حين ينظر المتتبع إلى تجليات الفكر السلفي الجهادي داخل المغرب بما يحتويه من أفراد وتجمعات, يخيل إليه أن الأمر يتعلق بفئة قليلة ومعدودة كما يصور ذلك الإعلام العمومي ، وخصوصا حين يرى تلك الحفنة من الشباب التي كانت داخل حركة 20 فبراير والتي تحب أن تسير خلف القافلة رافعة أسماء معتقليها معتقلي الرأي والعقيدة على خلفية أحداث 16 ماي ، والحقيقة عكس ذلك ، فيمكن القول جزافا إن الذين يحملون تلك الأفكار المنظمة لمنهج السلفية الجهادية هو أضعاف عدد المنضوين تحت جماعة كبيرة مثل جماعة العدل والإحسان . فإذا كانت هذه الأخيرة لها أفكارها التي لا تبرح المنتمين فعليا إلى الجماعة فإن الفكر السلفي الجهادي من الصعب جدا حصر عدد الذين يحملونه أو يتعاطفون مع تلك الأفكار والداعين إليها. وهذا راجع بالأساس إلى عالمية هذا النوع من التفكير الديني والذي لا يقتصر على العرب بل يتجاوزه إلى فئات وجماعات كثيرة من غير بلاد العرب مثل القوقاز والأفغان والصومال ودول كثيرة جدا . 

ولو كنت من مرتادي الموقع الاجتماعي الفيسبوك حينئذ لرأيت يوم خبر مقتل بن لادن كيف امتلأت البروفيلات بصوره تعبيرا منها وتقديرا لتلك الشخصية البطولية في نظرهم والتي وقفت في وجه الإمبريالية الغربية دفاعا عن مصالح المسلميين . .

لا يختلف منطق التفكير عند السلفية الجهادية عن باقي منطق التفكير عند السلفيات الأخر ، ففكرة إتباع السلف الصالح ومن سار على منوالهم هو الأصل الذي لا محيد عنه أي إتباع ما أجمعوا عليه, وكل من خالف هذا السبيل يعد مبتدعا ضالا عن الحق المبين .

وتبقى فكرة الحاكمية والجهاد هي ما يميز السلفية الجهادية من غيرها من السلفيات خاصة السلفيات السلطانية المتمركزة في بلاد آل سعود.

فالحكام في بلاد المسلمين اليوم مرتدون لأنهم عطلوا معلوما من الدين بالضرورة والذي هو الجهاد في سبيل الله كما أنهم لم يراعوا حرماته بإحلال حلاله وتحريم حرامه خاصة في مجال الحدود المقطوعة بنص ، هذا بالإضافة إلى موالاة العدو الكافر من اليهود والنصارى ضدا على المسلمين ومصالحهم . ويستدلون على هذه الأفكار كما هو الشأن بالنسبة لمخالفيهم من السلفية السلطانية  بنصوص من الكتاب والسنة مبنية في غالبها على التأويل والظن مع أقوال للسلف وكثير من أقوال وأفعال بعض الحنابلة المتقدمين على رأسهم الشيخ بن تيمية المرجع الأعلى للسلفية الوهابية..

ينبني الموقف الأصلي للسلفية الجهادية على فكرة رفض الديمقراطية وما صاحبها من الأفكار والمبادئ المنظمة للحياة السياسية الحديثة، فذاك في نظرهم انسلاخ عن الدين والهوية الإسلامية ، بل إن الأمر يتعداه إلى القول بأن أي حكم غير حكم الشريعة هو حكم جاهلي كفر بالله تعالى إتباع للهوى ومنزاعة لإرادة الباري عز وجل، فالحكم لا يكون إلا لله والتحاكم إلى غير شرع الله كفر وشرك ، لذا كان من الواجب تجنب تلك الأماكن التي يشرع فيها غير الله ولا تطبق فيها شريعة الله في إشارة إلى المجالس التشريعية من حكومة وبرلمان .

فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب لنفسه وعلى أساس السيادة للشعب فإن الحكم لا يكون إلا لله وبما يرضي الله .

فهذا هو الموقف الأصلي للسلفية الجهادية من الديمقراطية والمشاركة السياسية عموما، بل إن الأمر يكاد يكون عليه إجماع من لدن كل الذين نظروا لهذا النوع من التفكير …. كيف لا يكون ذلك وقضية الحاكمية قضية مرجعية في الفكر السلفي الجهادي والوهابي عموما .

من هذا المنطلق المبني كما ذكرت آنفا على نصوص ظنية لم أشأ أن أدرجها نظرا لضيق الحيز نشأت العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم من منظور الفكر السلفي الجهادي. ومنذ التنظيرات الأولى لحسن البنا ومن بعده المودودي و سيد قطب الذي له كتاب مرجع في الحاكمية والعلاقة في شد وجذب بين الطرف الحاكم ومعارضيه خارج المؤسسات عبر تبني مبدأ العنف وجهاد المرتدين.

ومهما قيل عن السلفية الجهادية كونها تكفر المجتمع أو تخوض حربا ضده فإنه لا يعدو أن يكون كلاما فارغا ينم عن عدم إطلاع عن أصول هذا النوع من التفكير الديني ، فالسلفية الجهادية لم تعلن يوما أنها تخوض حربها ضد العامة من الناس ولا وجود لهذا في تنظيراتهم , بل إن حربها كانت ضد السلطة ورجالتها دون استثناء ، أما العامة فعذرهم بالجهل له أصل ، لذا استطاعت السلفية الجهادية أن تجلب الكثير من الأتباع والأنصار عبر سياسة الترغيب والترهيب والقرب و الذين وجدوا في هذا النوع من الفكر ضالتهم خاصة في المناطق ضحية السياسة الحكومية والجماعية.

لقد تغير الفكر السلفي الجهادي في المغرب وفقد الكثير من وزنه وقواعده في مواقع ثلاثة ، كان أولها حادث الدار البيضاء وثانيها موت بن لادن بدم بارد وثالثها الربيع العربي .

لقد تبرأت السلفية الجهادية من تلك التفجيرات على لسان كثير من منظريها لأنه لا يوجد أصلا في تفكيرها شيء يدعو إلى تفجير الأماكن العامة في بلاد المسلمين ، هذا دون أن أنسى أن أشير إلى أن الذين قاموا بتلك العمليات منتمون فعليا إلى السلفية الجهادية لكن تم التغرير بهم لجهلهم بالقواعد العامة لهذا النوع من التفكير هذا بالإضافة إلى كون السلفية الجهادية ليست تنظيما محكما بل لا يعدو أن يكون تجمعات مشتة هنا وهناك وهذا ما يجعله تنظيما ضعيفا جدا ومخترقا أيظا بشدة يتحمل مسؤولية تفاهات قد يقوم بها محسوبون عليه كما هو الحال بالنسبة لتفجيرات الدار البيضاء وغيرها .

لقد كانت أحداث الدار البيضاء والسجن النقطة التي جلبت السؤال للفكر السلفي الجهادي ليعيد النظر في أبجدياته فكان ما يسمى في الفكر الإسلامي بالمراجعات.

لقد جاءت المراجعات وتمت وخرجت بيانات كثيرة تحاول تأطير الفكر السلفي الجهادي وتتبرأ من كثير من ما ليس منه ، فكانت الردود كثيرة ومتنوعة ، كان أولها ما جاء على لسان كثير من الأتباع في الخارج والداخل تقول بأن ما تم لا يعدو أن يكون تراجعات وخيانة لله والعهد وليس مراجعات خاصة في الشق المتعلق بالملكية وإمارة المؤمنين والتي تضرب أصلا مؤصلا في الفكر السلفي الجهادي والذي يقول إن أي حاكم لا يحكم شرع الله هو كافر مرتد عن الدين وجب قتاله ، فكيف يعترف به أميرا للمؤمنين . لكن بالموازاة مع ذلك اقتنع كثير من الشباب بهذا الخطاب وحتى وإن لم يعترفوا به أميرا للمؤمنين فإنهم تخلوا عن فكرة الجهاد والتغيير بالعنف خاصة في بلاد المسلمين بالنظر إلى قواعد فقهية شهيرة مثل قاعدة جلب المنفعة ودفع الضرر.

لقد تغير الفكر السلفي الجهادي في المغرب وفقد الكثير من وزنه وقواعده في مواقع ثلاثة ، كان أولها حادث الدار البيضاء وثانيها موت بن لادن بدم بارد وثالثها الربيع العربي .

لقد كانت أحداث الدار البيضاء النقطة التي أدخلت السلفية الجهادية إلى الممارسة شبه السياسية ، فعمليات الإضراب عن الطعام والحديث إلى الصحافة ونشر الفيديوهات عبر الانترنت وملاقاة المنظمات الحقوقية وتنصيب هيئة الدفاع أشياء لم تكن أبدا في أبجديات السلفية الجهادية ولا عرفتها من قبل ، فكان من الصعب جدا أن تنجز حوارا صحافيا مع أحد رموز السلفية الجهادية أو تجد سلفيا له إلمام بالأحزاب والهيئات والمنظمات وغيرها من المؤثثات للعمل المدني والسياسي . لقد كان السجن أول عملية لمعرفة السياسة عبر الدعوة إلى تسييس القضية .

ومع موت بن لادن تلقت السلفية الجهادية صفعة قوية ، فبن لادن الذي كان يظن أن لا أحد يستطيع الوصول إليه لأنه مدجج بأسلحة ورجال يصعب هزيمتهم قتلته القوات الأمريكية دون أي مقاومة ليعود السؤال ويطرح في صدور السلفية الجهادية . هل بالقوة نستطيع هزيمة أمريكا أم بالسلم والممارسة الميدانية.

هذه الفكرة ستعود لتطرح من جديد مع الربيع العربي ، فالأنظمة الاستبدادية التي ناضل وجاهد بن لادن ومن معه للإطاحة بها مذ عقود لم تصمد أمام قوة الشعوب السلمية بضعة أشهر ليعود السؤال ويطرح عن جدوى العنف في مواجهة الأنظمة التي تستمد قوتها أصلا من العنف المضاد.

لقد كانت هذه أولى النقط التي جعلت فكرة العمل السياسي والحزبي تدخل إلى الرأس السلفي الجهادي .

لقد أدرك الكثيرون من من يحملون هذا النوع من الخطاب الديني أن العمل السياسي خاصة في ظل الربيع العربي هو القادر على تحقيق المطالب التي طالما عجز عنها عبر ممارسة العنف ، هذا الأخير الذي كان سببا في شتات وضياع الكثير من قوى التنظيم.

وتعتبر التصريحات المتتالية للمنظر السابق للسلفية الجهادية في المغرب محمد الفزازي أولى الإشارات على رغبة هذا التيار في ممارسة العمل الحزبي عبر التخلي عن مجموعة من المقومات السابقة وإبدالها بالاعتراف بالثوابت الوطنية وبقانون اللعبة السياسية .

إن حزب بن كيران وجد نفسه في الانتخابات الأخيرة في أزمة شديدة اضطرته إلى التحالف مع أحزاب حكومية سابقة ، وربما كان تمنى لو كان هناك حزب إسلامي آخر يعقد معه تحالفه المريح كما هو الحال في التجربة المصرية الفاشلة خاصة في ظل وجود معارضة مؤسساتية قوية وأخرى خارج المؤسسات بقيادة جماعة العدل والإحسان.. 

إن دخول السلفية الجهادية للعمل الحزبي سيكون عاجلا أم آجلا ذلك أنه سيجد نفسه مضطرا إلى التحرك خارج قواعد ممارسة العنف من أجل التغيير ، لكنه بهذا سينقسم إلى فئتين فئة متعاطفة لا تريد أن تلطخ يدها بخبث السياسي وستكتفي بالعمل التربوي التوجيهي وفئة أخرى ستجد في الممارسة السياسية متنفسا لها ومخرجا كان قد أغلق في ظل الفكر السلفي الجهادي المغلق أصلا.