جذور التحكم في مغرب "ما بعد الاستقلال"
إذا كانت الحرب على الديمقراطية في أوربا قد بلغت ذروتها بين الحربين العالميتين – وفي منتصفها – باستتباب الفاشية الايطالية بقيادة موسوليني والألمانية بقيادة هتلر والفرنسية بقيادة فرانكو والبرتغالية بقيادة سالازار، فإنها عند –العرب والأمازيغ – تجاوزت كل الحدود بمجيء السيسي وهمجية داعش والردة في تونس ومحاصر القوى الإصلاحية في الجزائر ومحاولة إرباك التجربة الإصلاحية المغربية، ناهيك عن استمرار مسلسل الاستبداد والتحكم في دول الخليج العربي.
آراء أخرى
والتاريخ يخبرنا كيف اغتيلت تجارب ديمقراطية كانت أمل شعوب المنطقة خصوصا شمال إفريقيا، كيف زورت الانتخابات التونسية في التسعينات وكيف تمت محاصرة المد الديمقراطي بعودة فلول النظام السابق إلى سدة الحكم، وفي الجزائر الشقيقة كلنا تابعنا بألم شديد كيف حارب العسكر المدنية والحرية السياسية، كلنا تابعنا كيف اغتال أمل شعب الشهادة، وفي بلدنا المغرب، تابع المناضلين الشرفاء كيف تم الالتفاف على مطالب الحركة الوطنية باتفاقية بئيسة ” اكس ليبان” ناهيك عن مسلسل تصفية خيرة رموز جيش التحرير والمقاومة ” في أحداث كثيرة”.
كل ذلك يجبرنا على التساؤل عن جذور التحكم والاستبداد؟ عن أصول الانقلاب على خيار الشعب المغربي؟
وبتتبعنا لمسار التحولات السياسية داخل كل دول العالم الثالث عموما، والمغرب خاصة نكتشف بعض المسببات الرئيسية في اغتيال الديمقراطية وتمجيد الاستبداد منذ الاستقلال إلى اليوم، نركز على بعدها التاريخي والنفسي.
بين الاستعمار القديم والاستعمار الجديد: استمرارية الاستبداد بمنطق الحزب الوحيد
إن الحديث عن جذور الاستبداد في تاريخنا السياسي المعاصر يحيلنا إلى فترة الاستعمار الفرنسي، حين فرضت على الشعب اتفاقيات مشئومة ونزعت أراضي الدولة، واحتلت مناطق عدة، واعتدي على الناس باسم الحماية.
الحماية التي شكلت مرتعا لتكوين نخبة مستبدة، من خلالها فرضت فرنسا على المغرب إصلاحات اقتصادية وسياسية انتهت كلها باستعمار كلي للأرض وللإنسان مما دفع أبناء الوطن إلى إعلان الرفض التام لسياسة الحماية، ومقاومة الاستعمار عسكريا وسياسيا.
هذه الحماية رسخت لدى المشرع بنود التبعية عبر اتفاقية عقدت بين المولاي عبد الحفيظ و رينيو وزير الخارجية الفرنسية آنداك في 30 مارس 1912، ومن بين أهم بنود الحماية التي تتكون من تسعة فصول كرست الاستبداد بالمغرب برز الجابري أهم هذه الفصول في ما يلي (ص14-ملفات من الذاكرة السياسية الجزء3) :
ثانيا: على السلطان أن يساعد الاحتلال العسكري الفرنسي بالإيالة الشريعة المغربية التي تراها الدولة الحامية (=فرنسا) واجبة لاستتباب السكينة والأمن على المعاملات التجارية، كما تحرس فرنسا برا وبحرا المياه المغربية (= التحكم والسيطرة على الموانئ ).
ثالثا: إعانة السلطان ضد كل خطر يمسه بذاته الشريفة أو بكرسي مملكته، وهذه الإعانة تعطى لولي العهد كذلك ولمن يخلفه.
رابعا: العمال يتوقفون ويعملون بتفويض من السلطان وباقتراح من الدولة الفرنسية (=المستعمرة).
خامسا: تعيين فرنسا مندوبا مقيما عاما لها، يشتغل مرتبة نائبا عنها لدى السلطان، الذي يعد واسطا بين الأجانب المقيمين بالمغرب وبين السلطان.
سادسا: تتكلف فرنسا بالسياسة الخارجية بما فيها الاتفاقيات والعقود الدولية.
سابعا: التفاوض بين فرنسا والمغرب على تأسيسي نظام مالي يسوغ به ضمانة ما يتعهد له بيت المال الشريف وقبض محصلات الإيالة على وجه منظم.
ثامنا: لا يحق للسلطان أن يعقد أي سلف كان عموميا أو خصوصيا، أو يمنح بصفة كانت، من غير موافقة السلطات الفرنسية.
تاسعا: معاهدة الحماية تصبح نافذة المفعول بموافقة الدولة الفرنسية ( وافقت عليها فرنسا يوم 15 يوليو سنة 1912، إما تاريخ توقيها من طرف السلطان المغربي فكان في 30 مارس من نفس السنة).
بالنظر إلى هذه الفصول التسعة المؤسسة لنظام حكومة الحماية، يتبين لنا كيف استغلت فرنسا المعاهدة لتبرير استعمارها واستغلالها لتراب المغرب، ومما نستنتجه هو الكيفية التي رسخه بها الاستعمار الفرنسي النوازع النفسية لنشوء المخزنية المغربية .
لقد فرضت فرنسا منطق الحزب الوحيد (ما يسمى عندنا بحزب فرنسا)،الذي مثل ليوطي زعيمه الأول، حيث تولى بموجب المعاهدة (=الحماية) المهام الرئيسية لأي دولة (الخارجية، الدفاع، الداخلية، القائد العام للجيش،..)، ويمارس هذه المهام من خلال ثلاث مكاتب: المكتب المدني، المكتب العسكري، المكتب الدبلوماسي.
يعني الحزب الوحيد يتحكم في المجتمع والجيش والخارجية، بذلك يفرض نمط حكم جديد سيكون هو السائد بعد فترة الاستقلال، هذا الحزب سيتطور مع مرور الوقت في أشكال مختلفة (الفديك في وقت معين، الأحرار، … الأصالة والمعاصرة حديثا ).
الواضح في هذه الصورة التاريخية هو أن عمق الشرخ بين المجتمع والدولة عبر خاصيتين أساسيتين: المركزية الشديدة والازدواجية في المهام.
المركزية الشديدة تتمثل في تركيز السلطات كلها تقريبا يد المقيم العام، أما الازدواجية فتمثل في كون السلطة الملكية لها مندوبون في الإدارات التابعة للمقيم العام، وستطور هاتان الخاصيتان مع مرور الوقت وستبين لنا ذلك في حكومتي التناوب وفي حكومة عبد الله ابراهيم.
ويمكننا القول أن الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، كرسا منطقا خطيرا يتأسس على المركزية الشديدة (السلطات في يد شخص، أو جهة معينة، أو حزب..)، وعلى الازدواجية (تداخل في المهام إلى حد لا يمكن فصلها ولا يمكن محاسبة مسؤوليها لعدم وضوح المسؤولية وتميزها).
إن جراحة الأفكار المؤسسة للمخزنية وللنزعات النفسية المؤسسة للاستبداد،التي تشكلت بعد مسار سياسي وسط تفاعلات عدة من وسائط مختلفة “ثقافية،إعلامية،سياسية،..”، يؤهلنا إلى فهم ما يجري الآن على أرض الواقع على مناصب الجهات والجماعات.
ونرجع إلى الخاصيتين التي ذكرنا أعلاه، “الازدواجية، المركزية”، ونؤكد عليها بالاستشهاد بهذا القول الثمين ” فلا غرابة إذن من أن يتهمنا البعض اليوم بأننا كنا نتوفر على سائر السلطات طيلة سنوات 1956-1960، بينما كنا فاقدين لجوهر السلطة، هذه هي الحقيقة” (ص54،الاختيار الثوري في المغرب-دفاتر وجهة نظر).
ومن باب الإنصاف لابد من التأكيد على مجمل الإصلاحات الاقتصادية التي نجح فيها رفاق بنبركة (حكومة بلا فريج، عبد الله ابراهيم)، نذكر منها إصدار عملة “الدرهم” (=تحرير القطاع النقدي)، وإنشاء بنك المغرب، وغيرها من الاجراءات والتدابير المهمة التي حاولت تحرير الاقتصاد من قبضة بورجوازية المستعمر ومن الريع الداخلي.
وكان الاستعمار الجديد، الذي يمثله الإقطاع وبعض سفراء الاستعمار واعوانه، ساهم بشكل كبير في بداية “الردائقراطية” (مصطلح أطلقه منصف المرزوقي على الردة الديمقراطية التي أصابت العالم العربي، وقد فصل في هذا المفهوم في كتابه ” عن اي ديمقراطية تتحدثون-ص 59).
هذه الردة بدأت عندنا –في المغرب- منذ الستينات بعد الانقلاب السياسي على تجربة “عبد الله ابراهيم”، والتي كانت مسرحا لاعتقالات واسعة ومحاكمات دامت طويلة أدين فيها العديد من الأطر التي كانت تناضل في صفوف الأحزاب الوطنية، كما تم استهداف العمل النقابي وتحويله إلى ريع نقابي .
العروي يفكك النوازع النفسية لنشوء المخزنية (=الاستبداد)
إن جراحة الأفكار المؤسسة للمخزنية وللنزعات النفسية المؤسسة للاستبداد،التي تشكلت بعد مسار سياسي وسط تفاعلات عدة من وسائط مختلفة “ثقافية،إعلامية،سياسية،..”، يؤهلنا إلى فهم ما يجري الآن على أرض الواقع على مناصب الجهات والجماعات.
واستطاع عبد الله العروي،المؤرخ والمثقف السياسي، عبر مؤلفه “من ديوان السياسة” أن يشرح لعموم القراء خصوصا رجال السياسة كيف نشأت “المخزنية” عندنا ؟ وماهي الأليات التنظيمية والثقافية التي ساهمت في نشوء نفسيات استبدادية تحكمية؟.
وقبل البدء في تلخيص أهم ما جاء به العروي فكتابه، فلابد من تذكير مهم هو أن العروي انفتحت أعينه بداية وهو يحاول تلمس طريقه الإيديولوجي والفكري في أواخر الخمسينات وبداية الستينات، على الصراع الدائر آنذاك بين قادة الحركة الوطنية والقصر حول طبيعة الدولة المغربية لما بعد الاستقلال. وقد احتك بالمهدي بن بركة و ساهم بجانبه في صياغة وثيقة “الاختيار الثوري”، تلك التي لخصت أهم إشكاليات ذلك الصراع.
بدأ الكتاب بالتعرف على المنطلقات الأولية للسياسة المتمثلة في النوازع التي يرثها الإنسان عن أصله الحيواني، هاته النوازع التي تتكلف تربية الأم أو التربية الأولى بنقلها إلى الفرد منذ البداية(=الصيغة الأولى للإدماج الاجتماعي من داخل الأسرة والعشيرة). مع التمييز بين الإدماج بناءا على مصلحة وهو ما يمثله تقليديا إطار القبيلة، أو بناءا على قيم ثقافية وهو ما تتكلف به عموما الزاوية والفقهاء.
يقدم العروي خطاطة لتطور أنماط الحكم أو السلط السياسية المعروفة تاريخيا: حكم الفرد وحكم القلة وحكم الجمهور، مع الإشارة إلى أن كل واحد من هذه الأنماط قد يتأرجح ما بين الفضيلة والرذيلة، ما بين العدل والاستبداد.
أما عن دولة المخزن تميزت في نظره، على العموم، بالاعتماد على ثلاثة أركان: السلطان والإمام والأمير ، وأنها متغيرة من عهد إلى آخر بحسب الأولية التي يعطيها كل سلطان لهذا الركن أو ذاك، فمخزن مولاي سليمان مثلا اعتمد أكثر على الزاوية ووظيفة الإمامة في مقابل اعتماد مخزن مولاي اسماعيل على القبيلة ووظيفة الإمارة.
في الجزء الرابع من الكتاب ينتقل العروي إلى الدولة المغربية الحديثة، مشيرا إلى قيام الحماية بالفصل بين مقومات الدولة المخزنية، حيث تركت وظيفة الإمامة للسلطان بينما احتكرت هي سلطة الإمارة، أي كل ما يتعلق بالجيش والإدارة والإقتصاد.
غير أن دولة ما بعد الاستقلال، ستعمل على إعادة تجميع كل هذه السلط في يد الملك، أو التوليف بين دولة المخزن القديمة ودولة الحماية الحديثة، وهو ما أنتج وضعا مركبا تتنازع داخله شرعيتان هما ما يعرف بالأصالة والمعاصرة. وهذا ما يوضحه العروي من خلال عرضه للقراءتين المتنافستين للدستور الملكي منذ سنة 1961: القراءة السلفية التي توظف مصطلحات من قبيل البيعة والشرع والشورى … وأخرى توظف المصطلحات الحديثة من قبل التعاقد والقانون والانتخاب.
أخيرا في الجزء الخامس وهو الذي يهمنا هنا أكثر، يتحدث العروي عن الآفاق المفتوحة لتجاوز الوضع الراهن. وهو إذ يشير إلى الصراع القائم بين ثقافة الأم والثقافة الحديثة أو ثقافة المواطنة، أو بين الأصالة والمعاصرة، ويقف عند العودة القوية في السنوات الأخيرة لظاهرة البدو التي ترجع بالمجتمع إلى الثقافة الأولى و تغلب النوازع على العقل، يقترح أن الحل من أجل تطوير المواطنة أو ما يعبر عنه بالفطام، هو في اعتماد سياسة للإصلاح وليس للتغيير الجذري أو الثورة، فننطلق من الدستور الملكي الراهن في محاولة لتغليب القراءة أو التأويل الديمقراطي له على حساب القراءة أو التأويل السلفي. وهو ينصح بأن تكون الجهوية هي المدخل الأفضل لذلك( هذا ما سعت إليه الحكومة الحالية واستطاعت تنزيل جزء مهم في الجهوية)، أي أن يتم البدء في تأسيس المواطنة عبر الإشراك الفعلي للنخب المحلية في تدبير القضايا القريبة منها، على أن يتدرج ذلك حتى الوصول إلى القضايا الوطنية. والعروي يقدم هنا مقترحات ملموسة كأن يعاد النظر مثلا في التقسيم الجهوي الحالي باختزاله إلى عشر جهات فقط بما يجعل التوافق حاصلا بين البعدين التاريخي والسوسيولوجي لكل جهة، أو كأن تتحول الغرفة الثانية إلى المجلس الاستشاري الخاص للملك بدلا عن الدواوين و المجالس الأخرى المتعددة ..