، وإلغاء غرفة مجلس المستشارين لأنها تحد من تطور العملية الديمقراطية، وتُسهِم في إفساد اللعبة السياسية، لأنه لا يُعقل أن تتساوى ـ تقريبا ــ صلاحيات غرفة منتخبة مباشرة من طرف الشعب مع صلاحيات غرفة منتخبة بطريقة غير مباشرة وخضعت للمساومات وأعمال “الشنّاقة” وتهريب الناخبين.

رابعا:  منح صلاحيات أكبر للمنتخبين، وتقليص مسؤوليات المعيّنين، وتمكين الفئة الأولى من الموارد اللازمة لتحقيق التنمية المحلية، لأنه من غير المفهوم كيف أن انتخابات تُصرف عليها الملايير، ويتم الرهان عليها بشكل كبير، أن تفرز للمواطنين مجالسا لا تمتلك الصلاحيات الضرورية لمباشرة الحكم المحلي، في الوقت الذي تمتلك فيه السلطة المعينة جل الموارد والمسؤوليات، و”تتحكم” في المنتخبين.

 رابعا:ضرورة الابتعاد عن عقلية التحكم، وفتح المجال السياسي أمام الفاعلين السياسين حتى تتشكل كيانات قوية، يمكنها تنزيل برامجها السياسية، وإحياء العمل السياسي في بلاد تأبى السياسة فيها إلا أن تكون في جيب “مول الشكارة” وزعيم القبيلة، والذي ترضى عليه السلطة، أو يقدم الولاء أكثر….