الداروينية ليس هكذا اسمها، اسمها نظرية التطور، إنها نظرية علمية وليست مذهبا دينيا، فهي لما لا مست عقائد حراس المعابد سموها الداروينية على عادة تسميات الطوائف الدينية المخالفة، فتسمعها فيخيل لك أن دارون الذي قضى ثلاثين سنة متنقلا بين الجزر مخاطرا بحياته ليس عالم أحياء ولكنه رجل دين له طائفة .

لم يحدث لنظرية علمية أن حام حولها الجدل مثل ما وقع لهذه النظرية العلمية، إنها تعرضت للخلط والتشويه من طرف رجال الدين بكل أطيافهم المركزون منهم والمخففون، فلا يعادلها في المقت إلا فكرة العلمانية . فكل ما يعرفه الناس عن دارون هو أنه قال بأن أصل الإنسان قرد. وأنا نفسي قضيت سنين من حياتي على هذا وهكذا كنت أعتقد وبه جادلت، لكن لما خرجت من الجبة بحثت عن أين قالها داروين فلم أعثر عليه إلى اليوم ، فلعله قالها في نفسه لا في كتبه.. فتفسير هذا وسنتحدث عنه في حينه أن الفكر الديني عندنا في فترة ما كان مجبرا على الكذب والتلفيق ليطمئن العوام حتى لا تتسل إلى عقولهم نظريات العلوم، لكن الأمور بدأت تنكشف وعما قريب سيصبح بمستطاع الشباب بما تتيحه التقنية أن يصل للمعلومة ويتحول الممدوحون إلى مقبوحين .

تعتبر الداروينية من أكثر النظريات جدالا ليس لاعتبار ما ذكرنا، ولكن الداروينية نظرية معتبرة في علم البيولوجيا لا يكذبها إلا من لا يريد أن يعرفها أصلا، أما المعاهد والجامعات العالمية المصنفة فتكاد تجمع على حجيتها واعتبارها، فابتداء من سنة 1871 أي بداية استعمال النظرية إلى اليوم لم يستطع عالم واحد هزها كما يقول راندال رغم أن داروين اشتغل فقط بما كانت تتاح له من إمكانيات في ذلك الزمن البعيد . فيكفي أن داروين يعتبر واحد من خمسة الأكثر تأثيرا في تاريخ أوروبا الحديث .

الفكر الديني عندنا في فترة ما كان مجبرا على الكذب والتلفيق ليطمئن العوام حتى لا تتسل إلى عقولهم نظريات العلوم

لم يقتصر عمل النظرية على علم البيولوجيا الذي هو مدين اليوم لدارون وتلاميذ دارون، ولكن النظرية ستمتد إلى المجالات السياسية والاجتماعية و النفسية، فالنسق العلمي البيولوجي كان حاسما في تفسير كثير من الظواهر والبواطن في السلوك الفردي والاجتماعي للإنسان .

ينقل جون لويس في كتابه الماتع الإنسان والارتقاء كيف أن البورجوازية في أوروبا اتخذت النظرية ذريعة للمنافسة الاقتصادية، باعتبارها المنهج الطبيعي لتحسين السلالات الإنسانية، فالصراع من أجل البقاء وحده يؤمن سير التطور الاجتماعي بشكل طبيعي، مما يؤدي إلى تعطيل الإصلاحات الاجتماعية. فقسوة المجتمع التي هي من المنافسة إنما تعزى للطبيعة القاسية نفسها .

لم تقتصر النظرية على هذا بل إن البحوث التي أعقبت موت دارون وما تم اكتشافه في عمليات المخ سيمكن من رصد مجموعة من السلوكيات، فاليد اليمنى كما في الثقافة الشرقية والغربية على الأقل كانت دليلا على الأخلاق النبيلة، وهذا لا تزال تحتفظ به غالب اللغات اليوم . فالأعمال الحميدة غالبا ما يتم إجبارنا ونحن أطفال على القيام بها باليمنى في حين تكون اليسرى أداة للأفعال القميئة، بل إنه في أوروبا في وقت مضى كانت تفرض غرامات على من يستعمل يده اليسرى في الأشياء النبيلة.

يعلق كارل ساجان صاحب كتاب في تاريخ الذكاء الإنساني وهو مشهور: لعل هذا هو السبب الرئيسي في حدة الخوف من الارتباط باليسار والشعور بالأمان والعظمة عند الارتباط باليمين.. فالمجتمعات البشرية غير محبة للإبداع فهي هرارقية طقوسية تواجه اقتراحات التغير بالشك .

في كتاب كولين تورنبول عن سكان الغابات يسرد المؤلف قصة عن فتاة كسيحة من الأقزام أعطاها عالم الانتروبولوجيا عكازا حديثا مما سهل مهمة تنقلها وشعرت معه بالتحسن، لكن والديها ظلا متوجسين من هذا السلوك . فالإنسان قضى ملاين السنين تحت نظام القبيلة والعشيرة مما اكسبه عبر الزمن حبا لما هو سائد وخوفا غير مبرر من التغيير والغرباء.

يعتبر مفهوم الطفرة مفهوما بيولوجيا غالبا ما يوظف لتفسير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فالمجتمع يسير في سكون طبيعي قد يستغرق عشرات السنين، لكن الطفرات تحدث مرة مرة فتكون نافعة وقد تكون ضارة. فنزوع الإنسان إلى ما هو عليه وراثي لكن الطفرة حادثة. فالإنسان بطبعه يحب السائد وله رغبة جامحة في الاحتفاظ بسلطة الآباء وهذا أشار إليه القرآن كم مرة، كما أن الإنسان غالبا ما ينظر إلى الماضي بنوع من القداسة، وهذه الخاصية غالبا ما تم استعمالها للاستقطاب بالنسبة للجماعات المحافظة وخاصة الجماعات الإسلامية في نظرتها الانتقائية لتاريخ المسلمين .

فالماضي نراه من بعيد نتخيله هادئا فلا يصلنا ضجيجه. يقول الرئيس الأمريكي إبراهيم لانكولن : ان توابث الماضي الهادئ لن تنفع في عواصف الحاضر .