من منا لم يصب بالدهشة و الحيرة أمام حجم الحقد و الغدر و الغضب الذي حملته الهجمات الارهابية على باريس. غير أن دهشتنا هاته تجاه عزم هؤلاء المشحونين بالعنف و الكراهية ضد بني جنسهم من البشر قد لا ينفعنا في فهم عمق الظاهرة الارهابية ،ولا حتى في حساب آثارها الفعلية أو المفترضة على السياسات العمومية الداخلية أو الخارجية للدول.

إن الظاهرة الإرهابية لم تكن يوما حكرا على الحركات الاسلامية الراديكالية ، بل التجأت إليها أيضا  العديد من الحركات السياسية في التاريخ، كشكل من أشكال الحروب غير النظامية، الطويلة الأمد، التي تهدف إلى زعزعة استقرار الأنظمة السياسية و استنزافها من جهة، و إلى لفت انتباه  الرأي العام نحو قضية سياسية أو عقدية تم تهمشيها أو التعاطي معها بشكل خاطئ.  إذ ليس هناك من سبيل أفضل و أقصر لتحقيق هذه الغاية مثل النيل من حياة المواطنين الأبرياء، الذين يقدمون كقرابين سهلة المنال في معابد الصراع السياسي. 

الغريب في ذلك ليس هو اللجوء إلى العنف في ذاته ، الذي يظل شكلا من أشكال التفاعل السياسي و امتدادا طبيعيا له متى انعدمت القنوات المؤسساتية للحوار و التفاوض و الاعتراف المتبادل. بل هو التبرير الأخلاقي و القيمي للمس بأمن و حياة المواطنين العاديين. إذ يتم تصوير ذلك من قبل الجماعات الراديكالية على أنه ضرورة حتمية في الصراع من أجل تحقيق أهدافها السياسية أو العقدية العليا. ما دامت هذه الجماعات تعتقد بشكل جازم أن عنفها ضد الدولة، من خلال مواطنيها، يعد عنفا شرعيا و مشروعا و عادلا مقابل عنف الدولة و المجتمع الغير عادل.

الغريب أيضا هو أنه لا يزال بيننا من يؤمن بهده الفكرة إما بشكل عفوي أو بشكل مقصود. فحينما يعتقد بعض يساريينا، الذين يدافعون بسذاجة عن تجربة اليسار الراديكالي، بأن عنفهم الثوري لم يكن عنفا غادرا ، بل كان عنفا ثوريا موجها نحو تحقيق حلم الثورة البروليتارية، عبر ممارسة العنف ضد الطبقات الحاكمة و رموزها، فإنهم لا يختلفون أبدا عن هؤلاء الدين يدافعون، بقصد أو غير قصد، عن عدالة عنف الحركات الاسلاموية الراديكالية، باعتباره عنفا شرعيا يصبو إلى إحقاق العدالة الإلهية في الأرض حتى و إن تأذى الناس به.

ما يثير الجدل هنا هو أن كلا الطرفين يعتقدان بأن هناك عنف عادل و عنف أخر غير عادل. و بأن العنف السياسي العادل، الذي يسعى إلى تحقيق غايات نبيلة، يظل كذلك حتى وإن سقط بعض الأبرياء في ساحة المعركة.

لا نجد في التاريخ مثالا لحركات إرهابية استطاعت أن تغير موازين القوى السياسية بالإرهاب  والإغتيال فقط. ذك أن الدول التي تتعرض للإرهاب غالبا ما تستمر، بل و تتقوى أكثر مما كانت عليه

و الحال أن العنف السياسي -باستثناء العنف الموجه ضد المستعمر- يضل من الناحية الأخلاقية و القيمية، عنفا مرفوضا و غير عادل ، مهما تعددت مسوغاته و مبرراته: عقدية أو سياسية أو هوياتية، بالنظر إلى الأذى المادي و النفسي البالغ الذي يلحقه بالمواطنين  الأبرياء و بممتلكاتهم من جهة، و إلى نزوعه  الطبيعي  نحو التقرير بغير حق في مصائرهم  .

أما من الناحية السياسية الصرفة فإننا لا نجد في التاريخ مثالا لحركات إرهابية استطاعت أن تغير موازين القوى السياسية بالإرهاب  والإغتيال فقط. ذك أن الدول التي تتعرض للإرهاب غالبا ما تستمر، بل و تتقوى أكثر مما كانت عليه. و لعل في تاريخنا المعاصر العديد من الأمثلة التي تؤكد هدا المنحى. حيث  أن الهجمات الإرهابية سمحت للقادة السياسيين من تحقيق الكثير غاياتهم السياسية، كما سمحت للعديد من القادة المتطرفين إما الوصول إلى السلطة أو تحقيق برامجهم المعادية للمهاجرين أو للإسلام أو حتى لجيرانهم .

حيث أن الإرهاب ‘ باعتباره عنفا سياسيا موجها نحو الدولة عن طريق مواطنيها و ممتلكاتهم،  يخلق حالة من الاستنفار و الرهاب الشعبي في الدولة، بما يسمح لاحقا بتبرير الكثير من السياسات العمومية المتشددة  أو الماسة بحقوق الإنسان  في مجال الأمن و الهجرة . فبالنسبة للبلدان الديمقراطية يشكل الإرهاب ذريعة سياسية  للتقليص من الحريات الفردية و الجماعية الأساسية و للتضييق على الأجانب، عبر سن قوانين صارمة أوعبر اتخاذ اجراءات إدارية و أمنية مشددة تحد من قدرتهم على التنقل عبر الحدود. أما بالنسبة للبلدان غير الديمقراطية فإن الإرهاب يشكل فرصة للحكام للتصفية المعارضين و التضييق على الحريات السياسية الفردية و الجماعية  و الاستفراد بالحكم بذريعة الحفاظ على وحدة و سلامة و أمن الدولة.

مهما تكن المسوغات السياسية فإن الإرهاب لا يشكل فقط خطرا داهما على الدول و مؤسساتها بل أيضا على الحريات الفردية و الجماعية للمواطنين. من هذا المنطلق فهو توأم و امتداد طبيعي للاستبداد، و عدو لدود للحرية و الإنعتاق في كل المجتمعات و الدول، و من ثم لا يحق لأي أحد تمجيده حتى و إن كانت أهدافه نبيلة و عادلة. ذلك أن الحرية و المواطنة لا يستقيمان في ظل العنف حتى و إن حسنت نوايا و أهداف أصحابه، بالنظر إلى أن ضحاياه قد يكونوا أبرياء لا ذنب لهم و هذا كاف لإدانته و شجبه و التصدي له في أي مكان و زمان.