جاء في أحد كتب حكماء مصر القديمة  أن ملكا طلب من وزيره أن يحكي له طرفة  يروح بها عن نفسه فقال: سيدي، أطال الله في عمركم، قد رأيت حلما يخص مصيركم يوم البعث، وأنا مسرور لما رأيت، ومتشوق لسرده على مسامعكم. لقد رأيتك يا مولاي على “أكمةالنشور” أنت وباقي سلاطين وملوك ساسان والسند وخراسان ترتجف خوفا في حضرة الإله  “أوزيريس”، وقد أمركم بعبور نهر الخطايا الذي يقيس ذنوب كل  ملك بقدر ما علق من أدران بجسده، فترادفتم  فزعين مسرعين، ولما بلغتم الضفة الأخرى كان  سيل النهر قد غطى الملوك إلى نواصيهم، أما أنت يا مولاي فبالكاد وصل إلى  قدميك المباركتين.  فانتصب الملك مندهشا وهو العليم بما اقترفت يداه من صنوف الظلم في حق رعاياه المستضعفين وقال متهكما:  أهو جزائي على حسن صنيعي؟ أم أن الآلهة غفرت لي؟ فأجاب الوزير قائلا: لا هذه و لا تلك يا مولاي،  إن منجاتك كانت بفضل إخلاصي وولائي لك يا عالي المقام.. لقد عبرت النهر فوق أكتافي!

إننا نستدعي هذه الحكاية لعبرتها السياسية  الثاوية خلف مضمونها الميتي، ونعني لجوء الماسكين بزمام الحكم الفعليين دوما إلى توظيف الرجل الثاني  في  تنفيد المهام  والقرارات الصعبة (القرارات اللاشعبية من قبيل مصادرة الحقوق والحريات والزيادات في الضرائب و الأسعار..) التي تثير عادة  سخط الشعوب. ويبدو أن النظام السياسي المغربي بارع في استلهام هذا المغزى وتنزيل فصوله منذ الاستقلال. وخاصة عندما تشتم الدولة العميقة، بما راكمته من خبرات، أن الوضع الاجتماعي على وشك الانفلات بسبب انحباس الوضع السياسي وتدهور الأوضاع الاقتصادية ( صة السكتة القلبية- اليوسفي، 20 فبراير- بنكيران).

تقديرنا أن تجربة بنكيران مع وهم الاصلاح لن يكون مآلها أفضل من مآل تجربة اليوسفي، فالملاحظ أن الحكومة الحالية ماضية في الإجهاز على تطلعات معسكر المراهنين على تحسن الأوضاع في ظل الاستقرار، وتعزيز نفوذ الحرس القديم (وهي المهمة التي يبدو أنه قد جيء به لأجلها) من خلال تمرير قرارات تعاكس روح الاصلاح الذي يتوق إليه المواطن. ذاك الإصلاح الذي يستشعر آثاره في المدرسة والمستشفى والمحكمة والقوت اليومي، دون أن يكون مجبرا على قبول ومباركة الحلول السهلة التي ترمي إلى تفقير الطبقة المتوسطة الهشة أصلا،  وسحق الطبقة المسحوقة من الأساس؛ طالما هنالك حلولا ممكنة كفيلة بتجنيب المواطن ويلات القرارات اللاشعبية، كإعادة النظر في الوعاء الضريبي،من خلال فرض ضرائب تصاعدية على الثروة، وعدم الاستمرار في إعفاء “الإقطاع” الفلاحي من الضرائب التي تعتبر، لوحدها، رمز المواطنة في الدول التي تحترم روح العقد الاجتماعي. أضف إلى ذلك تقليص ميزانية  lمؤسسات معينة لا ترقى مردوديتها إلى ما ينفق عليها من أموال،(مع استثناء القطاعات الاجتماعية)، وإخضاع الصناديق السوداء لقانون المالية العمومية وتطبيق الحكامة المالية بصرامة فيما يتعلق بالملك العمومي، وتجفيف منابع اقتصاد الريع الذي يوجد تحت تصرف المحميين[على غرار المستفيدين من الحماية القنصلية في مغرب القرن 19/ الفئة التي أسماها الفقهاء آنذاك ب “أهل البصبور”]، لكن للأسف عندما شرعت الحكومة في بداية ولايتها في الحديث عن الموضوع ونشر اللوائحتم إجبار بنكيران ووزرائه على الصمت وغض الطرف عن الموضوع ، لأن من شأن ذلك أن يتسبب في حوادث سير مميتة لتجربته [التي يحرص على استمرارها مهما كانت التنازلات] أي يجب ترك الفساد كما هو آمنا مطمئنا.

من غير المستساغ أن يؤدي المواطن الضرائب وبعد ذلك يجد نفسه مضطرا لتأدية أقساط شهرية مرتفعة مقابل تدريس أبنائه بمؤسسات التعليم الخاص والتردد على المصحات الخاصة التي تعمل بشعار الأداء قبل العلاج

ومادام حزب  العدالة  والتنمية  المغربي  حريصا  على إبداء الإعجاب بنظيره التركي ومصرا على التماهي مع بعض نجاحاته،فإننا ندعو بنكيران إلى تأمل  تجربة رجب طيب أردوغان في تدبيره لشؤونمدينة إسطنبول التي كانت في حالة إفلاس مسيرة من قبل مسؤولين يعملون بمنطق “المافيا”،  قبل أن تحقق الفائض في ميزانيتها وتنجح في التخلص من مديونيتها.وعندما سئل الرجل عن سر نجاح وصفته أجاب: حاربنا الفساد المالي بالمدينة فقط (الفساد الكبير) !!!. 

لكن، على العكس من ذلك تماما، يبدو أن هذه الحكومة الملتحية المطعمة ببهارات G8 !، تبحث عن الحلول السهلة لمعضلات البلاد الاجتماعية والاقتصادية، وهي وغير قادرة علىتكسير جدار الصمت، ولا يبدو أنها تملك الإرادة والإصرار اللازمين لإحداث تلك الرجة المطلوبة في معسكر الفساد والاستبداد.   

 إن المواطن المغربي قد يتفهم إقدام الحكومة على سن سياسة التقشف في السنوات العجاف، لكن ذلك سيكون مشروطا باستفادته من ثمن تضحياته، من قبيل ضمان تعليم عمومي ذي جودة عالية وتغطية صحية لائقة، فضلا عن خدمات عمومية أخرى لا تقل أهمية،ناهيك عن لزوم استفادته من تدخل الدولة في مجال السكن الذي يوجد اليوم بين أيدي “أغنياء العقار” الذين لا يتورعون في امتصاص دماء المغاربة مقابل تمكينهم من بيوت تحط من الكرامة البشرية،مستفيدين في ذلك من الاحتكار والمضاربة  وقانون العرض والطلب الذي لا يرحم. 

 إنه لمن غير المستساغ أن يؤدي المواطن الضرائب وبعد ذلك يجد نفسه مضطرا لتأدية أقساط شهرية مرتفعة مقابل تدريس أبنائه بمؤسسات التعليم الخاص والتردد على المصحات الخاصة التي تعمل بشعار الأداء قبل العلاج،في بلد يعاني من فوارق طبقية رهيبة! …لكنه ليس غريبا في ظل حكومة يمينية لا تجد حرجا في اعتمادنموذج تنموي يدور في فلك توصيات صندوق النقد الدولي …ويضع المغاربة تحت رحمة الاختيارات الليبرالية المتوحشة التي كانت وبالا على شعوب كثيرة.

إيجازا يمكن القول أن حزب العدالة والتنمية تحت ولاية بنكيران مهووس ببناء جسور الثقة مع الملك ومحيط القصر وليس من أولوياته قلب الطاولة والقيام بعمليات جراحية مؤلمة للفساد بمنطق( il suffit de brûler un rat pour que les autres se mette à distance de toi pendant longtemps) !!! . وهو مستعد أيضا للانبطاح أمام الآمرين  بالصرف مقابل استمرار تجربته الحكومية،  ولو كان ثمن ذلك اتخاد قرارات والبحث عن حلول سهلة  ومكلفة اجتماعيا وغير مضمونة النتائج، المهم هو عدم الإصطدام مع الفساد الأكبر(…).  من ينتظر من قوى اليمين أن تقوم بذلك كمن يتوقع شروق الشمس من المغرب وغروبها في المشرق.