يشكل إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي التفاتة من المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي إلى خطورة الممارسات العنيفة في حق الأقليات الدينية غير المسلمة في العالم الإسلامي، وضرورة مواجهة اجتهادات وأساليب الحركات المتشددة و”الجهادية” المـُمَارسة باسم الإسلام، وإسقاط أي تبرير لها من منطلق أصول الإسلام ومصادره.

     الإعلان الذي زكاه أزيد من 300 شخصية من علماء المسلمين ومفكريهم الذين يمثلون 120 دولة، وبرعاية المملكة المغربية، يمكن أن يشكل خطوة تأسيسية هامة لترسيخ مفهوم المواطنة الحديث في البيئة الإسلامية من منظور أصولي فقهي، بما يعزز حقوق وكرامة المواطنين في البلدان الإسلامية على اختلاف معتقداتهم الدينية والملّية وأصولهم العرقية والإثنية.

    والملاحظ أن لغة الإعلان وبنيته الاستدلالية، مرافعة أصولية وفقهية، مناقضة لاجتهادات وتصورات الحركات “الجهادية” المتشددة والعنيفة، التي تستند إلى نفس النصوص لكن وفق فهم جامد وعقيم لها يلغي السياق والواقع وفقه المآلات، ويؤسس للإقصاء والإلغاء في التعامل مع الآخر المخالف عقديا.

   يضعنا الإعلان أمام إشكالية تأويل النصوص الدينية التي تستغله الحركات المتشددة دخيرة في معاركها الوجودية دون اعتبار للضوابط المنهجية الاستنباطية في استقراء النصوص وبناء الأحكام، وهو ما ينتج التباسات وتشوهات تلغي كليات الدين الأساسية في الرحمة والعدل والحرية والكرامة الانسانية. مقابل إعلاء تصورات انعزالية وتطهّرية إقصائية تلغي الآخر المخالف عقيدة ومذهبا بل وتستبيح حقه في الحياة، باسم الجهاد والانتصار للإسلام.

   الإعلان احتفى بـ”صحيفة المدينة” وارتقى بها إلى مستوى الدساتير الوطنية، واعتبرها إطارا مرجعيا يمكن “اعتماده في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، بل وينسجم معها ميثاق الأمم المتحدة ولواحقه كإعلان حقوق الإنسان”، مع تحفظ “احترام النظام العام”. وهي محاولة جريئة لقراءة الإرث الفقهي والتراث الإسلامي قراءة جديدة تستلزم اجتهادا لعلماء ومفكري المسلمين والمؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية للقيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي كما جاء في الإعلان “لأَخلال الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وتمزق وحدة المجتمعات”.

    اجتهد الإعلان في البحث عن المشترك الجمعي وعن ما يحمي النسيج الاجتماعي للدول الإسلامية، ويبدو أنه وجده في “صحيفة المدينة” ويكفي استعادتها وإيجاد توافق ما، بينها وبين مفاهيم حديثة من قبيل الدستور كتعاقد قانوني يضمن الحريات والحقوق، والمواطنة كمبدأ لا يميز بين المواطنين على أساس الدين أو العرق أو الطائفة.

    وهذا السعي إلى التوفيق بين مفاهيم الخبرة التاريخية الإسلامية والمفاهيم الحديثة يقتضي انجاز تسويات تاريخية بين الدولة والمجتمع، تسوية يساهم فيها الجميع لتحقيق الكرامة الإنسانية بالتعاون على  “كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام، بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون في كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل؛ بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء”.

    وتأتي هذه الخطوة في ظروف وتحديات صعبة تعيشها المنطقة العربية عموما، والأقليات الدينية بها على الخصوص، فديناميات المنطقة المتسمة بحالة من عدم الاستقرار وهشاشة السلطة المركزية للدولة وانفراطها في بعضها، كلها عوامل تشكل تهديدا حقيقيا للنسيج الاجتماعي والديني والعرقي في المنطقة، ففي غمرة الصراعات الطائفية والمصلحية والإستراتجية لقوى متعددة برهانات مختلفة ومتناقضة، تشكل الأقليات وقودا لهذا الصراع وذخيرة له، وهو ما يهدد أحقيتها في الوجود والاختيار والاستمرار، ويجعلها تدفع ثمن مواقفها وتموقعها جغرافيا وسياسيا.

   إن إعلان مراكش يضعنا أمام مفارقة لدى جل الدول والنظم السلطوية والحكومات التي تكيل بمكيالين في مجال إقرار الحريات والحقوق، وتوظف ورقة الأقليات وتجند الاستقطابات الطائفية والمذهبية والإثنية، كما توظف العنف والقوة  لضمان استقرارها الهش. ففي ظل انتهاك حقوق الأغلبية في العدالة الاجتماعية والكرامة والحريات، لا يمكن الحديث عن حقوق للأقليات إلا كترف أو مزايدة لا تخلوا من توظيفات سياسية لتجميل واجهة السلطوية أو لخلق تناقضات ثانوية تخفي واقع الاستبداد.

    فقد بينت التجارب أن العديد من الحركات الإسلامية الراديكالية والعنيفة وتنظيمات الإسلام السياسي  التي تفسر الإسلام تفسيرا أرثودوكسيا مغلقا يحتكر الحقيقة، نمت ونشأت في أحضان الدول والنظم السلطوية وبدعم منها،  وتنشط في  ظل تراجع الحريات وغياب العدالة الاجتماعية، وتعزف وتر المظلومية للاتباع أحيانا، وتحمل لواء الجهاد المقدس أحايين أخرى، كله في ارتباطات ووشائج لا تخفى من النظم الشمولية والتسلطية، التي تبرر دائما تأجيل مطلب الديمقراطية، التي من شأنها دمقرطة الفهم الديني نفسه وتجاوز احتكار الحقيقة المطلقة الى تعددية الفهوم بمنطق الاختلاف.

    فتحول السلفية في المذهب السني لسلفية عنيفة كما داعش مثلا في سوريا والعراق وأماكن أخرى، لا يعكس فقط سوء تأويل للنصوص والإرث الفقهي بل هو أيضا دليل على عمق المأزق العربي وغياب البدائل الفكرية والإنسانية والسياسية العادلة وعجزا هيكليا في وظائف الدولة القطرية الوطنية بعد الاستقلال.

     فالسنة يعيشون حالة اشتباك، ويشعرون، كما يشعر الشيعة، بأن هويتهم ومكانتهم وطائفتهم على المحك، فهم خاسرون في العراق وفي سوريا، والشيعة في البحرين لهم نفس الشعور. والأمر نفسه بالنسبة للمسيحيين والعلويين والأكراد. من هنا تزداد الهويات سواء السنية او الشيعية أو غيرها توترا تجاه الآخر. والوضع العربي كله متردي وهو ما يعزز خوف الأقليات والهويات وانغلاقها وتحولها إلى هويات قاتلة كما وسمها أمين معلوف.

 فالسنة يعيشون حالة اشتباك، ويشعرون، كما يشعر الشيعة، بأن هويتهم ومكانتهم وطائفتهم على المحك، فهم خاسرون في العراق وفي سوريا

وفي الجوهر يتصارع شيعة فاقدين للحقوق والتمثيل مع سنة هم أيضا فاقدين للحقوق والتمثيل والمواطنة، يتصارع فقراء الشيعة وضحايا الفساد والظلم مع فقراء السنة من ضحايا الفساد والظلم، وهذه  الأوضاع تنطبق على جميع الأقليات، ففي ظل دول هشة تعتمد على العصبيات والرأي الواحد يضعف الشعور بالانتماء والمواطنة،  وترتفع أرصدة أقلية على حساب أخرى لدى السلطة الحاكمة حسب درجة الولاء وليس على معيار المواطنة.

    إن رعاية مؤتمرات علمية تجتهد في اجتراح فهم مستنير للدين، ومحاصرة الفكر المتشدد والحركات الجهادية الذي يبدو أنها تلقى تجاوبا لدى فئات واسعة في البلدان الإسلامية، وتهدد ليس فقط الأقليات الدينية بل لحمة النسيج المجتمعي ككل أمر محمود وخطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها تظل محدودة ما لم ترافق بإصلاحات عميقة تنهي احتكار السلطة والمال، وتنهض على الديمقراطية والحرية والمواطنة المؤسسة على تعاقد اجتماعي واضح، يضمن كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو طائفته.