لا تزال قضية وثائق بنما في بدايتها وما خفي أعظم.  تبقى الأيام  القادمة كفيلة بكشف المزيد عن تورط مسؤولين كبار وشخصيات عامة تنتسب إلى شتى الميادين من مختلف دول العالم في تهريب الأموال بطرق مشبوهة ومعاملات مالية يحيطها الفساد من كل جهة. في جو حرج ومفصلي كهذا في تاريخ الصحافة العالمية نرى كيف أن عددا من وسائل الإعلام الوطنية بمختلف أنواعها قد ابتلعت ألسنتها تباعا فيما يخص القضية، ونرى كيف تباع الضمائر بأبخس الأثمان. 

هذه الصحافة الصفراء التي لا يتجاوز اهتمامها الفضائح الجنسية والاغتصاب وما دار في فلك ذلك تغض الطرف عن أطنان الأموال المهربة إلى الخارج والتي تم جنيها من عرق الكادحين وقوة المواطنين الضعفاء. عدم مبالاة شبه تامة بهذا الملف الحساس الذي، بالخوض فيه وطرحه للنقاش، سيغير من مسار الأمور في هذا البلد ويجيب عن أسئلة كثيرة طالما طرحت وبقيت معلقة دون جواب من مثيل السؤال المشهور: أي الثروة؟ 

في الغرب، حيث تشكل الصحافة سلطة رابعة بامتياز، حُرك الملف بجدية ولا زال، والصحافة الجادة هي التي حركت الشارع وأوصلت الحقيقة الصادمة للجماهير، فكانت المحاسبة والمسألة والاستقالة في جو يحكمه القانون واحترام كلمة الشعب المسانَد بصوت الصحفيين الملتزمين، فالمجد لهذه الصحافة وأمثالها. 

أيها الصحفي! إن الصحافة موقف نقدي ومهنية وأخلاق قبل أن تكون وظيفة لاستجلاب الرزق والشهرة، وهي الركن المتين الذي تستند إليه العملية الديمقراطية. الأمر الذي  يستوجب من كل صحفي أن يكون صحفيا مثقفا يلتزم بمعايير الحقيقة حول معاناة الإنسان والحيف الذي يتعرض له بغض النظر عن الانتماء الحزبي أو الأيديولوجي للمثقف أو خلفيته الوطنية أو ولاءاته الضيقة. والحق أن لا شيء يشوه أداء الصحفي كمثقف أكثر من السكوت الحذر والمداهنة والنفاق.

 إذا كانت وثائق بنما قد أعلنت انتهاء لعبة السر، فقد حان دور الصحافة المغربية لتخرج من لغة الإشارة والتلميح إلى لغة البيان والوضوح. لقد دقت ساعة الحديث المباشر وتسمية الأشياء بمسمياتها. كفانا استرزاقا وبكاء على أعتاب القصور. إن الجميع ينتظر كلمة واضحة في دور الماجيدي، السكرتير الخاص بالملك، وحيثيات ظهوره في أوراق بنما. أٌخرجوا من هذا السكوت المطبق وفندوا أكذوبة أبريل في نسختها المغربية عن الاستثناء والتهرب من مواجه الواقع بدعوى الأمن وبعبع الإرهاب، كفانا بؤسا وتفاهة وبينوا لنا كم من مؤسسة تعليمية يمكننا تشييدها بهذه الأموال المسروقة،كم من معهد للبحث للعلمي يمكن أن ينتج عباقرة لهذا البلد المكلوم، كم من مرافق صحية، كم من معطل سيجد عمله وينعم بالعيش الكريم حتى تتحقق الوطنية بمعنى العدالة في تقسيم الثروة واسترجاع الأموال المخزنة في بنوك الغرب. 

  إن اهتمامكم بسفاسف الأمور والأخبار والزج بقضية بثقل قضية بنما في دهاليز النسيان يعد انقلابا على الأعقاب واندحارا وانتحارا، وان دعائكم بالويل والثبور حين تكون المسألة متعلقة بأحد صغار المسؤولين لا يجدي في شيء لأن الشجاعة في غير محلها ووقتها انتهازية وانتفاشه قط.

 أعلم أن قول الحقيقة ليس بالأمر السهل لكنه لا بديل عنه. وإذا كان قول الحقيقة في زمن الاستبداد والخديعة والتزييف يغدو عملا ثوريا  كما قال جورج أورويل، فإن السكوت وصم الأذان انتحار وجر للمجتمع إلى هاوية الضياع. أذكركم أن الدور الرئيس الذي كان مناطا بالصحافة حين ظهورها كان توعويا تثقيفيا لأفراد المجتمع وليس غسلا للأدمغة وخدمة للسلطان. الصحافة الحق تقف دائما إلى جنب الشعوب والمهضومين، أي تمثل غير الممثل وتقف أبدا في جانبهم. 

لخص المثقف العالمي المحترم إدوارد سعيد دور المثقف في جملة وجيزة فقال هو: “النطق بالحق في وجه السلطة” بكل أنواعها، وغير ذلك هو دجل وتمعيش وارتزاق، دور الصحفي المثقف لا دور لكم غيره ولا دور لكم بدونه إلا دور عملاء السلطان الذي يتهافت عليه الكثيرون. 

إذا أردتم أن تتحلوا بوسام المثقف فعليكم بالتحدث عن ومن الهامش، فان الهامش في كثير من الأحيان يكون هو فضاء القوة والسلطة الفاعلة، وانظروا إلى ورقة الامتحان كيف يصول ويجول فيها الطالب ويملأ مركزها فكرا وخطابا فيأتي أستاذه في هامش ضيق يذكرنا جميعا أنه صاحب السلطة والكلمة الفصل. إذن كونوا أساتذة حكماء، نريد صحفيين يدمدموا على الظلم والفساد ويحرجوا على أهل العلم وكل ذي كلمة مسموعة وصاحب منبر بأن يوضح الحقائق للناس. هذا واجبكم يلزمكم بطبيعة مواقعكم التي إخترتموها بكل حرية وإلا فدعوها لمن هو أحق بها. 

إن مسؤولية الصحفي عظيمة  بقوله الحق في كل القضايا طبق ما تمليه أخلاقيات ومبادئ المهنة الصحفية. إن أي تراجع عن وظيفتكم النقدية في سبيل الزعامة والمال والمصالح الشخصية الضيقة هي خيانة لهذا الشعب. كونوا ملتزمين حتى لا يتسع الخرق على الراتق ولكي يعلم من تشابهت عليهم الأمور الحق من الباطل والظلم من العدل، وحتى لا تدلهم الظلمات ويفقد الناس بسببكم الحاسة النقدية.