منذ تم الإعلان الرسمي عن مراجعة برامج ومناهج التربية الدينية في المدرسة المغربية، توالت ردود الأفعال التي عبرت عنها مجموعة من الفعاليات المجتمعية التي قاربت الموضوع من زوايا مختلفة يتداخل فيها الحقوقي والديني والهوياتي والسياسي أيضا. وكان طبيعيا جدا أن تختلف وجهات النظر وتتعارض الآراء تبعا للمرجعية المؤسسة لهذا الموقف أو ذاك. 

في هذا السياق تأتي الخرجة الإعلامية الأخيرة للشيخ أحمد الريسوني مؤسس حركة ” التوحيد والإصلاح”، الجناح الدعوي والإيديولوجي لحزب العدالة والتنمية في حواره مع موقع إلكتروني يحسب على التيار السلفي. في هذا الحوار تحدث الريسوني عن عدد من القضايا. ولأنه قامة فقهية معتبرة ومشهود لها، فإن حديثه يستحق التأمل والقراءة والتحليل . لكن ما يهمنا في هذا المقام تحديدا هو ما يرتبط بموضوع مراجعة مناهج التربية الدينية. حيث كرر الشيخ نفس الكلام الذي يردده ” الإسلاميون” عادة، وذلك عندما رفض الربط بين تدريس مادة التربية الإسلامية وتنامي السلوك الإرهابي في بلادنا… الشيخ لم يراع في رده هذا قانون النسبية، ولم يقل مثلا بأن دور المدرسة غير مؤثر كثيرا أو أن نسبة تأثيره في السلوك الإرهابي قليلة، بل تحدث بإطلاقية شديدة في إبعاد الشبهة عن ” التربية الإسلامية” بمعناها وحضورها المدرسيين. ولكنه نسي أو تناسى  في خضم اندفاعه العاطفي أن قرار المراجعة هو في حد ذاته إعتراف من الدولة بوجود خلل ما ينبغي تداركه، وإلا فما الداعي أصلا إلى هذا الإصلاح؟.

بما أن القرار صدر عن أعلى سلطة في البلاد، فإن الشيخ الريسوني لا يستطيع أن يحول دفاعه عن “التربية الإسلامية” كمادة مدرسية إلى موقف واضح يرفض قرار المراجعة برمته، لذلك تحدث عن “أهل الإختصاص” الذين يحق لهم وحدهم البث في هذا الموضوع. ورقة الفيتو هذه التي يرفعها مؤسس التوحيد والإصلاح لها ما يبررها استنادا إلى المبادى المؤسسة للخطاب الديني، فهو بحديثه عن “ذوي الإختصاص” إستخدم حقا يراد به باطل، لأنه يسعى إلى إبعاد الموضوع من دائرة النقاش المجتمعي حتى يستفرد به الفقهاء دون غيرهم. وهو ما ينم عن موقف “إستعلائي” يحتكر سلطة امتلاك الحقيقة، والحال أن الدين هو مجال عمومي لا أحد يملك حق مصادرته أو امتلاكه أو فرض تأويله الخاص على الآخرين. ومن حق كل الفاعلين الإجتماعيين أن يدلوا بآرائهم في موضوع مراجعة مناهج التربية الدينية، لأن المقام لا يتعلق باجتهاد فقهي خالص له أدواته ومناهجه وقواعده التي لا يمكن أن تكون في متناول الجميع، بل يرتبط بمطلب تربوي يهم المغاربة كلهم.

تحليل الشيخ الريسوني كان وفيا لخطاب المظلومية والنزعة الإتهامية، حيث وجه سهام التخوين للفلسفة في سياق السعي إلى إبعاد النقاش عن مساره الصحيح

 تحليل الشيخ الريسوني كان وفيا لخطاب المظلومية والنزعة الإتهامية، حيث وجه سهام التخوين للفلسفة في سياق السعي إلى إبعاد النقاش عن مساره الصحيح، فقد صرح الشيخ بأن ” شعبة الفلسفة استغلت، ومادة الفلسفة استغلت لنشر الإلحاد واللادينية كثيرا”.  فماذا يعني هذا الكلام؟. ألا يمنح هذا الموقف شرعية فقهية للقرار الذي أصدرته دولة الخلافة  في سوريا والعراق بمنع تدريس الفلسفة في المناطق الخاضعة لنفوذ الرايات السوداء؟. طبعا لا نقرأ في موقف الشيخ ما يدعو إلى منع المادة في المغرب على الأقل، لكن هذا الخطاب هو نفسه الذي يسوغ السلوك الإرهابي، ويبقى الإختلاف في الدرجة فقط. لذلك فإن هذا التصريح  يحمل دلالة خطيرة. واستعمال صيغة المجهول في فعل ” استغلت” لا يمنعنا من فهم أحد أمرين: إما أنه يتهم الدولة بنشر الإلحاد عن طريق الفلسفة، أو أنه يتهم مدرسي المادة بنشر أفكار إلحادية بين التلاميذ والطلبة. وفي الحالتين معا يبدو كلامه بعيدا عن الواقعية ومفتقدا للمصداقية. إذ لا وجود في المغرب لما من شأنه أن يعتبر تناميا للإلحاد أو اللادينية بالشكل الذي يحاول هذا التصريح أن يعبر عنه. بينما بالمقابل نشهد بوضوح تناميا خطيرا لثقافة وسلوك الإرهاب والتكفير. ومن تم فالتهجم على الفلسفة ومدرسيها ( وهذا هو الفهم المرجح من صيغة المبني للمجهول) ليس له ما يبرره واقعيا. لكن موقف الريسوني- وإن جاء في سياق انفعالي- ليس مفاجئا أبدا، لأنه لا ينفصل عن أدبيات الخطاب الديني القروسطوي الذي اختار أن يصنف الفلسفة كمرادف للكفر والمروق والإلحاد( من تفلسف تزندق). وواضح أن المقصود بكلمة ” اللادينية” التي استعملها الشيخ في معرض حديثه هو العلمانية أو المدنية  “الكافرة” في عرف الخطاب الذي يستند إليه “الإسلاميون”.

الهجوم على تدريس الفلسفة إذن هو رد فعل دفاعي يوهم المغاربة بأنهم مستهدفون في عقيدتهم ودينهم. إنه هجوم على العقلنة والمنطق والإختلاف والتعددية والحوار والتسامح … لذلك فهو موقف تحريضي ( وإن بدا مجرد رأي مستقل) يؤكد مرة أخرى أن القضاء على الإرهاب يقتضي أولا تجفيف منابعه. فالتربة الحاضنة للإرهاب – باعتباره سلوكا عنيفا وقاتلا ولا إنسانيا- هي التي ينبغي أن تستهدفها المعالجة اللازمة من خلال محاربة الإنغلاق والـتأسيس لثقافة الإختلاف والتسامح والإنفتاح على الآخر… وهي مستلزمات قيمية لابد من بنائها حتى يتم الوصول إلى مجتمع محصن ومنيع ضد آفة الإرهاب.