أوهامُ مُثقّفٍ وهواجسه وسجونه
إنه إنسان يعيش في خوف من المجتمع، يتهرب من كل فرصة تدفعه للاختلاط بالناس؛
آراء أخرى
يعيش في برج يتوهّم أنه من عاج، ويعتقد أن مخالطة العوام تُفقِده بريقه؛
يختفي عن الأنظار كل ما اشتد وطيس النقاش، وكلما كان المجتمع في حاجة إلى صوته؛
لا يخالط إلا أمثاله بدعوى أنهم هم من يفهمونه؛
يصنع لنفسه صورة نمطية، ويخشى أن يَخدش شرفها لقاءٌ غير مرغوب فيه؛
ليس له موقف من الرّاهن، ينتظر حتى يبرد النقاش وتضع “الحرب” أوزارها، لكي يجتهد في تفسير الأحداث؛
يخاف أن يدلي بدلوه في موضوع حيوي فيخسر أحد الأطراف، والحال أنه يريد أن يكون محبوب الجميع، حتى وإن لم يكن يعرفه أحد؛
يَزعم لنفسه الشهرة، بينما هو مجهول لدى الجميع باستثناء بعض أمثاله وبعض حوارييه؛
إذا كتب فهو يكتب في وسائط لا يطّلع عليها إلا القلة، وإذا حاضرَ أو ناقش فداخل فندق من خمس نجوم؛
يخاف من الإعلام ويتوّهم أن خروجه الاعلامي يستهلك أكاديميته، وإذا شارك، فلغة الخشب سلاحه، يتكلم بكلمات غير مفهومة، وكأن خطابه موجه إلى جمعية سرّيّة كما قال نتشه؛
ليست له صفحة على الفيسبوك أو تويتر…وإن كانت، فبِاسمٍ مستعار، وإذا كانت باسمه فهو لا يناقش فيها ما ينبغي مناشقته، بل يكتفي بالمراقبة، ونشر صوره وفتوحاته في الندوات الدولية؛
هو غير مهتم بكتابة مقالة أو عمود بجريدة، اعتقادا منه بأن واجبه هو أن يكتب كتابا لا تقرأه إلا القلة، أو مجلة محكمة تساعده في تكوين ملفه العلمي، وتُسمّن جيبه؛
هو ينتقد الجميع باستثناء السلطة طبعا، لكنه عازف عن المشاركة السياسية، ويسفّه الانخراط في المجتمع المدني أو السياسي؛
غالبا ما يجهله المجتمع ولا يسمع عنه شيئا، إلا عندما يَستقيل من هيئة نخبوية بعد أن فشل في نيل ريعها؛
ليست له القدرة على الموازاة بين العمل الأكاديمي وبين الاهتمام بالشأن العام، بين البحث الأكاديمي، وبين الرأي السياسي، معتقدا أن أحدهما يُلغي الآخر، أو إتيان الأول يعفي من الخوض في الثاني؛
هل هذا تعميم؟ قطعا لا، لأن هناك العديد من المثقفين من يقومون بعكس هذا المثقف السجين:
مثل الفيلسوف رجيس دوبري، الذي ترك مكتبته وراح يُقاتل مع تشي غيفارا في أدغال أمريكا اللاتينية؛
أو غرامشي الذي لم يمنعه كونه أبرز مفكري عصره، أن يؤسس حزبا واجه به الفاشية إلى أن وافته المنية في سجنه؛
من يتوفر على العقل الرصين والعلم الوفير، لا يخشى الواقع، ولا يتهيّب الناس، ولا تغريه السلطة، ولا يتماهى مع السياسة الضيقة، ولا تعميه الأيدولوجية عن قول ما يظنه حقيقة…..
مثل علي شريعتي الذي واجه سلطة الشاه، دون أن يبتعد عن القلم الذي خط به أكثر من 60 كتابا، رغم أنه مات عن سن لم يتجاوز الـ 45؛
أو محمد عابد الجابري، الذي ظل يكتب العمود الصحفي، ويصيغ البيان الحزبي إلى أن اعتلّت صحته؛
مثل برتراند راسل الذي مات وبطاقة عضوية الحزب العمالي في جيبه؛
أو نعوم تشومسكي الذي لا يفوت حدثا هامّا دون أن يعلّق عليه؛
مثل عبد الوهاب المسيري الذي ظل يهتف ضد حكم مبارك في مصر ويقود من فوق كرسيه المتحرك حركة كفاية؛
أو سقراط الذي كان يتجوّل في الأسواق وبين “العوام”، يعلمهم الفضيلة والحكمة؛
مثل فرانسيس بيكون العالم والسياسي عن عِلم؛
أو ثل هوبز الذي واجه استبداد الكنيسة، ولم ينزوِ في داره؛
مثل مارتن لوثر الذي لم يمنعه كونه رجل دين وتيولوجي، أن يواجه سلطة الكنيسة ويعلّق مطالبه الاصلاحية على جدرانها العالية؛
أو بير بورديو عالم الاجتماعي والنقابي الذي لم يفرط في الحقوق؛
مثل جاك أطالي، الذي لم تَحُل مؤلفاته العديدة من أن يحرص على كتابة العمود الاسبوعي في الجريدة اليومية إلى حدود اليوم؛
أو سارتر، وفوكو اللذان قادا التظاهرات الطلابية ضد الجنرال ديغول؛
مثل ابن رشد الذي انتقد وحدانية التسلط، ولم يتهرب من واجبه الانساني، وكان مصيره أن ربطوه بجانب المسجد وشرعوا في البصق عليه، وحرّقوا كتبه، ومثّلوا بحثته…؛
أو القاضي عياض أمير سبتة، الذي تخطّفته سهام ونبال الموحدين لأنه رفض أن يعترف بمهدوية الزعيم؛
مثل الكثير من المثقفين الذين لا يشبهون مثقفي الصالونات، والفارّين من النقاش العام، والممسكين بالعصى من الوسط، والذين يخشون أن يصطدموا بالناس فيُكتشَف زيفهم.
الغريب، أن هكذا مثقف غالبا ما يُدرك خطأه بعد أن يسير جسمه نحو الصِّغَر، وتُوشِكُ على الاختفاء حسب تعبير أوسكار وايلد.
(…)
في الحاضر كما في الماضي مثقفون يحاولون ملء الفراغ، ويجاهدون من أجل ترشيد العمل السياسي، ولا يُخيفهم الاهتمام بالشأن العام، وإبداء الآراء كلما استدعت الحاجة رأيهم….
من يتوفر على العقل الرصين والعلم الوفير، لا يخشى الواقع، ولا يتهيّب الناس، ولا تغريه السلطة، ولا يتماهى مع السياسة الضيقة، ولا تعميه الأيدولوجية عن قول ما يظنه حقيقة…..
(…)
أصلا، وصف مثقف لا يمكن أن ينطبق على من ليس له من الآراء والمواقف ما يجعله في صلب مجتمعه، فليس كل متعلمٍ مثقفا بالضرورة، لكن كل مثقف هو متعلّم بالضرورة.
