يفاجئنا، بل يدهشنا الواقع المغربي الحالي بأحداث قد تُعتبر المحك الأساسي لما يُعرف بدولة “الحق والقانون”. أكثر من هذا يُقدم لنا واقعنا يوميا شهادة إثبات على السباحة في اتجاهين للمجتمع المغربي برمته ولمن كُليفوا بتسيير وتنظيم هذا المجتمع سواء أكانوا إداريون أو رجال أمن أو سياسيون، أي كل من يحمل رمز ومسؤولية السهر على تطبيق “الحق والقانون”. الجوع الوجودي والنفسي للفئات الإجتماعية، وبالخصوص العريضة منها، لتطبيق هذا المبدأ أكبر وأسرع مما توفره الدولة، ممثلة في إداراتها ومصالحها المختصة.

 سيكولوجيا، وعلى الرغم من كل الإحتياطات والقرارات والقوانين التي شرعتها الدولة عندنا لضبط استعمال الشطط والمحسوبية والزبونية وتقديم العلاوات والرشاوي، تسبح الدولة المغربية في تركبة نفسية لم تبارح إلا ببعض الخطوات المحتشمة نمط التسيير السلطوي لأمور البلاد والعباد. لم تُفهم السلطة في دهاليز الدولة كتكليف من طرف الشعب، بل تُمارس في مفهومها الإرستقراطي كحق مطلق في إدارة أمور الشعب حسب هوى الممثل الشرعي للدولة، كيفما كانت وظيفته وأهمية ما يقوم به. وهنا بالضبط نلمس عمق الشرخ النفسي الحاصل بين الدولة ومواطنيها: يتتوق المواطن إلى إدماجه نفسيا واجتماعيا واقتصاديا في مجتمع عادل، أي تضبطه قوانين وتشريعات، وتتنصل الدولة لكل ما شرعته وقننته بممارسات يومية علنية. ولا غرابة والحالة هذه أن يحدث “اصطدام” بين الشعب والدولة، بما أن هذه الأخيرة لا تستطيع مسايرة التغيير النفسي والإجتماعي لمواطنيها، بل تعمل كل ما في وسعها على مقاومة هذا التطور في الذهنيات، ولو على حساب أمنها القومي، بل حتى وجودها.

إذا رجعنا لنموذج دنيا بوطازت، خصامها مع مواطنة أخرى، وبعيدا عن أي حكم قيمة، فإننا نجد فيه تربة خصبة لتحليل نفسي عميق للأساس النفسي لدولة “الحق والقانون” في تمثل المواطن وتصور وممارسة الدولة

 من الإشكاليات الخطيرة التي قد تعتبر مؤشرا حقيقيا على هذا النوع من الفُصام في التركبة النفسية للدولة هي واقعة قَسَم المسؤول السياسي أمام العلن على عدم تراجعه على قرار من قراراته، حتى وإن اعتبرت فئة اجتماعية هذا القرار ظالم ولا يخدم لا المعنيين بالأمر ولا الوطن برمته، كما حدث في ملف الأساتذة المتدربين. فتعنت الحكومة في مثل هذه الحالات هو مؤشر حقيقي على أنها تعيش في واد ويعيش شعبها في واد آخر. عندما تختار حكومة ما طريق التصعيد ضد شعبها بسبب قضية من القضايا، كيفما كان نوعها وأهميتها، فإنها لا تعبر إلا على بُنية نفسية غير مستقرة، قوامها السيطرة، ليس بقوة القانون، بل بقانون القوة. وبهذا فإنها تعطي للمواطن تَمثُلا خاصا عنها، فالصورة الذهنية والوجدانية التي يحملها المواطن عن حكومته هي نتاج هذه الأخيرة أولا وأخيرا.

 إذا رجعنا لنموذج دنيا بوطازت، خصامها مع مواطنة أخرى، وبعيدا عن أي حكم قيمة، فإننا نجد فيه تربة خصبة لتحليل نفسي عميق للأساس النفسي لدولة “الحق والقانون” في تمثل المواطن وتصور وممارسة الدولة. رمزيا، تُعتبر الإدارة التي قصدتها بوطازوت “ممثلة” شرعية للدولة وسلطتها. نظريا على الأقل كل المواطنين سواسية أمام القانون في قضاء مآربهم الإدارية. ما حدث ليس خطأ بوطازت ولا تلك المواطنة الشابة التي دخلت معها في صراع. الخطأ، كل الخطأ للإدارة/ممثلة الدولة التي تسببت في “تناطح” مواطنتين. قد تكون بوطازت استغلت هذا الوضع غير الصحي لتعبر للمواطنة بأنها تسبح في فلك السلطة القائمة وبأن العدوانية واستعمال الشطط يدخل في ميدان فنها. وقد يكون منطق الشابة منغمس في ثقافة اجتماعية جديدة كل الجدة على الدولة: المطالبة بالمساوات في الحقوق والواجبات وهدم سور المحسوبية وتفضيل مواطن عن مواطن آخر. أكثر من هذا، عندما نعمق التحليل يتجلى لنا واضحا التكتيك اللاواعي للدولة في “صناعة” وإنتاج الحقد المجتمعي وصراع المواطنين على رموز فارغة. بهذه الإستراتيجية التي تعتبر جوهر السلطة المتسلطة (بما في ذلك الطوطاليرية) تنجح الدولة في أبسط مثال في زرع التفرقة والصراع في المجتمع، خالقة بذلك جوا اجتماعيا مشحونا. لكن هذه الإستراتيجية القديمة خاسرة في عمقها، لأنها لم تنتبه، أو لا تريد الإنتباه، بأن العقليات تتطور يوميا عند الشعب، وبأن هذا الأخير قد وصل إلى حد أدنى من الوعي بدولة “الحق والقانون”.

 إضافة إلى كل هذا، فإن هذه القضية تفضح بما فيه الكفاية الحقيقة المرة التي تختبأ وراء دولة “الحق والقانون”. إنه الكيل بمكيالين فيما يخص تطبيق القانون. إذا استحضرنا للذهن الطريقة التي تعامل بها المرء مع أبيضار عندما تعرضت للإعتداء وخصومة بوطازت مع مواطنة شابة، فإننا نجد بأن كرامة “الفنانة المنبوذة” أبيضار كانت مُستباحة، بينما عملت السلطات على “النفخ” في كرامة بوطازت، ليس فقط بإسعافها بل بتقديمها كضحية، بينما أسدل الستار على المواطنة الشابة،وحتى ذويها لم يعرفوا إلى حد كتابة هذه السطور بأي قسم شرطة أودعت ولا بأية جروح أصيبت. هذا التعامل التفضيلي للسلطات لطرف ضد الطرف الآخر، دون أية محاكمة، أثار زوبعة في الشارع العمومي وهي زوبعة صحية من الناحية النفس-الإجتماعية، لأنها توثق لوعي المواطن بضرورة تطبيق مبدأ “الحق والقانون”.