تاريخياً، وكباقي الدّولِ والمجتمعات، عاشَ المغربُ عديدَ الأحداثِ؛ دَرَّسونا بعضاً منها، والبعضَ الآخر وُضِع في كتبٍ، فقط القليل منّا من يعرفُها، أو يتجاهلُ معرفتَها. لكن الذي أُطمر، الذي حُجِب ودُفِن، حسب ما رأينا للحدِّ السّاعة – وقد نكون على خطأ، هذا وارد – يفوقُ بكثيرٍ الذي أُبين وقيل.

يكفي أن يَنْبُشَ الواحدُ منّا في تاريخِنا القريب (النّصف الأخير من القرنِ المُنْقَضي) ليجدَ بعض الحقائقِ، للأسفِ، مُؤلمةً جداً. حقائقٌ لن نُبالغَ إذا قلنا، إنّه لو وقفَ عندها واحدٌ من أَعْدَمِ المغاربةِ وطنيةً وإنسانيةً، لدَسَّ رأسهُ في التُّراب من فرطِ إحساسِهِ بالخجلِ، والخِزِيِّ، والعارِ، لاشتراكِهِ الوطنيةَ والإنسانيةَ مع أُناسٍ، تفَنّنوا في قتلِ وتعذيبِ أبناءِ الوطن. أبناءُ وطنٍ، كان خطأهُم الوحيدُ، أنهم حاربوا الاستبدادَ والاستبلادَ، وناضلوا من أجلِ الحريةِ والكرامةِ الإنسانيتين.

ولئن كان الشغلُ الشاغلُ لجهاتٍ معينةٍ، هو دفنُ وإقبارُ جزءٍ من ذاكرتِنا المغربية، فإنّ غرضنا مِن ما نكتب الآن، هو نفضُ الغبارِ على بعضِ ما أُطمر وأُخفي.

أحد هؤلاءِ الذين ناضلوا وكافحوا من أجلِ الحريةِ؛ حرية الوطن من الاستعمارِ أولاً، ثم حُرية المجتمع من التخلفِ ثانياً، والذي دَفَعَ ثمن توجّهه ذاك، كان الأيقونة السّياسية العالمية المهدي بن بركة، الذي اغتيل في مثلِ هذا اليوم، وفي مثلِ هذا الشهرِ، من العامِ 1965. فمن هو يا ترى المهدي بن بركة؟ ومَن اغتاله ولماذا؟ ثم ما مصيره بعد الاغتيال؟

المهدي بن بركة في سطور

هو – كما يقول عنه المهدي بنونة في كتابه؛ أبطال بلا مجد.. فشل الثورة – “من الرجال القلائل الشجعان، من ذوي القناعات الذين يحلُمون بانعتاق رعايا يخدمون، أو فُرض عليهم أن يخدموا دكتاتورية مقدسة”. لقد كان الرجلُ واسعَ المعارفِ، عارفاً بعديدِ اللُّغات، دقيقاً في تنظيمِهِ، نشطياً في تحركاتِهِ، لدرجةٍ أن الكثيرينَ وصفُوهُ ب”الدّينامو” لكثرةِ تحركاتِهِ. وقد كتب عنه في هذا الصددِ، محامي العائلة السّيد موريس بيتان قائلاً؛ “… ففي مستهل عام 1965 كاد بن بركة أن يتعرض لعملية اختطاف وهو في طريق عودته إلى بيته بجنيف رفقة عدد من الجزائريين. ومع ذلك واصل تنقلاته وأنشطته في مختلف القارات. وقد  شارك في فبراير ممثلا عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الندوة الأفريقية الأسيوية بموافقة مع السلطات الجزائرية (…) وكانت فرصة للقاء مطول مع تشي غيفارا. وفي بداية أبريل حل بالقاهرة لحضور مؤتمر دولي حول فلسطين، حيث قدم عرضا قويا اللهجة في موضوع “دور إسرائيل في أفريقيا”. وفي آخرهذا الشهر، حضر لقاء في فرانكفورت، وهاهو في مطلع بجنيف”. (نقلاً عن جريدة المساء المغربية، العدد 2814)

لقد كان الرجلُ رحّالة فعلاً، يحملُ أفكارَهُ وطموحاتِهِ من أجلِ تغييرِ الواقعِ المُعاش، واقع بلدِهِ بدرجةٍ أولى، وواقع البلدان التي تعيشُ تجاربَ الحَيْفِ والذُّل والمهانةِ. لكن، وللأسف، فإن طموحَهُ ذاك، أدى إلى اغتياله.

تبقى الحقيقة، لحدِّ الساعة، مطمورة مخفية عند مرتكبي جريمة اغتيال بن بركة. ونحن اليوم إذّ نكتُبُ هذِهِ الأسطر، فإننا نكتُبُها لنقول للذين دفنوا، أو أحرقوا، أو أذابوا، جثّة المهدي، إن الأخيرَ رغم سعيكُم الشّنيع ذاك، لن يَنْمَحِيَّ من ذاكرة المغاربة

مَن اغتالَ المهدي بن بركة ولماذا؟

ليومِنا هذا، وبعد مُرورِ نصفِ قرنٍ من اختفاء المهدي، لم يتم تحديد – تحديداً قانونياً – الجهات المسؤولة عن اختفاءه، وإن ظهرت بعض الحقائقِ والإشاراتِ التي تُؤكدُ تَورُّط أربع جهاتٍ في قضيةِ اغتياله؛ أولاً الدّولة المغربية في شخصِ الجنرال أوفقير وذراعه الباطشة الدليمي بصفةٍ مباشرةٍ، والملك الحسن الثاني بصفةٍ غير مباشرة، ثانياً دولة إسرائيل التي وفّرت مساعدات مادّية ولوجيستسكية من خلالِ جهازِها العتيد الموساد، وذلك من أجلِ تَتَبعِ خطوات المهدي، ثالثاً الدولة الفرنسية التي وقعت الجريمة على أراضيها، ثم أخيراً، وإن بكيفيةٍ غير واضحةٍ، الدولة الأمريكية.

بدأ الصّراع بين بن بركة والحسن الثاني حينما كان الأخيرُ وليّاً للعهد، حيثُ عارَضَ الأمير الحسن، تَرَأُسَ المهدي بن بركة الحكومة التي سيقودها لاحقاً عبد الله إبراهيم، مثلما عارَضَ كذلك توّلي بن بركة حقيبة التربية والتعليم في حكومة عبد الله إبراهيم. لكن الصّراع سيشتدُّ بعد اعتلاءِ الحسن الثاني لسدّة الحُكم، إذ لم يُوافق بن بركة على الحكمِ المُطلقِ الذي بَاتَ عليه النّظام المغربيُّ مع الحسن الثاني. ونظراً “لطبيعة هذه المنافسة، فقد كانت نتيجتها في غير صالح بن بركة، بحيث أدت إلى تصفيته الجسدية”. (المهدي بنونة، أبطال بلا مجد.. فشل الثورة)

لقد اِغتيلَ بن بركة من قبلِ الجهاتِ الأربع المذكورة أعلاه، لأنه – حسب أغلب المَتَتَبِّعين لقضيةِ المهدي – كان يُشكلُ لهم عائقاً أو مشكلاً أمام سياستهم الاستعمارية والاستبدادية. وإن كانتِ الدولةُ المغربيةُ هي المسؤولةُ رقم واحد في قضيةِ اختطافه، وهو الأمرُ الذي أكَّد عليه آنئذٍ، الجنرال شارل ديكول في اجتماعٍ خاص لمجلسِ الوزراءِ الفرنسيِّ حينما قال؛ “إن فرنسا تعتبر المغرب مسؤولا مباشرا عن انتهاك قانون الإنسانية، وقانون فرنسا وحرمة الأراضي الفرنسية بالتحريض على القتل”.

مصير المهدي بن بركة بعد عملية الاغتيال؟

تضاربتِ والرواياتُ واختلفت حول مصيرِ بن بركة بعد اختفاءِهِ عام 1965. فهنالِكَ من الرّواياتِ ما تقُولُ إنهُ تمَّ تعذيبُ بن بركة من طرفِ الجلاّدَين أوفقير والدليمي، وأمْعَنَا في ذلك حتى فاضت روحُهُ، ثم دُفن في ضواحي باريس. وروايةٌ أُخرى تقولُ إنهُ تمّ فصلُ رأسِهِ عن جسدِهِ، ثُم جيءَ بالرأسِ إلى المغربِ وأُقيم حوله عشاء باذخ! وهنالك رواية تقولُ إنهُ تمّ تذويبُ جسدِهِ في حوضِ للأسيد بدار المقري! ثم قيل إنهُ قُتل – كما قال الإخوة بوريكات – في معتقلٍ سريٍّ بضواحي مدينة الرباط…الخ.

لكن رغم هذه الرويات، هذه الحكايات المتعددة والبَشِعة، تبقى الحقيقة، لحدِّ الساعة، مطمورة مخفية عند مرتكبي جريمة اغتيال بن بركة. ونحن اليوم إذّ نكتُبُ هذِهِ الأسطر، فإننا نكتُبُها لنقول للذين دفنوا، أو أحرقوا، أو أذابوا، جثّة المهدي، إن الأخيرَ رغم سعيكُم الشّنيع ذاك، لن يَنْمَحِيَّ من ذاكرة المغاربة. وكما يقول شكسبير؛ “يموت الجبناء قبل موتهم الأخير، أما الرجال الشجعان، فيبقون أحياء حتى بعد موتهم”. والمهدي بن بركة من هؤلاءِ الشجعان طبعاً.

في اِنتظارِ أن يُفصح عن حقيقةِ المهدي، نتقدم اليوم، بمناسبة ذكرى اغتياله، بأحرِّ تعازينا لأسرة بن بركة الصّغيرة، مثلما نُعزي المغاربة قاطبةً، وخاصةً الأحرار من كلِّ قَيدٍ وأَسْر.