كانت السياسة ولا تزال محكا إنسانيا حاسما , و حالة اختبارية عسيرة لكل من يتخذ “الحق” دعوى في التناجز الديني أو المذهبي. يصْدُقُ هذا في حق تلك الكيانات الإسلامية الناشئة على عجل هنا وهناك, فلا تلبث أن تسقط عند أول محك من هذا القبيل .كما يصْدُقُ في حق المجموعات المذهبية الكبرى والغائرة في جسد التاريخ ,وهي تطور أسلحة الدفاع و الهجوم حماية للحق الذي تصدر عنه و نسفا ل(الباطل) الذي يعترضها. بيد أن محك الارتهان السياسي والمالي المذكور – وهو متحول ومراوغ في خواصه- لا يكاد يصمد معه أي (حق) مدّعىً.

جَدّت الآلة الدعائية الشيعية عقب مقتلة كربلاء الأثيمة في الدأب على اختزال الباطل في ذات القاتل يومها (يزيد بن معاوية) على نحو قد يتعدى شخصه ليلحق ,بجريرة ذلك, كل أهل السنة تعميما.فيما تم بالمقابل احتكار “الحق” في دائرة شيعة أهل البيت ,مستفيدين من رصيد المظلومية الفاحش الذي راكمه هؤلاء في صدامهم مع السلطة (السنية) الظالمة و المستبدة بحد السيف . تلا ذلك سعي لترميز الحق والطهر والاستضعاف في شخص الحسين (عليه السلام) ,وسعي آخر مواز لوصم “يزيد” بعار الخطيئة الكبرى;خطيئة أهل الباطل. 

استطاع هؤلاء الصمود بروايتهم التاريخية تلك إلى أن بلغ بها أيام الناس هذه بتفاصيلها الدامية وقائمة مجرميها و شهدائها. و ظفر إزاء ذلك بقدر من التعاطف تعدى حدود المذهب, انتصارا للحسين المظلوم و تقززا من فعلة يزيد و تشنيعا بسيرته في الحكم, إلى الحد الذي أضحى فيه التنديد بما حصل مشتركا إنسانيا وأخلاقيا ; ليس فقط لأن الضحية هو الحسين ,ولكن بالنظر إلى نماذج الحكم العتيقة تلك كأحد شواهد الاستبداد السياسي المذموم.

كيف يستقيم في فهم شيعة اليوم حقان ؟ حق جسده الحسين بخروجه على الظالم و حشده الناس فيما يشبه العصيان المدني السلمي , و(حق) لحاكم يقود نظاما شموليا قمعيا بأدوات بوليسية بل عسكرية ثقيلة في حق شعبه ؟ 

دار الزمن دورته بالمذهب (الثوري) حتى توارت من خطابه ثنائية الحق و الباطل , لصالح مقولات سياسية أكثر برجماتية و أشد أثراً, و قد أملتها حسابات السياسة و منطق التحالفات الإقليمية الراهنة بعد أن استحال (الحق) الحسيني رقما هزيلا في المعادلة الكونية. بفعل ذلك أخذت دعوى (الحق) الشيعي تلك تفقد الكثير من وهجها الإنساني و تسفر عن عصبيتها الطائفية القبيحة وهي تراقب واقع الود و الولاء غير المسبوق بين دولة الولي الفقيه و طائفة من نخبة مجرمي العصر الحديث ! لذلك ,لن تصمد في بالك طويلا لازمة ( انتصار الدم على السيف) و أنت تراقب حجم النار المصبوب على أجساد سورية بريئة لم ترغب في ركوب سفينة خامنئي و بشار. لن تصمد طويلا و أنت تطالع أفواج المقاتلين الشيعة – من الحرس الثوري و فيلق القدس و حزب ضاحية بيروت- وهي تذيق السوريين طعم الموت تحت راية الحسين, و بعد أن أخلت حدودها مع إسرائيل ! لن تصدق المراثي الحسينية الحزينة في كربلاء و أنت تسمع أصداء الشماتة و التشفي من (شيعة أهل البيت) في حق آلاف المصريين ممن قضوا على يد الجيش المصري الحليف و الصديق !

نعم, لقد انتصر الحسين للمظلومين و انتصر يزيد لنفسه و أطماعه السياسية. لكن شيعيا كعبد الملك الحوثي كان مراوغا و مُدَلّساً باسم (الحق الحسيني)  يوم شبه حرب الرئيس اليمني المخلوع على شيعة اليمن بحرب يزيد على أهل البيت و شيعتهم. لأن محك السياسة جمع الرجلين معا على جبهة واحدة , في حربهما على الشعب اليمني بنيران الولي الفقيه . نعم , لقد خاض يزيد – و ولاته من بعده- في دماء كثيرة كان أشدها فداحة دم الحسين . لكن رجلين من زمننا أبادا معا مئات الآلاف من الأرواح البشرية الآمنة و شيدا نموذج حكم قمعي لا نظير لاستبداده في التاريخ الحديث .رغم ذلك ,تجد من صلب شيعة أهل البيت من يشيد بهما و يعلي راياتهما ,بل و يحارب تحت امرتهما و يدعو لهما في الحسينيات و يجعل لهذه أسماء من وحي أسمائهما !

كيف يستقيم في فهم شيعة اليوم حقان ؟ حق جسده الحسين بخروجه على الظالم و حشده الناس فيما يشبه العصيان المدني السلمي , و(حق) لحاكم يقود نظاما شموليا قمعيا بأدوات بوليسية بل عسكرية ثقيلة في حق شعبه ؟ هل يجدون في بشار –وقد أثخن في الناس قتلا- نعومة لم يحظ بها سلفه يزيد ؟ كيف استطاعت ( آيات الله العظمى) أن تغامر برصيد تليد من المظلومية  و الانتصار للضحية في سبيل التكيف مع وضع طائفي طارئ؟  هل من صواب في قول القائل أن (الحق الحسيني) أخذ يخسر الكثير من نقاطه منذ صارت مرجعياته الدينية فارسية؟ 

ستستمر مواكب العزاء الحسيني إلى أن تدرك أربعينيته . و سيستدعي الشيعة صور الظلم الذي نزل بعترة الحسين ، إلى أن يبلغ بهم الأسى مبلغ جلد الذات و طعنها . ربما , ترق منهم النفس فيلقون نظرة أسى  على محارق دوما و حلب و البوكمال حيث يباد الحق باسم (الحق).