عقيدة اسمُها الإسلام.. تهافت بلقزيز..
بتنظيم من مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” بالرباط، التابعة للإمارات العربية المتحدة، وفي محاضرة تحت عنوان:”الدعوة والدعاة: مقدمات نقدية”، بدأ عبد الإله بلقزيز حديثه حول طموح استعادة الخلافة الإسلامية، الذي يراود جماعات وتنظيمات “إسلامية”، ليس سوى طوبى وتفكير خيالي لا يمكن الوصول إليه يوما! بحسب تعبيره.
آراء أخرى
مؤسسة “مؤمنون بلا حدود”، هي (مؤسسة للدراسات والأبحاث، تأسست في ماي 2013، تُعنى بتنشيط البحث المعرفي الرصين في الحقول الثقافية والمعرفية عموما، والدينية خصوصا. وتتكرس اهتمامات المؤسسة على دراسة منظومة الأفكار المؤسسة للعقل الثقافي الكلي في المنطقة العربية والإسلامية).
وهي (مؤسسة دراسات وأبحاث: تسهم في خلق فضاء معرفي حر ومبدع لنقاش قضايا التجديد والإصلاح الديني في المجتمعات العربية والإسلامية، وتعمل على تحقيق رؤية إنسانية للدين منفتحة على آفاق العلم والمعرفة ومكتسبات الإنسان الحضارية، وخلق تيار فكري يؤمن بأهلية الإنسان وقدرته على إدارة حياته ومجتمعاته متخطياً الوصايات الإيديولوجية أو العقائدية).
هكذا تعرف المؤسسة ذاتها، وتشرح للناس أنها تعمل على تحقيق رؤية إنسانية للدين الإسلامي. رؤية متخطية ومتجاوزة للوصايا الإيديولوجية أو العقائدية.
وفي هذا الإطار جاءت محاضرة بلقزيز حول طموح استعادة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، المرتبطة أساسا بالوصايات والتوجيهات العقائدية بوعد الله للمؤمنين بالإستخلاف في الأرض والتمكين لدين الله. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)..
الوعد الإلهي المراد تجاوزه ما جاءت به البشرى النبوية “ثم تكون خلافة منهاج النبوة”..
البشرى النبوية التي هي جزء من معتقدات المسلمين وعربون إيمانهم العميق أن ما جاء به رسول الرحمة للعالمين حق وصدق، جاءت في ثلاث روايات:
ـ رواه الإمام أحمد بسند صحيح: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”.
ـ روى للإمام أحمد، أيضا، بالسند الصحيح أن رسول الله عليه وسلم قال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة”.
الدعوة عند بلقزيز (انتهت باكتمال النصّ القرآني الذي تتجسّد فيه لا في آراء البشر، وهي فِعل نبوي صِرْف لا يشاركه فيه إنسان، وهي وظيفة نبوية لا يخلف فيها أحد النبيّ، ومَن ينتجها (الدعوة) لنفسه إنما يَزعم أن النبوة مستمرة في التاريخ، وهو ما يضعه في تناقض مع الإسلام
وفي رواية نقلها الإمام الشاطبي أن البزار روى بسند حسن صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن أول دينكم نبوة ورحمة. وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي، ويلقى الإسلام بجرانه في الأرض (ينتشر ويتمكن)، يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدرارا، ولا تدع الأرض من نباتها وبركتها شيئا إلا أخرجته”.
البشرى النبوية في عمقها لا تبشر الأمة بما هو قادم وتحفزها للعمل من أجل ذلك فقط، بل تضرب في عمق الأنظمة القائمة وترفع عنها غطاء الشرعية الدينية، التي ما فتئت توظفها ضد معارضيها، لذلك فمهمة هذه المؤسسة ومن على شاكلتها، هو محاولة ضرب هذا المعتقد لدى المسلمين، كون هذه الأنظمة جبرية ولا شرعية لها مع وجوب إسقاطها لإقامة الموعود النبوي.
الخلافة الإسلامية ليست طموحا طوباويا صعب المنال والتحقق، بل هو قدر، كما كان القدر الأول، الخلافة الراشدة الأولى فالملك العاض فالملك الجبري، ولا راد لقضاء الله وقدره.
وبالعودة إلى أهداف المؤسسة المحتضنة يتبين أن الهدف هو: تحقيق رؤية إنسانية للدين متخطياً الوصايات الإيديولوجية أو العقائدية. ولن تتحقق هذه الرؤية إلا بضرب معتقدات المسلمين.
نعود لموضوع محاضرة بلقزيز..
ينطلق بلقزيز من كون الجماعات والتنظيمات الإسلامية هي أحزاب مذهبية وليست إسلامية، هدفها سياسي ولا علاقة لها بالدعوة، التي يعتبرها مهمة نبوية انتهت بانتهاء النبوة، وما جاء بعدها إنما هي فتوحات عسكرية توسعية، ف(لم يكن من أهداف الفتح نشر الإسلام،لأنّ الجهاد هو مؤسسة سياسية وليس مؤسسة دينية، وهو بمثابة الحركات العسكرية الحالية). وأضاف أن (الفتوح الإسلامية لم يكن هدفها القيام بالدعوة على المنهج النبوي الذي يدعو إلى اعتناق الإسلام، “بل كان هدفها سياسيا”)!
والملاحظ في هذا الإدعاء أنه يخلط ما بين الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، بالشهادة النبوية، وبين الملك العاض، الذي سماه مؤرخو الاستبداد زورا بالخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا، وبالتالي فهو يطعن مباشرة في نية الفاتحين من الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، وعلى رأسهم أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي فتح بلاد فارس.
قد نتفق مع الأستاذ بلقزيز في تسجيل ملاحظات ضد سلوكات صاحبت الفتوحات التي وقعت خلال العهد الأموي وبعده، لكن أن نتحدث عن الفتوحات بإطلاق فهو الاتهام المباشر لنيات الصحابة الراشدين الكرام، رضي الله عنهم، والطعن في الشهادة النبوية في حقهم.
“يظهر هذا الخلط في قوله: “لا إكراه في الدين حقيقة، فليس هناك مؤرخ أشار إلى واقعة تثبت إكراه المسلمين لغير المسلمين في الدين.. الإكراه كان يقع داخل الإسلام، حيث يجري الإكراه على اعتناق مذهب معيّن، كأن يُفرض التسنّن على الشيعة، أو أن يُفرض التشيّع على السّنة”!..
فعلى عهد الدولة الراشدة على منهاج النبوة، لم يكن هناك ما عرف بعد ذلك بالسنة والشيعة، إذ ظهر مطلح “السنة والجماعة” على عهد الملك العاض في بدايته، وهو كان شعارا لضرب المعارضة التي أعلنت تشيعها، بمعنى مساندتها، لقومات آل البيت عليهم السلام.
الأستاذ بلقزيز، ولكي يعطي لفكرته مصداقية، يضرب مثلا بنموذج الدولة الموحدية، إذ إنّ المهدي بن تومرت حين ذهب إلى بغداد ودرس هناك، وأتى بمشروعه السياسي لإقامة الدولة الموحدية، كان المغرب زاخرا بالمذاهب، مثل الزيدية والشيعة والإسماعيلية والاثنا عشر… وغيرهم، موضحا: “ابن تومرت لم يمسّ شعرة يهودي واحد، لكنه أباد جميع المذاهب الأخرى وفرض مذهبا رسميا، وهذا يعني أنّ الإكراه كان داخل الإسلام وليس بين الإسلام وغيره من الأديان”.
الأستاذ بلقزيز حين يتهم الفتوحات الإسلامية كونها لم تكن بنية نشر دعوة الله واتهام الجماعات والتنظيمات الإسلامية كون هدفها سياسي، يعتبر أن الدعوة انتهت بانتهاء النبوة. هذا الادعاء في حد ذاته ضرب في معتقدات المسلمين، التي جاء بها الكتاب وجاءت بها السنة المطهرة، وهو ما ينسجم مع أهداف المؤسسة التي احتضنت محاضرته.
الآيات التي تحرض على الدعوة كثيرة، منها قول الله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، وقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)
أما الأحاديث فلا حصر لها. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فيما رواه البخاري: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).
مهمة التبليغ عن الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، لم تنتهي وتسقط بانتهاء النبوة، بل كانت، وستبقى، امتدادا لها إلى يوم القيامة.
في الحديث الذي رواه أبو داود والبيهقي والحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
لماذا، إذن، يبعث الله للأمة، على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها، إذا كانت الدعوة انتهت بانتهاء النبوة؟ لماذا هذه النخبوية، كما ذكر بلقزيز في محاضرته، في ابتعاث من يجدد للأمة دينها؟
أليس العلماء ورثة الأنبياء؟ أليس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، القائل: “إن العلماء ورثة الأنبياء. إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” رواه الترمذي وصححه الألباني..
فالدعوة عند بلقزيز (انتهت باكتمال النصّ القرآني الذي تتجسّد فيه لا في آراء البشر، وهي فِعل نبوي صِرْف لا يشاركه فيه إنسان، وهي وظيفة نبوية لا يخلف فيها أحد النبيّ، ومَن ينتجها (الدعوة) لنفسه إنما يَزعم أن النبوة مستمرة في التاريخ، وهو ما يضعه في تناقض مع الإسلام، ويضعه في موقع مغتصب حقّ صاحب الدعوة (النبي)! حيث اعتبر الدعاة في موقع مغتصب حق صاحب الدعوة وهو النبي صلى الله عليه وسلم، معتبرا الدعاة إيديولوجيون! وهو ما جسده بلقزيز في قوله: “الدعاة يدعون إلى آرائهم في الدين وليس إلى الدين”.
بمعنى أن دعوة الدعاة لا علاقة لها بالدعوة النبوية، وما يدعوا إليه الدعاة لا علاقة له بما دعا إليه صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أن الأخذ بالميراث النبوي، لا يكون بغير ممارسة مهمة الأنبياء وهي الدعوة.
يقول: (الفتوح الإسلامية لم يكن هدفها القيام بالدعوة على المنهج النبوي الذي يدعو إلى اعتناق الإسلام، “بل كان هدفها سياسيا”)!
القول بأن المنهاج النبوي كان يدعو إلى اعتناق الإسلام، هو اتهام بإرغام الناس على اعتناق دين الإسلام، والحقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الراشدين من بعده، أرغموا أحدا على اعتناق دين الإسلام، بل كان دعوة الناس لدين الله تحبيبا وترغيبا لا إكراها في الدين وترهيبا، والتاريخ يشهد أن أول من استفاد من نظام التقاعد شيخا يهوديا، كان مواطنا بلغة العصر من مواطني الدولة الإسلامية الخلافية الأولى الراشدة،على عهد الخليفة الراشد، أمير المؤمنين، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا مجال هنا لسرد الأمثلة الكثيرة التي بقيت صفحات ناصعة من تاريخ الدولة الإسلامية الخلافية.
الأستاذ بلقزيز يعتبر أن “ما بعد النصّ القرآني ليس من شأن غير العقل، الذي هو سلطة معرفية لتدبّر النص وفهمه وسبر أغواره، وما بعد الدعوة النبوية هو رأي، ورأي الدعاة ليس مُلزِما للمسلمين، بل هو اجتهاد أفضى إليه التفكير البشري”..
والاجتهاد الذي يعتبره بلقزيز تفكيرا بشريا، هو الطموح من أجل إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، التي يعتبرها فكرة طوباوية صعبة التحقق!
فكرة بلقزيز لا تختلف عن فكرة توفيق بوعشرين، إلا أن بلقزيز تحاشى ذكر دعوة جماعة العدل والإحسان إلى إقامة الخلافة، مكتفيا بذكر حزب التحرير وداعش!!!
إيديولوجية بلقزيز أغابت عنه، ما يراه طموحا طوباويا صعب التحقق، أن 22 في المائة من سكان العالم، أي مليار و400 مليون نسمة، يدينون لرئيس واحد بالصين الشعبية. وتناسى أو تجاهل أن هناك خمسين ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية تختلف قوانينها وتدبر شؤونها ذاتيا، لكنها تستطيع تنصيب رئيس واحد! ونسي أو تجاهل كيف أُسقطت الحدود في الاتحاد الأوربي، فأصبحت كدولة واحد، يتجول فيها المواطن الأوروبي بكل حرية وأريحية، وكيف أقامت أوروبا سوقا مشتركة… من حسن حظ الصين الشعبية والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي أن ليس فيهم مثل هذا الفكر، وإلا لتم تشتيت أوصالهم تاريخا وجغرافية واقتصادا.
بل تناسى أو تجاهل، أن المسلمين أقاموا دولة واحدة لهم جمعت شملهم، رغم كل المآخذات على تلك الدولة التي سميت زورا خلافة أموية وعباسية وعثمانية، وأقاموا حضارة ونشروا علوما، تعتبر اليوم أساسات الحضارة الإنسانية، وما وصل إليه العقل البشري الغربي.
فما الذي يمنع المسلمين عن إقامة دولة واحدة لهم؟ أم إن بناءها على ضوء المعتقدات الصحيحة هو المشكل عند القوم؟