المتعارف عليه في ثقافة الاحتجاج تاريخيا أن المجتمع هو الذي يواجه السلطة  وليس العكس، عندما تفقد بوصلة التوازن في تسييرها وتدبيرها للشأن العمومي أو ترفع كفة جهة ظالمة على جهة مظلومة. (وأرشيف المغرب حافل بمجموعة من الحالات الترجيدية والتي لازالت موضوعا للمساءلة والبحث التاريخيين). 

ماالذي يجعل السلطة في حكومة بنكيران أصبحت هي التي تواجه المجتمع بعنف مادي أومعنوي؟ ولماذا هذا الأخير أصبح يقود نفسه بنفسه في هذه المواجهات المفتوحة ؟

يعيش المغرب على غرار الدول المجاورة، العديد من الاحتجاجات وقد تكاد تلمس كل القطاعات بدون استثناء بما فيها القضاء والذي كان إلى عهد قريب من المؤسسات المقدسة ، كالجيش والأمن المحرمون من حق الإضراب  ، لكن ما يميز هذه الاحتجاجات عن باقي الدول العربية أنها تأخذ طابعا سلميا رغم ماتعرفه من قوة في شعاراتها والتي قد تصل إلى المطالبة بإسقاط النظام كما حدث مؤخرا مع شباب حركة عشرين فبراير بالدارالبيضاء عنما تواجه بالعنف المبالغ عليها أو على أطراف أخرى .

ولعل التقرير الأخير للخارجية الأمريكية فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان كان صادما للسلطات المغربة في هذا الملف واعتبرت  تعامل في الاستجابة للمواثيق الدولية مجرد ” حبر على ورق ” على حد تعبير التقرير.

وهذا التوصيف من الخارجية الأمريكية لهذه السنة يترجم أن السلطة بالمغرب تلتزم بكل مايتعلق بحقوق الإنسان نظريا ولكن على مستوى الميدان تظهر مفاجآت غريبة. ماهو سر هذا الإنفصام ؟

من الواضح أن” الدولة العميقة ” بالمغرب ومعها بنكيران رئيس الحكومة الذي ابتلع الطعم بوعي أو غير وعي، أصبحوا يرددون جميعا مقولة ” هبة الدولة ” ويجب حماية الدولة .. وعلى الدولة أن …وغيرها من العبارات الفضفاضة والتي لاتحمل أية معنى حقيقي في علم السياسة. والغرض من هذه المقولات هو ترهيب المجتمع ووقف الاحتجات وعدم توسيع المطالب لدى الفئات الواسعة من الشعب المغربي وتمرير القرارات ألا شعبية حسب تعبير المعارضة.

وهذا ماحاول بنكيران استعماله بذكاء في ملف الأساتذة المتدربين، عندما أخطأت الحكومة متسرعة في إخراج المرسومين دون تقدير للزمن والوضعية التي يعيشها المغرب في هذه الأيام في صراعه مع الجارة الجزائر والأمين العام  بان كيمون ، فقد حاول استغلال مقولة ” هبة الدولة ” لمواجهة الأساتذة المتدربين في ملف فارغ تم فيه إهدار للوقت والطاقة  وكان الأجدر ببنكيران تأخير هذا الملف إلى الحكومة المقبلة والتصدي لملفات أكثر أهمية ولها طابع الأولوية . وفشل هذا  الملف وغيره يظهر بما لايدع مجالا للشك ارتباك الحكومة والضعف في التكوين والتجربة للوزراء وخاصة بنكيران وبالفعل فهو رجل قوي في الاتصال بقفشاته وتلقائيته وسخريته وهجوماته على الأشخاص وكثيرا ماتظهر مواهبه وبلاغته في الإفتاء على حد تعبير الباحث في العلوم السياسية مصطفى السحيمي.  وهنا أسأل رئيس الحكومة : هل توظيف الأساتذة وتخرجهم للقيام بوظيفة تعليم أبناء الشعب المغربي يعتبر مسا بهبة الدولة ؟ أليس هذا التصريح يعطي صورة سلبية عن الدولة أمام أعداءنا بأنها هشة وضعيفة ولقمة جد سائغة ؟ أما الأجدر أن نقول أن هبة الدولة تمس عن اتخاذ القرارات المتسرعة الإنفرادية وغياب التشاور والمرونة وتغليب فكرة دولة الواحد على حساب دولة المجتمع ؟ ولا أعرف كيف نسي السيد بنكيران أحد الأقوال المأثورة للإمام على ابن أبي طالب  للعمل بها عندما قال : ” آلة الرياسة هي المرونة “.

ماالذي يجعل السلطة في حكومة بنكيران أصبحت هي التي تواجه المجتمع بعنف مادي أومعنوي؟ ولماذا هذا الأخير أصبح يقود نفسه بنفسه في هذه المواجهات المفتوحة ؟

حالة أخرى أكثر تراجيدية، في مواجهة السلطة للمجتمع والتي وصلت إلى أدراج القضاء وشغلت الرأي العام بأكمله، وهي تعد فضيحة من الطراز العالي ويتعلق الأمر بقضية ” قائد الدروة ”  والذي استخف بالأمانة الملقاة على عاتقه وهي حماية الأفراد والسهر على أمنهم وسلامتهم ، وهنا تحول بقدرة السلطة إلى ” قائد للفوضى والغباء”  ودفن القانون بالحياء.

وكما تتبعنا جميعا مشاهد المسرحية على اليوتوب، وما صرحت به ملهمته أن القائد هو من وضع العراقل والمتارس في طريقهم وزاد في تهديدهم وكذلك شن هجومه الخطيرعليهم بالتبليغ عليهم واعتقال زوجها واتهامه بأبشع الاتهامات .

والحقيقة هذه الواقعة جد خطيرة لأنها جد مركبة يتداخل فيها انحراف سافر عن القانون وخاصة قانون التعمير الذي لازالت الداخلية تتحكم فيه وتستخدمه كأداة من أدوات الضبط والتحكم في المجال والإنسان وهو مجال يسمح لأعوان السلطة للتلاعب وابتزاز المواطنين وهو ماوقع في هذه الواقعة  بما يطلق عليه “بالشطط في استعمال السلطة ” مما يجعل دائما مدننا وأحياءنا مجرد مقابر للدفن وليس للحياة. 

بالنسبة للانحراف الثاني وهو انحراف أخلاقي ويتجلى في انعدام الضمير سواء تعلق بالقائد الذي أعطى القسم يوم تخرجه من مدرسة تكوين الأطر بالقنيطرة وسواء المواطن الذي يريد تذكرة الركوب إلى القطار بالمجان على حد تعبير كارل ماركس دون احترام معايير البناء وجمالية الهندسة المعمارية والتي تعيش أسوء أيامها بالمغرب، كما أن الضحية لم يسلك طريق القانون  لمواجهة القائد وإنما استعمل وسائله الخاصة وهي التشهير والإعلام الافتراضي ، وهذا يجعلنا نطرح السؤال المرير: أليس هذا أكبر مس بهبة الدولة عندما يتم الاستغناء على مؤسسات الدولة وخصوصا القضائية للمطالبة بالعدالة واللجوء إلى مؤسسة اليوتوب وقضاته من الجمهور الغفير ؟

حالة أخيرة وهي ستبقى وصمة عار على جبين السلطة بالمغرب ورجالها وهو ما حدث مع بائعة الحلوى والبغرير والتي لا تحمل سلاحا ولا متفجرات وإنما خبز وبغرير أبيض والذي تحول أسودا عندما همت بقرع  أبواب السلطة لإنصافها من القوات المساعدة وتم إغلاق  كل منافذ الأمل والحياة في وجهها، ولم يبقى لها سوى الموت انتحارا ملاذا للتحرر من عبودية السلطة التي لازالت تصنع الموت بإهمالها وشططها .

وهنا لن نطالب بفتح تحقيق في هذه الواقعة بصراحة لأنها لاتستحق ذلك مادامت ليس وراءها حزب غوغائي يعتبرها شهيدة يبني بها مجده النضالي ولاتنتمي إلى عائلة لها أسمها من الماركات المسجلة بالمغرب التي تخيف وتزعج السلطة ولا من نساء المغرب التي تظهر صورها في الإعلانات والجرائد والشاشات وإنما مجرد بائعة خبز ..بائعة حياة ..للفقراء من جنسها ومن لحمها وذمها مشكلتها أنها تحمل بطاقة تعريف عليها اسم بلدها العزيز عليها اسمه المغرب. 

وهنا في هذه الواقعة  وغيرها من الوقائع  المؤسفة و المحزنة، أجدني أتعاطف مع رجال السلطة لسبب بسيط هو أنهم لايملكون فعلا حلولا للمآسي الاجتماعية التي تخيم على المغرب وليست بيدهم سلطة القرار التنموي والذي يبقى بين يدي الحكومة والتي تتحمل المسؤولية كاملة في التراجع الخطير في السياسات الاجتماعية، إلا أنني لن أتعاطف مع السلطة  وأحملها المسؤولية كاملة في غلق الباب على المواطنين واستغلال بؤسهم من أجل قضاء أغراضهم الشخصية البئيسة والتعامل معهم بقسوة وبدون رحمة من الفوق دون النزول عندهم والإحساس بهم وبظروفهم وعوزهم . واستعمال السلطة لايجب أن يكون أداة للدفع بالناس للموت بل وجدت لخدمة الناس الغني منهم والفقير .الم يقول الحكماء من العرب  قديما : ” قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق ” .