كتب اغوستو مونتيروسو في واحدة من أشهر قصصه القصيرة “في قديم الزمان، كانت ببلاد بعيدة نعجة سوداء اعدموها رميا بالرصاص. بعد قرن، وضع لها القطيع النادم تمثالا فروسيا جميلا في الحديقة. هكذا و فيما بعد، كلما كانت تظهر نعاج سوداء، كانت تعدم بسرعة رميا بالرصاص، حتى تتمكن النعاج العادية المألوفة في الأجيال المقبلة من التمرن على فن النحث”. لم اجد أقوى من كلمات الكاتب الغواتيمالي ال 50 لاصف أسابيعا من الاحتجاج في تونس والمغرب. أستعير إيجازه الدقيق وسرده السنتمتري علّني أتمكن من الكتابة، وانا بعيدة جدا عن ساحات باب الأحد والقسرين، من الكتابة عن تكالب متوحش واهمال متوحش يقتل شبابا هناك لتعلم “فن النحث”.

لم يمر قرن كما في قصة مونتيروسو، خمس سنوات فقط على حراك 20 فبراير خرج الآلاف من المغاربة منادين بالحرية و الكرامة. كانت مسيرة شعبية بكل المقاييس و هذا يستوجب وقفة تامل

ماذا لو

لم يمر قرن كما في قصة مونتيروسو، خمس سنوات فقط. و كما في انتفاضة 2011 تشعل وفاة شاب، احتجاجا على وضع اجتماعي لا يُطاق، تشعل لهيب سخط شعبي بتونس. احترق رضى اليحياوي بنيران العمود الكهربائي و احرقت نيران الغاضبين قفصة و قابس و صفاقس و القيروان و زغوان و سوسة…مناطق بلغ فيها معدل الفقر مستويات قياسية و وصلت فيها نسبة البطالة ال 50%. بعيدا عن جدل المندسين و المستغلين لموجة الغضب من سياسيين و جهاديين، و ان كان في الحديث هذا شيء من الصواب، عنف الصور الواردة يترجم عنف التهميش. و تلك الحقيقة الاولى. لم تفلح حكومة الحبيب الصيد كما الحكومات التي سبقتها في معالجة ملفات التنمية كالشغل و الصحة و التعليم. تأخرت في اعمال وعودها و انشغلت بصراعات طبقة سياسية لا تنتهي، حتى نفذ صبر المنسيين ممن رميوا يوما بالرصاص. اجل عجز التنفيذي مرده تسويات سياسية مكلفة و ليس فقط أزمة اقتصادية خانقة. عجز لا يمكن مواجهته بحظر تجول يحصر القضية في بعد أمني صرف. ليس غضبا عابرا. تلك حقيقة اخرى. فالثورة لا تنتهي ما لم تتحقق مطالب العدالة و الكرامة من دون التباسات و لا حسابات سياسية. هل كان يجب ان يموت رضى اليحياوي حتى نتذكر كل هذا؟ ماذا لو اعمل الدستور؟ و لو كان السياسي توافقيا اكثر؟ ماذا لو لم يسحب المستثمر التونسي استثماراته؟ “لو” لا تكتب التاريخ. يموت المتظاهر الحالم لنتعلم النحث…هذا كل ما في الامر. لكن موته لا يعيد عقارب الساعة الى الوراء بل يسقط القناع

لم يفت الاوان 

لم يمر قرن كما في قصة مونتيروسو، خمس سنوات فقط على حراك 20 فبراير خرج الآلاف من المغاربة منادين بالحرية و الكرامة. كانت مسيرة شعبية بكل المقاييس و هذا يستوجب وقفة تامل. لم يسقط القناع لان رئيس حكومة منتخب منع مسيرة تضامنية مع الأساتذة المتدربين او لانه تنازل عن صلاحياته لوزارة “سيادة”. فقد تعلمنا ان لا ننتظر الكثير ممن هم مسلوبو الإرادة و المسؤولية بطيبة خاطر او بالاكراه. لم يسقط لان السلطات منعت مواطنيين من صعود الحافلات و القطارات و انزلت البعض منهم و عنفت البعض منهم لمنعهم من المشاركة في المسيرة. ذلك ان احدا لن يستقيل او يقال. سقط لان الشارع لم يسكت. تضامن كهذا يبدو اليوم شرطا أوليا لأي بداية حراك. بعد 5 سنوات من ضرب متواصل، منهجي احيانا و عشوائي احيانا اخرى، لكرامة و حرية المغاربة لم يعد يعادل التوق الى التغيير غير الياس من رؤيته يتحقق. لنتذكر ان الظروف السيئة فرص للنهوض و ان التغيير يبدأ عندما نجرؤ على الجهر به. الرهان واضح : بعد اكثر من نصف قرن من الاستقلال آن الاوان لنسلم باللارادة الشعبية. سيقول قائل ان مثل هذا غير وارد في المغرب. لا بأس، القطيع النادم لا يدرك بعد ما تعنيه النهاية.