شهدت إسبانيا، في العشرين من شهر 20 دجنبر الماضي، تنظيم انتخابات عامة، هي الأولى من نوعها في عهد الملك فيلبي السادس، وذلك من أجل تشكيل الكورطيس (البرلمان الإسباني)، والذي يكون مخولا له انتخاب رئيس الحكومة الجديد للولاية المقبلة (2015-2019). إلا أن هذا السيناريو الروتيني بدا، بعد إعلان النتائج النهائية لهذه الاستحقاقات التشريعية، أمرا صعب التحقق أو مستحيلا حتى. وكانت هذه النتائج قد وضعتنا أمام مشهد جديد وشديد التعقيد، أشبه ما يكون بالمتاهة، ينذر بوضع سياسي صعب خلال القادم من الأسابيع؛ نظرا، من جهة، لفشل الحزبين التقليديين (الحزب الاشتراكي PSOE والحزب الشعبي PP) في بلوغ الأغلبية المطلقة، واستحالة تحقيق ذلك، من جهة أخرى، حتى في حالة حصول تحالفات بين مختلف التكتلات السياسية المتقاربة إيديولوجيا (الحزب الشعبي – سيودادانوس / الحزب الاشتراكي – بوديموس). أمام هذا المأزق، صار لزاما  تشكيل ائتلاف حكومي موسع يجمع قوى سياسية مختلفة، من اليسار واليمين والوسط، أو الذهاب إلى انتخابات جديدة في شهر يونيو القادم، لتفادي الدخول في أزمة سياسية يصعب التكهن بتبعاتها. ففي جميع الحالات تبدو الأحزاب السياسية الإسبانية أمام مخرجين أحلاهما مر. هنا بدأ يطرح تساؤل حول من يمكنه أن يلعب دور الرابط والوسيط بين كل هذه القوى السياسية المتباعدة إيديولوجيا وعمليا من أجل الوصول إلى حل توافقي يسمح بتشكيل ائتلاف حكومي يجمعها رغم تنافر توجهاتها السياسية وبرامجها الانتخابية؟ إن مثل هذه الأدوار، داخل نظام سياسي ملكي، لا يمكن أن يقوم بها إلا عاهل البلاد. فما هي يا ترى الأدوار التي يمكن أن يقوم بها فيلبي السادس (48 سنة) من أجل تحقيق تعايش ديمقراطي بين مختلف الأحزاب السياسية الإسبانية الكبرى، وبالتالي، إنقاذ البلاد من أزمة سياسية غير مسبوقة؟ وهل يمتلك هذا الملك، الذي مضى على اعتلائه عرش المملكة الإسبانية أقل من سنتين، الكاريزما والحظوة الكافيتين للقيام بأدوار الوساطة والتحكيم بين مختلف الأطياف السياسية الإسبانية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه في مقالنا.

من المعلوم أن إسبانيا تعتمد منذ سنة 1978 نظام الملكية البرلمانية في الحكم. وهذا نظام – حتى وإن كان يقوم في جوهره على مبدأ أن السيادة الوطنية تكمن في الشعب الإسباني، ومنه تستمد الدولة سلطها – فهو يحفظ بعض الصلاحيات لعاهل البلاد. فقد عرفت مرحلة صياغة الدستور الإسباني سجالا كبيرا بين الملكيين، الذين كانوا يدافعون عن نظام ملكي شبيه بالنظام البلجيكي، الذي يخول للملك صلاحيات واسعة، وباقي القوى اليسارية والتقدمية، التي كانت ترى أن النموذج السويدي هو الأمثل من أجل بناء عهد ديمقراطي حقيقي بإسبانيا والخروج من نظام ديكتاتوري كلف البلاد غاليا، ما بين 1939 و1975. لقد كانت المسودة الأولى من الدستور تحد بشكل كبير من سلط واختصاصات الملك، وتجعل منه مجرد منصب سياسي صوري وزخرفي، قبل أن تأتي النسخة النهائية ببعض التعديلات تضمن له أدوار التحكيم والوساطة من أجل ضمان الاشتغال الطبيعي لمؤسسات الدولة وتفادي شللها (الفصل 56).  

من بين أهم الأدوار التحكيمية التي يخولها الدستور الإسباني لعاهل البلاد نجد تلك المنصوص عليها أساسا في الفصلين 62 و99 لكنها تبقى، في جميع الأحوال، صلاحيات خاضعة لرقابة رئيس الحكومة والبرلمان (الفصلين 63 و64).

ومن بين أهم الأدوار التحكيمية التي يخولها الدستور الإسباني لعاهل البلاد نجد تلك المنصوص عليها أساسا في الفصلين 62 و99 لكنها تبقى، في جميع الأحوال، صلاحيات خاضعة لرقابة رئيس الحكومة والبرلمان (الفصلين 63 و64). ما يهم بالنسبة لموضوع هذا المقال، بالدرجة الأولى، هو الفصل 99، والذي يتيح للملك الإسباني إمكانيات المساهمة في عملية تنصيب رئيس الحكومة. ولقد كان هذا الفصل موضوع عدة تعديلات خلال المرحلة التأسيسية. فالفصل 85 من أول مشروع للدستور لم يكن يمنح أي صلاحيات للملك الإسباني بهذا الخصوص. لكن، وبمقتضى الفصل 99 من الدستور الحالي، المكون من خمسة بنود، صار مخولا للملك الإسباني اقتراح المرشح لتقلد منصب رئاسة الحكومة، بعد استشارة رئيس مجلس النواب ومختلف الفرق السياسية البرلمانية (البند الأول)؛ إلا أن تسمية رئيس الحكومة الجديد من طرف الملك لا يمكن أن تحدث إلا بعد أن يكون قد حضي المرشح المقترح بثقة مجلس النواب سواء بالأغلبية المطلقة أو النسبية، من خلال عمليتي تصويت (البندين الثاني والثالث).  وينص البند الرابع على أنه في حالة تعذر حصول المرشح المقترح من طرف الملك على ثقة مجلس النواب، يتم تفعيل مقترحات جديدة لتشكيل الحكومة الإسبانية وفق نفس مقتضيات المادتين الأولى والثانية المشار إليهما أعلاه. أما في حالة تعذر حصول أي مرشح على ثقة مجلس النواب في حدود شهرين بعد تاريخ اول جلسة لتنصيب رئيس الحكومة، يقوم الملك بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، بموافقة من رئيس المجلس (البند الخامس). وفي حالة حصول أحد المرشحين على أصوات أغلبية أعضاء المجلس فيقوم بتشكيل الحكومة، والتي يتم تسمية أعضائها، كلا على حدة، من قبل الملك وباقتراح من طرف رئيسها (الفصل 100).  والحال أن إسبانيا الآن أقرب ما يكون إلى تفعيل مقتضيات البند الخامس من الفصل 99 للدستور الإسباني منه إلى أي حل آخر، وهذا ما كنا قد تنبأنا به في مقال سابق نشرناه بعيد ظهور النتائج النهائية لانتخابات العشرين من دجنبر الماضي. (أنظر “نهاية عهد الثنائية الحزبية في إسبانيا” المنشور بموقع “لكم2” بتاريخ 23/12/2015)

ومن خلال كل ما ذكرناه، يبدو أن الملك الإسباني فيلبي السادس يوجد مقيد اليدين أمام المأزق السياسي الإسباني الحالي. فمحدودية السلط المخولة له لا تمنحه هامشا واسعا للتحرك، بحيث تظل اختصاصاته رمزية وإجرائية محضة، ولا يمكنه بأي حال من الأحوال التحرك بعيدا عن إرادة الشعب التي تبقى هي الأساس الذي تنبني عليه كل سلط الدولة. كما أن تصريحات زعماء مختلف الأحزاب السياسية الإسبانية المعنية بهذا الأمر تتجه كلها نحو إبقاء الملك فيلبي السادس داخل الإطار الذي يضعه فيه الدستور الإسباني؛ وبالتالي، لا يمكن التعويل على الملك للمساهمة في إخراج إسبانيا من المتاهة السياسية التي توجد فيها الآن إلا في حدود تفعيل الإجراءات المنصوص عليها في الفصل 99 من الدستور. وبالمقابل بدأت بعض الأصوات تتعالى هنا وهناك متحسرة على محدودية مساهمة عاهل البلاد في الحياة السياسية الإسبانية بحكم مقتضيات دستور 1978، مشيرة في الآن نفسه إلى أن نموذج النظام الملكي البلجيكي أنجع بكثير من النموذج الإسباني لحل مثل هذه الأزمات الطارئة. والحاصل أن دستور 1978 كان له دور مهم في تكريس الثنائية الحزبية بإسبانيا، حيث صار الحكم بها حكرا على حزبين (PSOE / PP)، وبصعود نجم قوتين سياسيتين جديدتين ك”سيودادانوس” و “بوديموس” صارت مسألة مراجعة الدستور الإسباني والقانون الانتخابي 5/1985 أمرا ملحا. كما يجب الإشارة هنا، من جهة أخرى، إلا أن المأزق الحالي الذي يوجد عليه المشهد الحزبي الإسباني جاء كنتيجة لحيوية ودينامية الحياة السياسية بإسبانيا، وهو ما سيدفع بها، لا محالة،  إلى تطوير الذات والتكيف مع المعطيات المستجدة ثم التحول نحو الأفضل.