أصدر (كاراكلا) إمبراطور روما سيئ الذكر مرسوما رفع بمقتضاه وصم الرق عن فئات واسعة من عبيد الإمبراطورية ,ومنح به صفة المواطنة الكاملة لكل ساكنيها. حتى شاع على اثر ذلك أن الرجل عازم على أنسنة نظام حكمه تصحيحا و استدراكا لماضيه الدموي. لكنه أسر لدائرته القريبة أن شيئا من ذلك لن يحصل ,و أن الأمر في جوهره “سعي بعيد النظر لتكثير كتلة دافعي الضرائب و ضمان لجبايتها بالتساوي من كل جهات الإمبراطورية و بصبيب أشد تدفقا مما سبق” . في ظل حكم شمولي لا ذكر للقيم و لا المثل الإنسانية العظمى إلا من جهة كونها تورية سياسية و تبييضا لغاية نفعية تفتل في حبل الاستبداد ذاته و تحمي سلة بيضه الفاسد. ذات التقدير ينطبق على قيمة العفو و الصفح التي أضحت حقا سياديا للحاكمين و مسلكا قلما يكتفي بطعمه الإنساني النبيل.

العفو في أغلب التجارب الديمقراطية تقليد سياسي و امتياز دستوري محفوف بحزمة اعتبارات و قيود لا تسمح به إلا على وجه الاستثناء , حرصا على هيبة الجهاز القضائي و صونا لسمو أحكامه و نفاذها و دون غمط ذوي الحقوق. في هذه الحال يظل هذا الحق السيادي المكفول للملك أو رئيس الدولة سلوكا حصريا تعد حالاته سنويا ما دون أصابع الكفين ,أو كلما دعت الضرورة السياسية أو المصلحة العامة أو النوعية لذلك ,كتلك التي حدت بالملكة إليزابيث أن تصدر عفوا عن عالم الرياضيات الشهير ألان تيورينغ بعد ستين عاما من إدانته بالشذوذ ثم انتحاره , و تجاوبا منها مع دعوات أكاديميين انجليز لإنصاف المنجز العلمي للرجل من خلال ممارسة الملكة “حق الرحمة السيادي” المكفول لها.

تؤطر الوثيقة (الدستورية) الأخيرة- في الفصل 58 منها –هذا الحق السيادي :[الملك يمارس حق العفو] دون أن يخضع هذا الأخير لأي قانون منظم أو اعتبار عرفي يقيده. لذلك تعرف حالات العفو عندنا غزارة لا نظير لها, و عند كل مناسبة دينية أو (وطنية). و يكفي لإدراك حجم ذلك أن نعلم أن عدد المشمولين بالعفو الملكي بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لعيد العرش قد فاقت 13 ألف مستفيد ! وهو رقم صادم إذا ما قيس بحالات العفوالتي تصدرها الملكيات القريبة و البعيدة .و إذا علمنا أيضا أن الحق يمارس أكثر من مرة سنويا. يدفعنا هذا المعطى للتفكير و البحث عن إجابات و اجتراح الآليات التي تنتظم وفقها هذه الممارسة في نسختها المغربية .و هو بحث سيقودنا حتما خارج حدود “الحق السيادي” للتفكير في الأوجه السياسية لاستثماره ; بمنطق المخزن لا بمنطق دولة المؤسسات. 

بعد أن عرفت تجربة التناوب ,وما سبقها من ترتيبات, معظم حالات الاستدماج بالعفو أو برفع التحفظ المخزني ,و التي على إثرها انفتح المجال العمومي في وجه الكثير من الأسماء و الأحزاب و المؤسسات لتنشط في ظل (المشروعية) بعد سنين من المعارضة 

باتت قوائم العفو في حق المحكومين بقضايا الحق العام – ولا تزال- مثار مؤاخذات حقوقية جمة. و هي بذلك تجل صارخ لمنطق الريع الذي يسم معظم دوائر التدبير العمومي و يستغرق معظم محطاته. أما من زاوية التقدير السياسي فان هذا الفعل السيادي لم يعد يلجأ له من باب الاستثناء الإنساني أو الاجتماعي فحسب, بل انه أضحى –بفعل التراكم التاريخي- تقليدا سلطانيا تمليه المناسبة و تهيأ لصدوره طقوس الدعاية الإعلامية اللازمة و فروض الامتنان العميق ل( الجناب العالي). كما أن اطراد هذه الممارسة الحصرية للملك و استغراقها معظم لحظات “الفرح العام” ليجعل من شخص المتفضل بها ملجأ و حيدا للعطف و عنوانا للصفح الجميل و سلطة فوقية تبطل في حضرتها كل الأحكام الغليظة . و تبعا لذلك فان الوضع الاعتباري للملك لا يكتفي بذاته معطى تاريخيا متوارثا فحسب,بل حاجة وجودية للوطن و المواطنين.

أما بخصوص حالات العفو في حق رموز بعض التعبيرات السياسية و الفكرية المناهضة للسلطة القائمة و مؤسساتها ,فان الأمر يأخذ منحى مغايرا تماما ; حيث تحرص الدولة من خلال ذراعها القضائي على إثقال لوائح الاتهام ضدهم ابتداء ,ثم على الدفع نحو تشديد الأحكام الصادرة , و تحصينها من مسارب الاستئناف ثم النقض في انتظار القادم !? في مثل هذه الحالات لا يتم إغلاق القضية بصدور الحكم. بل إن منطوق الإدانة يستحيل في الغرف المغلقة أداة مساومة في يد السلطة ,تسعى من ورائها لتطويع المدانين و (إعادة تدويرهم) سياسيا ,على وعد أن يلحقهم تشريف العفو الملكي إن هم جنحوا نحو التعاون و تليين المواقف . كثيرة هي الأسماء المعارضة التي استنقذتها جلسات المساومة هذه من طوق المشنقة بعد أن أبطله العفو الملكي ثمنا لتراجعها الجذري عن مواقفها إزاء السلطة القائمة و مؤسساتها . بل إن رموزا كثيرة من المعارضة الصلبة لمغرب الأمس قامت بتعديلات و تراجعات على نحو سحري بمجرد شمولها بالعفو أو بمجرد رفع التحفظ المخزني عليها,بما يسهل إعادة اندراجها في قنوات العمل السياسي و المدني (المشروع). و لعل تجربة الأصالة و المعاصرة تصلح نموذجا أنسب لاستيضاح أثر ذلك و ثمرته بعد تأمل سريع  في قائمة الأسماء التي تشغل مسؤوليات وطنية في الحزب. 

بعد أن عرفت تجربة التناوب,وما سبقها من ترتيبات, معظم حالات الاستدماج بالعفو أو برفع التحفظ المخزني , والتي على إثرها انفتح المجال العمومي في وجه الكثير من الأسماء و الأحزاب و المؤسسات لتنشط في ظل (المشروعية) بعد سنين من المعارضة ,فان سياق الربيع الديمقراطي و الحراك العشريني في المغرب استحث الحاجة لتحريك آلية العفو في حق بعض من الرموز المنتظر تعاونها و تبنيها وظائف المضادات الفكرية و السياسية و تأمين الدفاعات الذاتية في وجه الخطر الذي باتت تشكله “قوى الشارع”. و ذاك ما تم فعلا;حين استعانت الدولة بتشكيلة من رموز السلفية المناهضة و سخرتها –بعد تمتيعها بالعفو- للتحريض ضد الحراك الشعبي و التسفيه الأخلاقي و الديني لنشطائه خدمة للسلطة القائمة و احتراما طوعيا لمترتبات العفو. و ها نحن اليوم نتابع فصول التحولات السحرية في خطاب هؤلاء و مواقفهم السياسية المعلنة دون أن نعدم القدرة على تفسير ذلك و إدراك خلفياته و سياقه.

الخلفيات ذاتها و السياق ذاته هو الذي حدا بالسلطة القائمة لتحرك ,هذه الأيام, آلة العفو في حق اسمين بارزين من أقصى يمين السلفية المغربية ( خطاب و سوماحي) في وقت يعرف فيه الشارع نشاطا احتجاجيا لا يهدأ منه جانب حتى يشتعل منه آخر. بل و يشتد حتى يصير مزاجا شعبيا عاما منذرا بالتوسع على نحو غير مسبوق ,و المملكة على أبواب موعد انتخابي حاسم تتربص به رياح المقاطعة وأنباء سيئة عن تسربات يشهدها رصيد الثقة العام في جدوى الاستحقاق القريب و ذمة أبطاله. و عليه فان الاسمين المشمولين بعفو -أبطل ثلاثين عاما من السجن النافذ- سينخرطان وجوبا في مسعى تحريضي أو تعبوي تم الاتفاق حوله سلفا. فيما يتم التفكير الآن في أسماء أخرى تستفيد من جميل العفو أو رفع التحفظ في أفق إسنادها لكتيبة المشمولين بالعطف .

عموما , فقد رسخ في المزاج السياسي العام أن (العفو) أو (رفع التحفظ) في ظل نظام شمولي إنما هو صورة احتيالية للرشوة السياسية في حق عموم الشعب .أما في حق التعبيرات المعارضة فهي شكل من أشكال استبدال العقوبة الحبسية بولاء دائم على قدر الجميل الذي سبق. بذلك يصير منشور العفو منطويا في ثنايا سطوره على ظلال لبنود “صك السخرة” يستحيل بفعلها المشمولون بالعفو قوات احتياط أو كتائب إسناد سرعان ما تكتمل إزاءهم أركان الإدانة الشعبية; إذ العفو في حقهم إدانة.