مناسبة هذا المقال هو شريط فيديو انتشر مؤخرا بمواقع على الشبكة العنكبوتية، يصور مشاهد من عرس بمدينة العيون، يظهر في بدايته شابان يلبسان زيا عسكريا شبيها بلباس عساكر جبهة البوليساريو، ويسيران سير استعراض عسكري، قبل أن يستقبلهما موكب تتقدمه نسوة يحملن أعلام الجبهة، تبين فيما بعد أنه موكب عرس سرعان ما تحول إلى “مظاهرة زغاريد” مساندة لمطلب الانفصال الذي تنادي به البوليساريو.

من الواضح أنها رسالة جلية من منظمي التظاهرة إلى الدولة المغربية في أعقاب التطورات الأخيرة لقضية الصحراء التي ستدخل بعد أيام عقدها الرابع، مستنزفة المزيد من مقدرات المغرب وواقفة حجر عثرة في طريق إنجاح مشروع الوحدة المغاربية.

فمن هي الجهة التي تقف وراء استغلال هذه المناسبة الإجتماعية لتمرير هذه الرسالة المشفرة؟

إنهم بدون شك أولائك الذين درج الإعلام المغربي نعتهم بـ”انفصاليي الداخل”، وهم تيار سياسي مؤيد للجبهة، تنامى في الصحراء – منذ عقدين من الزمن على الأقل- مستغلا هفوات التدبير الأحادي لهذا الملف، فنشط في صفوف طلبة الجامعات وقطاعات اجتماعية أخرى، قبل أن تعلن الدولة عن وجوده في دجنبر 1999، معتبرة إياه “تنظيما سريا” مواليا للبوليساريو في الصحراء.

وجدت خلايا هذا التيار هامشا للتحرك في السنوات الأولى من حكم محمد السادس، بعد أن تمت إقالة وزير الداخلية الأسبق إدريس البصري بعد أحداث العيون الشهيرة، وخاصة بعد إطلاق سراح محمد ددش “الأب الروحي” لهذا التيار بداية 2002، وهو الذي قضى سنوات طوال في سجن القنيطرة بسبب قناعاته الإنفصالية. جاء إطلاق سراح ددش في إطار مبادرة الدولة لطي صفحة “سنوات الرصاص” عبر عملية “الإنصاف والمصالحة”، وحول ذلك الرجل تجمعت قيادات شابة ينتمي بعضها لإقليم أسا-الزاك -غير المتنازع عليه- كعلي سالم التامك وآمنتو حيدرا، واللذان سيصبحان فيما بعد أهم القيادات المعلنة لهذا التيار.

خلق التيار متاعب للدولة بعد أن اتخذ من الواجهة الحقوقية ميدانا لتمرير خطابه، حيث رأس علي سالم فرع الصحراء لمنتدى الإنصاف والمصالحة الذي كان يرأسه إدريس بن زكري، قبل أن يتم تجميد الفرع لميولاته الانفصالية ويسجن التامك سنة 2003، ويخرج بعدها بسنة بعفو ملكي. كما عارض التيار مبادرة الدولة بمنح حكم ذاتي للأقاليم الصحراوية في أعقاب الزيارة الملكية للعيون سنة 2005، وجرها إلى مواجهات عنيفة بمدن العيون والسمارة وجامعات الرباط ومراكش وأكادير، واجهتها الدولة كالعادة باعتقالات لرموزه وخاصة التامك وحيدرا.

المدخل الأريح والأنجح للدولة في اعتقادنا، هو فتح حوار عميق جاد ومسؤول مع قادة هذا التيار مهما كانت الصعاب

وفي أواخر 2007، أعلن بعض قادته عن تأسيس إطار حقوقي خاص بالصحراويين حمل اسم “جمعية المدافعين الصحراويين عن حقوق الإنسان” عرف اختصارا بالـ”الكوديسا”/CODESA، منحت رئاسته لآمنتو حيدرا. وجد ذلك الإطار في المقاربة الأمنية التي تعالج بها الدولة قضية الصحراء منذ عقود فرصة للحشد والتعبئة الداخلية، وكسب “تعاطف” المنتظم الدولي وخاصة البرلمان الأوربي والكونغرس الأمريكي -نسجل بهذا الخصوص الطلب الذي تقدمت به آمنتو حيدرا إلى لجنة الخارجية في الكونغرس الأمريكي- لإقناع البيت الأبيض بالتصويت في مجلس الأمن لصالح تمديد مهام “المينورسو” لتشمل مراقبة حقوق الإنسان بالصحراء، كما وجد دعما من المنظمات الحقوقية وفي مقدمتها أمنستي،  ولا زال يتلقى الدعم والمساندة إلى اليوم من مؤسسة “روبير كينيدي” الأمريكية. ومن جهة أخرى نشط أعضاء المنظمة إعلاميا داخليا وخارجيا إلى درجة أن منع “قناة الجزيرة” بالمغرب في ماي 2008، كان بسبب اتصال أجرته مع أحد قادتها في “نشرة المغرب العربي”.

بلغ استفزاز انفصالي الداخل للدولة ذروته بعد زيارة وفد من الكوديسا للجزائر ومخيمات تيندوف منتصف 2009، مما دفعت السلطات لاعتقال أفراده أثناء عودتهم بمطار البيضاء وتقديمهم للمحاكمة، وهو الحدث الذي دفع المغرب بعدها إلى التشدد مع هذا تيار، ففي خطاب ذكرى المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر 2009، قال الملك محمد السادس: “فإما أن يكون المواطن مغربيا أو غير مغربي، وقد انتهى وقت الإزدواجية”. 

كان تلك العبارة رسالة تحمل في طياتها وعيدا للتيار، تم على إثرها تشديد القبضة الأمنية وزيادة الحضور العسكري بمدن الصحراء، لكن تشدد الدولة ذلك لم يمنع أولائك الانفصاليين من تأطير “مخيم اكديم إزيك” الذي اتخذ له في البداية مطالب اجتماعية صرفة، والذي ستقوم السلطات الأمنية بفضه بالقوة صبيحة 8 نونبر 2010، قبل أن تصدر أحكاما قاسية في حق المتهمين في أحداثه.

إن الشريط المشار إليه في بداية هذا المقال، حمل رسالة من منظمي التظاهرة مفادها أن قبضة الدولة الأمنية لم تفت من عضدهم، كما يستشف منه أن انفصاليي الداخل يقودون عملا سريا يجد له حاضنة اجتماعية هي القبيلة، وإرادة دولية داعمة تواصل العمل على حلحلة القضية بما يخدم مصالحها الجيو-استراتيجية، تترجمها مواقف متعددة ابتداء بالبرلمان الأوربي ومرورا بالكونغرس الأمريكي وانتهاء بقرار البرلمان السويدي الأخير. 

يؤكد الشريط أن صوت الانفصال الذي خفت منذ خطاب نونبر 2009، عاد ليعلو من جديد ليؤكد بما لا يطرح مجالا للشك أن الخيار الأمني المتبع لم يؤت أكلا طيلة السنوات الماضية، وأن الدولة لن تستطيع مهما بلغت قدراتها أن توقف نشاط تيار محتضن شعبيا في مجتمع لا زال يدين بالولاء للقبيلة أكثر من ولائه للوطن. وإن أخشى ما يخشى الآن أن يتحول نشاط أولائك الإنفصاليين من السلمية إلى عمل مسلح، خاصة وأن الشريط جاء مشبعا بلغة “التعبئة العسكرية”.

إن المدخل الأريح والأنجح للدولة في اعتقادنا، هو فتح حوار عميق جاد ومسؤول مع قادة هذا التيار مهما كانت الصعاب، والقطيعة مع المقاربة الأحادية التي نجزم أنها لن تجدي نفعا في تنزيل أي خيار ترتضيه حلا مهما تعددت تسمياته، في ظل واقع عربي وإسلامي يزداد تمزقا تحت ضربات مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.