إن الناس لا تقرأ التاريخ ولهذا فذاكرتها قصيرة، وأخطاؤها عظيمة. 

لنبدأ قصتنا مع “ملك بلا أرض” أو “جون بلا أرض” (John Lackland) الذي كان جشعه المنقطع النظير سببا في ولادة أول برلمان في العالم. إن هذا الملك الانجليزي الذي تولى الحكم عام 1199 خرج عن عدد كبير من الأعراف التي كانت سائدة في زمنه، ومنها زواجه من فرنسية كانت قد خطبت قبل ذلك لأحد النبلاء الفرنسيين، مما جر عليه غضب ملك فرنسا وغضب شعبه معا،وغضب بابا الكنيسة أيضا فيما بعد لما رفض تعيين أسقف على كنيسة كانتربري.

خاض هذا الملك عددا كبيرا من الصراعات، وحصد هزائم قصمت ظهره. وكان مكروها من شعبه لأن سلطاته المطلقة لم تردع طغيانه. ولما ألب عليه أعداء الخارج وبابا الكنيسة والارستقراطية الانجليزية وشعب انجلترا، أرسل بعثة إلى الملك الموحدي محمد الناصر يطلب دعمه، بل يطلب أن يسلم نفسه وممكلته إلى السلطان الموحدي وأن يتخلى عن الدين المسيحي ويتبع دين النبي محمد. استقبلت البعثة في مراكش عام 1213 وردها محمد الناصر بعد رفض طلب الملك الانجليزي. وبقي “جون بلا أرض” ضعيفا أمام التحديات الداخلية التي كان يواجهها. مما فرض عليه الامتثال والتوقيع على “الماغنا كارتا” عام 1215، التي تعد أول نص ينظم سلطات ملك ويحد منها، إنها بلغتنا اليوم أول وثيقة ليبرالية ساهمت في ميلاد النظام البرلماني الحديث.

لم يكن التوقيع على “الماكنا كارتا” إلا الخطوة الأولى في مسار طويل وشاق، مسار مملوء بالثورات والحروب الأهلية والصراعات الطائفية والدينية والحروب بين الدول والصراع على السيادة في القارة الأوربية. وكثيرون هم الملوك الذين جاؤوا بعد “جون بلا أرض” وحاولوا الالتفاف على ذلك العهد، بل هو نفسه حاول الاخلال بالتزامه بضعة أسابيع فقط بعد توقيعه. لكن يبدو أن “الماغنا كارتا” كانت تعبيرا عن تغير عميق أكثر مما كانت حدثا سياسيا عابرا.

في هذا السياق، ظهر مصطلح “البرلمان” خلال أربعينيات القرن الثالث عشر، وفي عام 1265 انتخب أول برلمان في ويستمنستر، بعد ثورة البارونات التي امتدت من عام 1258 إلى عام 1265 لما حاول هنري الثالث الالتفاف على “الماغنا كارتا” وإرجاع السلطات المطلقة لنفسه. 

لم تكن البرلمانات الأولى ديمقراطية، ولم يكن ممثلو الشعب من عامته، ولم يكن حق الانتخاب متاحا للجميع، لكن هذه المؤسسة الفريدة أخرجت النقاشات السياسية من دهاليز السلطة إلى العموم لتناقش في “مجلس العموم”. وانتقل الاقتتال من ساحات الحروب إلى ساحة البرلمان، واضطلعت هذه المؤسسة بمناقشة الميزانيات وفرض الضرائب والتشريعات وإعلان الحرب وكل القرارات الكبرى في تاريخ الأمم.

لا يعرف من يطالب بإلغاء مؤسسة البرلمان، مثلما يحصل من خلال بعض المناقشات الشعبوية المنتشرة هذه الأيام في بلادنا، أنه إنما يسعى إلى تحطيم أحد أهم أحزمة الأمان الاجتماعية

بإمكاننا أن نقول باختصار شديد أن المجتمعات الإنسانية عاشت ما قبل ميلاد مؤسسة البرلمان وما بعدها.

ولنأخذ مثلا الثورات الديمقراطية التي ما تزال مستمرة في العالم العربي، لقد رأينا كيف انحدرت الدول التي لا تتوفر على برلمانات إلى مستوى الثورات المسلحة والحروب الطائفية والأهلية، بينما اختلف الوضع وإن في الدرجة فقط في البلدان التي كانت لديها تجارب برلمانية وإن محتشمة. ففي ليبيا التي لم تعرف في تاريخها ميلاد هذه المؤسسة دخلت الثورة في عمل مسلح بسبب غياب أي تقاليد للمعارضة السياسية التي لا تكلفها إلا المؤسسة البرلمانية، وبعد التخلص من نظام حكم الفرد أصبح لهذا البلد برلمانان اثنان وليس واحد، وكأنه انتقام من الماضي الذي لم يعرف وجود هذه المؤسسة قط.

ويكاد يكون الوضع مشابها في كل الدول التي انزلقت للعنف والفوضى، ففي بعضها لا يوجد أثر لهذه المؤسسة وفي بعضها توجد برلمانات لكنها غير منتخبة ولا توفر بالتالي أي تمثيلية شعبية وإن عند حدودها الأدنى. أما في بعض البلدان التي كانت قد رسخت في الماضي بعض التقاليد البرلمانية، ووجدت فيها معارضة مؤسساتية يحتضنها البرلمان فقد نجحت في فتح مجال واسع للحوار في زمن الثورات السياسية وقامت بإصلاحات جنبتها ويلات الحروب والعنف، إن هذا لوحده انجاز اجتماعي لا يقدر بثمن.

ربما لا يعرف من يطالب بإلغاء مؤسسة البرلمان، مثلما يحصل من خلال بعض المناقشات الشعبوية المنتشرة هذه الأيام في بلادنا، أنه إنما يسعى إلى تحطيم أحد أهم أحزمة الأمان الاجتماعية. قد يكون أولئك قلة، لكن الشعب في حد ذاته لا يعرف أن المعارك الكلامية التي تقع في البرلمان إنما تعوض المعارك الحربية التي يمكن أن تقع على الجبهات، وأن غياب هذه المؤسسة لا يعني شيئا آخر في الواقع غير فتح الباب أم حل الخلافات بالعنف والسلاح.

بإمكان أي إنسان بسيط يتقن فن الحساب أن يقوم بتحديد الأكلاف السنوية لوجود برلمان وتنظيم انتخابات، لكن من الذي يستطيع من الاقتصاديين النبغاء أن يقوم بحساب عوائد هذه المؤسسة، عوائدها المادية وغير المادية؛ من سلم أهلي واستقرار سياسي وفتح فضاء للنقاش بين مختلف الأطراف، هذا دعك عما يوفره ذلك من ظروف اقتصادية لخلق الثروة ودعم النمو وسير الأسواق.

يهتم الاقتصاد المؤسساتي منذ سبعينيات القرن الماضي بتحديد العوائد الاقتصادية والاجتماعية للمؤسسات السياسية، وهناك من الاقتصاديين من يقرأ تاريخ الحضارة كله كتاريخ مبني على تطور المؤسسات، فالأمم التي تفلح في وضع مؤسسات وقواعد اجتماعية حرة ومتينة ويمتثل لها الجميع تحصد مقابلها رخاء اقتصاديا وازدهارا اجتماعيا وتقدما.قد يكون دوغلاس نورث عالم الاقتصاد وحامل جائزة نوبل (عام 1993) الذي رحل عن عالمنايوم 23 نونبر الماضي أكثرهم شهرةّ، بل هو المؤسس الفعلي لهذا الاتجاه داخل حقل الاقتصاد السياسي.

إن النقاش حول كلفة المؤسسات السياسية، ومنها مؤسسة البرلمان، يجب أن يخوض فيه الأكاديميون وعلماء السياسة والاقتصاديون قبل غيرهم. وإن كنت لا أعارض من حيث المبدأ النقاشات الجماهيرية للمواضيع السياسية والاقتصادية، إلا أنها في رأيي ستبقى ضحية الآراء الشعبوية والمزايدات السياسية ما لم يرجع المتخصصون التوازن للنقاش الدائر هذه الأيام حول هذه المسائل، والتي يستسهل البعض الخوض فيها من دون أية معرفة تذكر للأسف الشديد.