عندما نتحدث عن أزمة البلقان فإننا نخص بالذكرشبه الجزيرة التي عرفت سلسلة من التوترات بمجرد انسحاب العثمانيين منها، وواحدة من المناطق التي عرفت أخطر الصراعات التي عرفتها البشرية في القرن العشرين وأكثرها تعقيدا بالنظر إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي الواقع في الجزء الجنوبي-الشرقي من أوربا والمطلة على الأناضول والبحر الأسود وبحر إيجا شرقا والبحر الأدرياتيكي غربا والبحر الأبيض المتوسط جنوبا، وبالنظر لتمركز معظم الصراعات التي طالتها حول المعطى الاثني والديني المتنوع والمتكون أساسا من السلاف الأرثودوكس والمسلمين البوشناك والكاثوليك  الكروات وقوميات أخرى.

وتكمن خطورة صراعات البلقان في كونها السبب المباشر في اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وما مثله ذلك من انخراط مباشر للعديد من المحاور والدول، حيث لعبت الورقة العرقية إلى جانب الأطماع الاستعمارية دورا محوريا في إذكاء النزاعات سواء بحجة الدفاع عن هذا المكون العرقي أو ذاك كما هو حاصل بالنسبة للتدخل الروسي بحجة الدفاع عن السلاف الأرثودوكس أو الأتراك بحجة الدفاع عن المسلمين أو الألمان بحجة الدفاع عن المجريين والنمساويينالأقرب ثقافيا وهوياتيا ضد الصرب السلاف…الخ.

وكنتيجة لذلك أن كانت لأزمة البلقان تداعيات خطيرة وطويلة الأمد ليس على الدول المشكلة لشبه الجزيرة فحسب، بل انعكست نتائجها الكارثية على المحيط الأوربي برمته وألقت  بظلالها على العلاقات الدولية في مجملها، وقد ترجمت عمليا إلى إعادة رسم للخرائط السياسية و الجغرافية للقارة، كما  نتج عن ذلك  ثورات ورجات متتالية استمرت لعقود وألقت بثقلها سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر صراعات دموية أكثر كارثية ودموية سواء من خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أو حرب البوسنة والهرسك (1992-1995) بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد اليوغسلافي، ولا زالت رواسبها بادية لحدود الساعة الشيء الذي يمكن أن نسميه بالبركان الخامد الذي من شأنه أن يلقي بحممه في كافة الأرجاء و في أي وقت بالنظر لاستمرارية عوامل و  بذور الصراع  الاثني والهوياتي بالأساس.

مخاطر الصراع السوري لا تكمن فقط في حجم الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي نجمت عنه والتي لازال الوقت مبكرا لجردها وإحصاءها فقط، بل تتعداه إلى كونه لن يبقى منحصرا في الحدود الجغرافية للدولة السورية كما حددتها اتفاقية “سايكس بيكو”

يبدو أن نفس المشهد يمكن أن يتكرر الآن في منطقة الشرق الأوسط على الرغم من اختلاف الرقعة الجغرافية والسياق التاريخي، وقد بدأ ذلك يتبلور عمليا من خلال الصراع السوري المحتدم منذ أزيد من 5 سنوات والذي يزداد تعقيدا يوما بعد يوم، سواء بسبب كثرة الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة بشكل مباشر أو غير مباشر في الصراع كروسيا، إيران، حزب الله اللبناني، تركيا، قطر، السعودية الولايات المتحدة…الخ. وبالنظر لحسابات المصالح السياسية ولتوفر ذات العوامل المساعدة على تأجيج الصراع وزرع الأحقاد وروح الانتقام كما كان حاصلا بالنسبة للبلقان، والتي قد تمتد لعقود من الزمن على أقل تقدير وقد تسهم في تقويض أي أسس للعيش المشترك مستقبلا، أي العوامل العرقية والطائفية (كالمكون السني المناهض في عمومه للحكم القائم و المكون العلوي الموالي للنظام والتركماني الأقرب إلى تركيا والكردي الطامح إلى انشاء كيان مستقل و الأشوري والدرزي والشركسي و اليزيدي…الخ) وانخراط هذه المكونات ضمن أحلاف ومحاور إقليمية ودولية بما يخدم مصالحها الآنية بعيدا عن أي رؤية استشرافية للمستقبل الذي يبدو قاتما.

مما لا شك فيه أن مخاطر الصراع السوري لا تكمن فقط في حجم الخسائر المادية والبشرية الهائلة التي نجمت عنه والتي لازال الوقت مبكرا لجردها وإحصاءها فقط، بل تتعداه إلى كونه لن يبقى منحصرا في الحدود الجغرافية للدولة السورية كما حددتها اتفاقية “سايكس بيكو”  (1915-1916) على الأرجح، بل قد يتعداه ليشمل المحيط الإقليمي والدولي بالنظر لانخراط تنظيمات مختلفة وقوى دولية بشكل مباشر كروسيا المنخرطة مباشرة في الصراع و التي تحاول جاهدة الدفاع عن موطأ قدم لها على المياه الدافئة شرق المتوسط وعلى مقربة من مضيق البوسفور الاستراتيجي، وإيران التي تدافع باستماتة عن حليفها بشار الأسد بناءاً على خلفيات طائفية واضحة، أو احتمالية تورط دول أخرى في مجريات الصراع في أي وقت كتركيا بسبب المكون الكردي المتاخم لحدودها الجنوبية و الذي تعتبره امتداداً لتنظيم PKK أو السعودية عبر محاولة حماية الأغلبية السنية  أو ربما الناتو باعتباره ملزما بالدفاع عن عضو أساسي في الحلف أي تركيا في أي حرب مباشرة محتملة، هذا دون أن ننسىدور الجانب الإسرائيلي في معادلة الصراع المعقدة والمعني بعدم تسخين جبهة الجولان على حدوده الشمالية فضلا عن السعي إلى تسوية حسابه المفتوح مع حزب الله اللبناني وتحييد قدراته الصاروخية المتعاظمة، كما لا يمكن إغفال أن الأزمة السورية قد جعلت أوربا طرفا مباشرا في الصراع نظرا لأزمة اللاجئين المتفاقمة التي تسببت في إحداث شرخ واضح في أوساط قادتها على خلفية نظام الحصص المتعلق باستقبال اللاجئين، الشيء الذي ينذر بنسف بفضاء شنغن (Schengen)  في مقابل تبني سياسة أكثر حمائيةً و انغلاقاً من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي.

إن الأزمة السورية التي يمكن اعتبارها  من أخطر الصراعات المسلحة في القرن 21، بالقدر الذي ينكشف من خلالها ضعف ومحدودية الهيآت المختلفة المنبثقة عن الأمم المتحدة وبشكل خاص مجلس الأمن الدولي في إيجاد حل سلمي ينهي المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب السوري ويلبي الحد الأدنى من متطلباته في الحرية و العدالة و الديمقراطية ويقوم بحماية السلم و الأمن الدوليين، بالقدر الذي يتأكد معه يوما بعد يوم أن اللاعبين الأساسيين والضابطين لإيقاعات الصراع ينحصران  في الولايات المتحدة و روسيا، وبأن أي  نهاية لقصة النزاع  التراجيدي المحتدم لا بد من أن تكتب فصولها على يد القوتين العظميين  بما يخدم مصالحهما الاستراتيجية ،بغض النظر عن حجم المأساة أو عدد الضحايا و اللاجئين أو جدلية الظالم و المظلوم أو القيم الإنسانية الكونية.